الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 09:33 مـ 24 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    بحوث ودراسات السيرة والتاريخ

    مدح المستشرقين والمؤرخين الغربيين للسلطان الناصر صلاح الدين

    رابطة علماء أهل السنة

    رغم أن الحملات الصليبية بلغت ثماني حملات وامتدت على طول قرنين من الزمان، إلا أن شخصية السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي علقت في ذاكرة التاريخ الإنساني بتميز خاص، فذلك الرجل الذي لم يواجه سوى الحملة الصليبية الثالثة فحسب، ولم تكن مدة حكمه سوى عشرين سنة فحسب، استطاع أن يخلد في التاريخ الإنساني كواحد من أهم أبطاله.

    استمد صلاح الدين عظمته من أمور عدة، من أهمها: أنه حرر بيت المقدس من بعد قرابة قرن من احتلاله، ثم إنه صمد أمام جيوش أوروبا وأقوى ملوكها وحافظ على بقاء بيت المقدس بحوزة المسلمين، إلا أن الذي هو أهم شيء قاطبة ما أبداه من حسن الخلق ونبل الفروسية الإسلامية التي سحرت معاصريه ومن تبعهم من المؤرخين حتى اليوم.

    ولئن كثر الحديث عن صلاح الدين بين العرب لا سيما بعدما صار بيت المقدس أسيرًا، فإن مما لا يُنتبه له كثيرًا ما قاله المؤرخون الغربيون والمستشرقون عن شخصية صلاح الدين وأثرها في معاصريه، وكيف أنه انتصب نموذجًا للسلطان المسلم حين ينتصر في المعركة كأقوى ما يكون النصر، ثم يسيل سخاء ورحمة وحلمًا في التعامل مع العدو بعد أن صاروا مهزومين وأسرى، وهو الأمر الذي بدا مناقضًا لما فعله الصليبيون حين اقتحموا بلاد الشام والقدس فأقاموا فيها مذابح تاريخية، بل لم يفعله ملوك النصارى أنفسهم تجاه رعاياهم؛ فلقد كان صلاح الدين أرفق برعاياهم منهم.

    مجالات الكتابة الاستشراقية عن صلاح الدين

    لقد كتبت العديد من الدراسات الغربية عن شخصية صلاح الدين، وتعددت وجوه التناول في هذه المؤلفات:

    فمنها ما أُفْرِدَ له كما ستانلي لين بول في كتابه «صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس»، وهاملتون جب في «حياة صلاح الدين»، ومالكوم ليونز وجاكسون في «صلاح الدين: سياسة الحرب المقدسة»، وتشارلز بوزلت في «صلاح الدين أمير الفروسية».

    ومنها ما جاء في فصول ضمن موضوعات أخرى، إما في تأريخ الحروب الصليبية كما هو المتوقع من كل مؤرخ يتعرض لهذه الفترة، وإما في التأريخ لمدينة القدس كما فعلت كارين أرمسترونج في «القدس: مدينة واحدة وثلاث عقائد»، أو في التأريخ لمدينة القاهرة كما عند ستانلي لين بول في «سيرة القاهرة» وأولج فولكف في «القاهرة: مدينة ألف ليلة وليلة» وجاستون فييت في «القاهرة: مدينة الفن والتجارة».

    ومنها ما جاء عرضًا ضمن استعراض تاريخ الإسلام وحضارته مثلما فعل ول ديورانت في «قصة الحضارة»، وجوستاف لوبون في «حضارة العرب»، وكارل بروكلمان في «تاريخ الشعوب الإسلامية»، ومايكل مورجان في «تاريخ ضائع»، وغيرهم.

    ومنها ما جاء عرضًا في سياق مناقشة العلاقة بين الإسلام والمسيحية مثلما فعل مكسيم رودنسون في «الصورة الغربية والدراسات العربية والإسلامية».

    ومنها ما ركز عليه كنموذج لتصحيح الصورة المشوهة عن المسلمين كما فعلت زيجريد هونكه في «الله ليس كذلك»، وتوماس أرنولد في «الدعوة إلى الإسلام».

    وقد تعددت القراءات لهذه الشخصية، فبعضهم أنصف حتى بالغ للغاية، وبعضهم حملته حقائق التاريخ على اختراع الأساطير التي تقول بأن صلاح الدين من نسل مسيحي وأنه مات على المسيحية، وما ذلك إلا لأنه لا يقبل ولا يتصور أن يكون صلاح الدين -بهذه الأخلاق- مسلمًا! وبعضهم لم تسمح نفسه بمدح صلاح الدين دون أن يطعن فيه.

    هذه السلسلة من المقالات تلقي الضوء على هذا الجانب الذي تندر الكتابة فيه، وهي تسرد بعضًا مما جاء من مدح صلاح الدين في كتابات المؤرخين الغربيين والمستشرقين كنوع من شهادة الخصوم «وشهد شاهد من أهلها»[1]، وسيبدو كيف كان تقدير المؤرخين الغربيين عظيمًا لصلاح الدين، حتى من تعصب منهم كانت مناوراته ومحاولاته لسلب صلاح الدين من الإسلام في حد ذاتها دليلاً على هذا التقدير.

    السلطان المثير للإعجاب

    تنوعت جوانب الإعجاب التي أثارها السلطان الناصر في نفوس المستشرقين، إلا أن تعامله مع المغلوبين حين حرر بيت المقدس وأخلاقه في الحرب مع ريتشارد قلب الأسد كان لها نصيب الأسد من ذلك الإعجاب، وقد اخترنا من وجوه الإعجاب هذه سبعة أوجه فحسب.

    قوة الشخصية وولاء الأتباع

    يقرر المستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول، وهو صاحب أول سيرة واقعية كاملة غربية لصلاح الدين في نهاية دراسته عنه أن «كل قوة المسيحية المركزة في الحملة الصليبية الثالثة لم تستطع أن تهز سلطة صلاح الدين. من الممكن أن يكون جنوده قد تذمروا طوال الأشهر من الخدمة الصعبة والخطرة، سنة بعد سنة، ولكنهم لم يرفضوا أبدًا طلبًا له للحضور وقدموا أرواحهم في سبيل تنفيذ غايته. أتباعه في الأودية البعيدة كنهر دجلة لربما تأوهوا لطلباته الدائمة، ولكنهم قدموا خدمهم بإخلاص تحت رايته. أخيرًا في موقعة أرسوف الأخيرة أظهرت فرقة الموصل شجاعة فائقة وعظيمة. خلال جميع هذه الحملات المتعبة كان صلاح الدين دائمًا يعتمد على الفرق الوافدة من مصر ووادي الرافدين، كما اعتمد على فرق من شمالي وأواسط سورية من الأكراد والتركمان والعرب والمصريين، كلهم مسلمون وهم خدمه عندما يدعوهم بالرغم من الفروق في أعراقهم وغيرتهم الوطنية وفخارهم القبلي، فقد جمعهم كلهم كفريق واحد – ليس بصعوبة لكن لمرتين أو ثلاث بحساسية متشككة. بالرغم من تملص بعضهم في يافا فإنهم ظلوا جيشًا متحدًا تحت إمرته في خريف عام 1192م كما كانوا في أول مرة قادهم «في سبيل الله» عام 1187م. لم تسقط أية مقاطعة ولم يتخل رئيس ولا تابع عن الطاعة، بالرغم من متطلبات إخلاصهم وتحملهم كانت كافية لتجرب أقسى الإيمان وترهق قوة العمالقة»[2].

    الزهد والورع

    كتب المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد جيبون في موسوعته الشهيرة «تاريخ اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» أول صورة جميلة عن صلاح الدين في عمل علمي تاريخي غربي، فذكر في وصفه بأن «روحه الطموحة سرعان ما تخلت عن إغراءات اللذة لما هو أعظم خطرًا من الشهرة والسلطان: كانت ملابسه من الصوف الخشن، وكان الماء شرابه الوحيد، وكان في زهده مثالا في العفة[3]، وهو في إيمانه وسلوكه مسلم صلب، وكان دائم الحزن أن انشغاله بالدفاع عن الدين حرمه من الحج إلى مكة، كان محافظًا على الصلوات الخمسة يوميًا، يؤديها خاشعًا مع إخوانه، وإذا نسي فلم يصم حرص على الصدقة، وكان يقرأ القرآن على صهوة الخيل عند التقاء الجيوش، وربما نقل هذا على سبيل المبالغة كدليل على التقوى والشجاعة»[4].

    ويذكر مؤرخ الحضارة الأمريكي ول ديورانت أن صلاح الدين «كان يعامل خدمه أرق معاملة، ويستمع بنفسه إلى مطالب الشعب جميعها، وكانت قيمة المال عنده لا تزيد على قيمة التراب، ولم يترك في خزانته الخاصة بعد موته إلا دينارًا واحدًا؛ وقد ترك لابنه قبل موته بزمن قليل وصية لا تسمو فوقها أية فلسفة مسيحية»[5].

    ويفسر المستشرق الإنجليزي هاملتون جب إنجاز صلاح الدين بهذا الزهد، يقول: «لم يحقق هذا الأمر عن طريق القدوة التي تجلت في شجاعته وعزمه الذاتيين -وهما من سجاياه التي لا سبيل إلى نكرانها- بقدر ما حققه من خلال نكرانه للذات وتواضعه وكرمه ودفاعه المعنوي عن الإسلام ضد أعدائه وضد من ينتمون إليه في الظاهر فحسب، على حد سواء. ولم يكن صلاح الدين رجلاً ساذجًا لكنه، مع ذلك، كان غاية في البساطة ورجلاً نزيها لدرجة الشفافية. لقد أوقع أعداءه، الداخليين والخارجيين، في حيرة من أمره، لأنهم توقعوا أن يجدوا الحوافز التي تحركه على غرار حوافزهم، وتوسموا فيه أن يمارس اللعبة السياسية على طريقتهم هم. كان بريئًا كل البراءة»[6].

    ونستكمل جوانب إعجاب المستشرقين والمؤرخين الغربيين بالسلطان الناصر في المقال القادم إن شاء الله.

    [1] ولهذا تعتمد الورقة البحثية منهج العرض والوصف دون التفسير والتحليل إلا في أحيان نادرة، وأما سياق تحليل الرؤية الغربية لشخصية صلاح الدين وتفسيرها فنحيل فيها إلى دراسات وبحوث كلٍ من: كارول هيلينبراند وناصر عبد الرزاق الملا جاسم.

    [2] ستانلي لين بول، صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس، ترجمة: فاروق سعد أبو جابر، ط1 «القاهرة: وكالة الأهرام، 1995م»، ص287، 288.

    [3] تقول العبارة الأصلية «إنه في زهده أكثر عفة من نبيه – صلى الله عليه وسلم- » فآثرنا أن نستبدل بهذه المبالغة السفيهة الحمقاء ما أثبتناه في المتن.

    [4]  Edward Gibbon‏, The History of the Decline and Fall of the Roman Empire, »New York, J. & J. Harper, 1826«, Vol 6, pp 25, 26.

    [5] ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة: مجموعة، «القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2001م»، 15/44، 45.

    [6] هاملتون جب، صلاح الدين الأيوبي، تحرير: د. يوسف إيبش، ط2 «بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 1996م»، ص191، 192.

    الناصر صلاح الدين المستشرقين السلطان

    بحوث ودراسات