“السبع المثاني” وقوى الدفع الإنساني
الدكتور عطيّة عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةكم أنا ضعيف وبحاجة إلى ما أتعلق به وأعتمد عليه! أنا الإنسان مخلوق ضعيف لا قيام له بمفرده في هذا العالم، ما أكثر التحديات التي تواجهني والعقابيل التي تعترض طريقي، حتى طريقي لا يمكن أن أتعرف عليه وحدي ولا أن أمضي فيه بمفردي دون مُعين يعينني وهاد يهديني، لستُ قادرًا بمفردي على تفسير ما يجري حولي، ولا على التعاطي معه بما يجلب لي النفع ويدفع عني الضر، إنّني الإنسان الضعيف، لابد لي مما اتعلق به وأعتمد عليه، به أكون قويًّا فاعلًا، به أكون رقمًا في الوجود، وشيئًا له وزن في الحياة.
وفي المقابل أشعر من أعماقي بأنّ لديّ طاقة فطرية تملأ كياني، طاقة توجهني بقوة نحو الجهة التي لا غنى لي عنها؛ لأرتمي في أحضان عنايتها، سمّها “طاقة التعلُّق” أو سمّها ما شئت من الأسماء، لكنّ النزوع إلى التعلُّق والتفويض والاعتماد جوهرُها ومعدنها، إنّني أشعر بها تريد أن تنطلق، ثم تندفع، ثم تمضي بسرعة أمضى من شعاع الشوق، طاقة لا علاقة لها قطّ بالتواكل والسلبية، ولا بالأنماط الاستاتيكية، على العكس تمامًا؛ إنّها إيجابية ديناميكية محركة، خلاقة وثابة طموحة ناهضة ناهدة.
يأيّها الإنسان القابع في كياني المستكن في وجداني: إلى أين تتوجه بطاقتك الفوّارة هذه؟ لماذا أنت حائر تتلفت؟! أليس بين يديك كتاب نزل لإسعاد الإنسان؟ فتوجه – إِذَنْ – إلى القرآن لعلك تظفر بما يلبي هذه الطاقة وينميها ويفتح لها أفق الانطلاق الإيجابيّ السويّ؛ فافتح كتاب الله؛ لتجد نفسك وجهصا لوجه أمام أول آية في المصحف الشريف: (بسم الله الرحمن الرحيم)، أليست هذه الآية هي المحفزة لهذه الطاقة (طاقة التعلق)؟ أليست هي المفجرة لها والضابطة لبوصلتها؛ ففيم الحيرة والإبلاس؟!
وسواء أكانت (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من الفاتحة، أو كانت آية نزلت مستقلة للفصل بين السور؛ فإنّه بعد اتفاق العلماء على أنّها بعض آية في سورة النمل، وعلى ورودها في مفتتح ومستهل المصحف الشريف؛ لا يضرّ هذا الخلاف بموضوعنا؛ فهي قرآن، وهي كذلك تتصدر القرآن، وهذا يكفينا للقول بأنّ هذه الكلمة مفجرة لطاقة التعلُّق، وموجهة لها، ودافعة بها على الطريق الصحيح، طريق الحياة، وطريق النجاة، وطريق السلامة والعافية والنجاح والفلاح والفوز في الدنيا والآخرة؛ فما أسعدنا بها!
فبسم الله أبدأ وبسم الله أمضي وبسم الله أبلغ الغاية، كم أشعر بالطمأنينة والسكينة، وكم أشعر كذلك بالثقة والاعتداد، آن لي أن أنطلق انطلاقة إيجابية وثَّابة تحقق لي الآمال الكبار في الدنيا والآخرة، فأنا لست هنا في هذه الدنيا وحدي، ولست أسير على هذه الأرض بمفردي، فلنبدأ مستعينين بالله متوكلين عليه، مطمئنين به، إنّها إذن طاقة التعلق تتفجر مع أول آية في السبع المثاني، في الفاتحة، التي تفجر الطاقات الكبرى التي بها يحقق الإنسان وظيفتي العبادة والخلافة، ثم تضعه بها على الصراط.
(الحمد لله رب العالمين)
لكن لا تغفل ولا تنس أنّ الذي تتعلق به وتمضي في طريق الحياة معتمدًا عليه حميد مجيد عظيم، بل إنّه هو وحده المستحق للحمد كله، له ولو لم يحمده الحامدون، له الحمد والثناء الحسن؛ لأنّه موصوف بكل كمال، منزه عن كل نقص، وله الحمد والثناء الحسن لأنّه صاحب المنن ووليّ النعم، ولأنّه سبحانه وتعالى المستحق للحمد والتعظيم مع كونه هو الذي خلقنا وسوّانا؛ فإنّنا نفهم جيدًا مبرر وجود طاقة أخرى لها أثر بالغ في تربية الإنسان وفي استقامته على منهج الرحمن، إنّها (طاقة التعظيم والإجلال).
فالحمد تعظيم وإجلال وتمجيد، وهو كذلك ثناء حسن على الله ووصف له بكل كمال وتنزيه له عن كل نقص، وهو إلى جانب ذلك شكر وعرفان للكريم المنان، كل هذه المعاني تكمن في “الحمد” لكنّ التعظيم والإجلال رائدها ومحور ارتكازها والفلك الثابت المنتظم الذي تدور فيه، وتزداد قوة التعظيم والإجلال باستحضار معنى الربوبية للعالمين، فالذي له الحمد هو ربّ العالمين، هو الذي ربّى العالمين أجمعين، بالخلق والرزق والإنعام والرعاية والعناية والتدبير والتصريف؛ فالحمد لله رب العالمين.
(الرحمن الرحيم)
ومن التعظيم مع التسليم، من التعظيم لله والتسليم لربوبيّته على العالمين أجمعين تنبع وتتدفق طاقات أخرى، طاقات فرعية لكنّها أكثر تخصصية، يأتي في مقدمتها (طاقة الرجاء)، وهي في المقدمة بالطبع؛ لأنّ رحمته تعالى سبقت غضبه، ومن هنا سبق الرجاء الخوف، ولولا أنّ التعظيم والإجلال هو الطاقة الأمّ التي تنبثق منها كل الطاقات التخصصية لتقدمت عليها طاقة الرجاء، لكن على أيّ حال فقد سبقت الإشارة إليها في البسملة التي افتتحت السبع المثاني، فهذان الاسمان (الرحمن الرحيم) آية وبعض آية.
الرحمن الرحيم
أجل .. (الرحمن الرحيم) آية من السبع المثاني، جاءت مفجرة لطاقة الرجاء، ومتقدمة بها على جميع الطاقات التخصصية، ومع ذلك وردت في الآية الأولى بنفس الصيغة (الرحمن الرحيم)؛ فهل جاءت على هذا النحو لتشير إلى قاعدة راسية مفادها أنّ الرحمة هي الأصل في معاملة الخالق للمخلوق؟ ربما كان هذا صحيحًا، لكنّ ما لا نرتاب فيه ولا نتردد حياله هو أنّ هذا السياق مفجر لطاقة الرجاء، فارج أيها الإنسان رحمة الرحمن، ألا يكفيك أنّ رحمته لم يدل عليها هنا اسم واحد، وإنّما اسمان: (الرحمن الرحيم)؟!
(مالك يوم الدين)
ومن الرجاء إلى الخوف، من الرغبة إلى الرهبة، من الطمع في رحمة الله إلى الخشية من عقابه وعذابه، ليكتمل للعبد جناحان متوازيان تنضبط بهما حركته في الحياة وينتظم بهما سيره إلى الله، فالله عزّ وجال مالك يوم الدين، يوم الحساب والجزاء، وهو كذلك ملك يوم الدين، فهما قراءتان مشهورتان متواترتان، ولا اختلاف بينهما، بل التآلف والتكامل والانسجام التام، فالله مالك يوم الدين وملك يوم الدين، مالكه وملكه، وعلى الرغم من أنّ الله تعالى مالك وملك الدنيا ويوم الدين؛ لكنّ التخصيص هنا مفيد.
مالك يوم الدين الذي يملك كل شيء فيه ولا يملك أحد فيه شيئًا ولو على وجه الاستخلاف، وملكه الذي تفرد فيه بالسلطان والحكم، فلا سلطان لأحد فيه ولا حكم، ولو كان على وجه الخلافة عن الله في إقامة منهجه وتحكيم شريعته، فماذا يصنع الإنسان يومها وإلى أين يفرّ؟ لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا فرار من عذابه إلا إلى واسع رحمته، ومن تمام ملكه وسلطانه في هذا اليوم انقطاع النصرة والولاية بين الأولياء، وامتناع الشفاعة إلا بإذن منه ورضى؛ فهل ثم ما يحمل على الخوف والرهبة أكثر من هذا؟
(إياك نعبد وإياك نستعين)
هذه هي الآية التي توسطت السبع المثاني، فما قبلها لله وما بعدها للعبد، بينما هي بين الله وبين عبده، فلله على عبده أن يعبده، وللعبد على ربه أن يعينه، وهذان المعنيان المتقابلان المتوازيان يفجران طاقتين متقابلتين متوازيتين متآلفتين متحالفتين، طاقة الانكسار وطاقة الافتقار، (إياك نعبد) تفجر طاقة الانكسار والذل والخضوع و(إياك نستعين) تفجر طاقة الافتقار واللجأ والضراعة، وإنّهما لطاقتان دافعتان في طريق العبودية بقوة هائلة، والتقديم والتأخير في العبارتين للتأكيد والتوطيد والتوسيد.
إنّ قلب الإنسان مفطور على الانكسار والافتقار للواحد القهار، فإذا لم يفتقر ولم ينكسر لله افتقر وانكسر لغير الله، وعندئذ يكون عرضة دائمة لهذا الخطر الماحق الذي صورته الآية الكريمة: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31)، إنّه الضياع الذي ليس بعده ضياع إلا ما يكون كالظل للشيء، وبتمحيض الافتقار والانكسار لله العزيز الغفار تتمحض عبودية العبد لله، ويتخلص من العبودية لكل من سوى الله، وهذا هو منبع الحرية الحقيقية.
(إهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم . غير المغضوب عليهم ولا الضالين)
ها هي الطاقات الكبرى تفجرت في كيانك، طاقة التعلق التي يفجرها (بسم الله الرحمن الرحيم) وطاقة التعظيم التي يفجرها (الحمد لله رب العالمين) وطاقة الرجاء التي يفجرها (الرحمن الرحيم) وطاقة الخوف التي يفجرها (مالك يوم الدين) وطاقتا الانكسار والافتقار اللتان تتفجران من (إياك نعبد وإياك نستعين) هذه الطاقات الكبرى قادرة على تحريكك ودفعك للانطلاق في الطريق، لكن أين الطريق؟ ها هو: (إهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم . غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
إنّه الصراط المستقيم، الذي لا عوج فيه ولا انحراف، وهو مشهور مشهود، هو الطريق الذي استقام عليه الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين، والذي يفارق بحسم ويباين بحزم طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، طريق المغضوب عليهم الذين علموا الحق فتنكبوه وهجروه على علم، وطريق الضالين الذين لكثرة ما غشّاهم من الأهواء ضلوا وتخبطوا فعموا عن الحقّ وجهلوه، وأبرز مثال للمغضوب عليهم اليهود، وأبرز مثال للضالين النصاري؛ لذلك فُسرت بهما الآية في السنة.
اللهم استجب هذا الدعاء .. آمين
وإذن فالفاتحة في شطرها الثاني دعاء بالاهتداء، لكنّ شطرها الأول يفجر الطاقات التي تمكن العبد من السير في طريق الهداية، وإذا كانت الفاتحة تثنى وتكرر في الركعات؛ فإنّها لأجل ذلك سميت السبع المثاني، وهي المقصودة في قول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر: 87)، وإنّ العبد ليكررها في جميع الركعات من جميع الصلوات الفرائض منها والتطوعات؛ لتجدد له كل هذه الطاقات، ولتتحقق له الهدايات؛ فسبحان رب الأرض والسماوات، الذي يحقق لنا بالفاتحة أقصى الغايات.