زكاة الفطر ... بين حرفية النص و مقصود الشارع
الدكتور بلخير طاهري - أستاد الشريعة والقانون بجامعة وهران بالجزائر رابطة علماء أهل السنةكنت مترددا أن أعيد الكتابة في هذا الموضوع ، بعد أن كتبت مقالا مطولا، حول ( إخراج زكاة الفطر بين التعبد والتعليل ) .
ورأى كثير من المتابعين أن المقال طويل ، وإن كان قد استوعب إلى حد كبير أقوال المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، إلا أنه كان يحتاج إلى تلخيص وضبط بالنسبة لعامة القراء.
ورأيت من استهزاء بعض أصحاب المدرسة الظاهرية الجدد ، قد ثاروا على بعض الاجتهادات الصادرة عن علماء الأمة من سلف وخلف من أقران الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز ، والامام البخاري وغيرهم من أصحاب الفقه والحديث .
بل لم يعجبهم حتى اختيار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ولا ترجيحات ابن أبي شيبة والبخاري و ابن حجر .
فقلت: إذا كان هؤلاء ليسوا من أعلام الأمة فمن !
والموضوع ببساطة لو أن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية تبنت هذا الاختيار منذ سنوات ما سمعنا هذا العويل ولا التهويل.
ثم القاعدة المقررة عند أهل العدل والإنصاف من أرباب الصناعة الفقهية في مقام الترجيحات: أن إعمال الدليلين أولى من إهمالهما.
أو الجمع أولى من الإهمال، و في كليهما يكون الإعمال.
فتذكرة تلك الحادثة في السيرة النبوية عندما قال الصادق المصدوق : لا تصلين العصر إلا في بني قريظة.
فاختلف الأصحاب، في ذلك بين من فهم التعجيل ، فصلى في الطريق، و بين من فهم ظاهر النص وقرروا عدم الصلاة إلا في بني قريظة.
فعلق العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، أن من صلوا في الطريق فهم سلف أهل الرأي ، ومن صلوا في بني قريظة هم سلف أهل الظاهر ...و النبي صلى الله عليه وسلم، لم يعنف أو ينكر على أحد .
فإذا كانت قراءة النصوص في زمن التشريع لها هذه الفسحة، فلم نحجر واسعا...
وعليه: أقول أن في المسألة واسع النظر لكل من أعمل الأثر وأنفذ البصر بتحكيم المٱل المعتبر، أن النظر المقاصدي يقتضي مراعاة حال الفقير في كل الأحوال من جهة تحقيق مصالحه.
فإذا كان قوت أهل البلد هو الانفع له، فيصبح هو الواجب شرعا تقديمه له، و إذا كان النقد هو الأنفع له في تحقيق حاجته المادية والمعنوية التي لا يمكن أن يعرفها إلا عين المكلف، فيصبح تقديم النقد هو المطلوب شرعا.
شبه و دفعها:
الشبهة الأولى: لماذا لا تلتزموا بما نطق وعمل به الرسول صلي الله عليه و سلم، وكل من خرج عنه خرج عن الهدي النبوي.
الجواب: أننا نقول أن الأمر يرجع لاعتبارين:
أولهما: أن النبي صلى الله عليه و سلم، تعامل مع الموجود و الرائج في زمانه من أطعمة ، من غير أن يتكلف المفقود أو يزهد في الموجود ، فما تيسر في زمانه كان إخراج الزكاة منه .
وإذا فهم هذا الاعتبار ، جاز لكل بلد أن يخرج من الطعام أي كان في بلده هو المتوفر، و إن لم يخرجه الرسول ولا الصحب الكرام .
ويصبح الجمود على المذكور من قبيل التكليف بما لا يطلب وإيقاع الأمة في حرج وضيق، وهذا ما تأباه القواعد الشرعية والمقاصد المرعية.
ثانيهما: أن التعامل بالنقود لم يكن رائجا في زمانهم ، و كان قليلا ، خاصة إذا نظرنا إلى حقيقة العملة أنها كانت إما دينار ذهبي أو درهم فضي، و هذه المعادن الثمينة فضلا على أنها عملة ، هي تحمل قيمة في حد ذاتها، و كانت قليلة في زمن التشريع ، ولهذا كانوا يلجؤون إلى عملية المقايضة ( التبادل) بين السلع في زمانهم، وهذا ظاهر منقول و مشهود .
وعليه: كان اللجوء إلى قوت أهل البلد هو الأيسر لكل مكلف.
الشبهة الثانية: أن الائمة الثلاثة ما عدا الإمام أبى حنيفة، لأنهم كلهم يقولون بإخرجها طعاما، وهذا قول الجمهور الذي لا يجوز مخالفته.
و الجواب: يمكن إرجاعه على ثلاثة اعتبارات:
أولا: أن علماء الأمة قرروا أنه من قواعد الشرع : لا إنكار في مختلف فيه.
ثانيا: أن العصمة في المسمى الإجماع، و لا إجماع في المسألة، و قول الجمهور مهما يكون لا يرقى إلى مرتبة الإجماع القطعي الذي لا يجوز مخالفته.
ثالثا: أن اتباع الأئمة الثلاثة، وجدنا عند أشهر تلامذتهم و محققيهم ، يقولون بقول السادة الأحناف ، فضلا عن النقل الثابت عن سيدنا عمر بن عبد العزيز .
والعصمة ليست في اجتهاداتهم، فقول العالم يحتج له و قول الشارع يحتج به ، و بون شاسع بين يحتج به و يحتج له.
الشبهة الثالثة: دعوى عدم التعليل لأنها مسألة تعبدية.
وهذه المسألة في حد ذاتها خلافية، حيث أن السادة الأحناف وسعوا على أنفسهم من البداية ، وقرروا قاعدة : كل نص كان معقول المعنى جاز تعليله، سواء كان في العبادات أم في المعاملات.
و هذا المنحى نحاه الجمهور و إن صرّح بخلافه ، بقولهم : أن التعبادات لا تعلل. ولكن هذا في الجملة، و إلا وجدناهم عللوا كثيرا من الأحكام التعبدية وألحقوا بها صورا، سواء مسائل في الطهارة، أو السهو في الصلاة، أو في الصيام أو في الحج، و ألحق بذلك أحكام الزكاة في بعض صوره . أو ما يتعلق بالكفارات التي لا شك أنها من محض التعبد رغم ذلك وجدت فيها سعة.
الشبهة الرابعة: أننا لسنا أعلم من الله ورسوله بمصلحة الفقير !
و هذا صحيح ليس هناك أعلم بالخلق مثل من خلقهم، غير أننا وجدنا الشارع الحكيم ، يراعي عند كل حكم مقصده، خاصة إذا تعلق الأمر بمصلحة المكلفين ، فإن الوقوف على حرفية النص هوعين إهدار مقصود الشارع من تشريع هذه الزكاة ، التي قال فيها ( إغنوهم عن المسألة في هذا اليوم ) .
وكيف يتم الإغناء بكيس دقيق يعطى له ثمنه 60دج للكلغ الواحد ، و هو يبيعه ليتحصل على المال بثمن 30 دج أو 40 دج الذي هو أنفع له لما يحتاجه ، فننظر كم يخسر في الكلغ من دينار ، لأنه يحتاج إلى مال من أجل دواء أو كهرباء أو إيجار....
ولقد رأيت بأم عيني في المملكة العربية السعودية أكوام الارز مرمية في الشوارع أو أمام المحلات التجارية، لأن الفقراء أردوا بيعها بنصف ثمنها.
فأين عدالة التشريع و مصلحة الفقير.
========#جوهر الكلام :
لقد أصدرت وزرة الشؤون الدينية فتواها و قرارها، و نحن لا نعترض عليه، فهم أدرى بالمبررات و المعطايات التي معهم و عندهم ولعلنا لم نطلع عليها.
فقرروا أن نصاب زكاة الفطر لهذه السنة يقدر ب: 120دج .
فهل هذا التقدير يتناسب مع قوت البلد الرائج ، إذا إعتبرنا نحن في الجزائر الطعام الرائج: الكسكس، أو التمر ....؟
فلننظر إلى مصلحة الفقير ، ونخرج له من التمر الذي متوسط الكلغ من نوعه سعره : 500دج للكلغ الواحد . أي يصبح زكاة فطره 1800غ اي سعر الزكاة بالقيمة المالية : 950دج .
أي ما يعادل زكاة ستة (06)أفراد من أسرة بقيمة 120دج.
ثم ما المقصود بقوت أهل البلد ، هل هو سميد أم الكسكس؟ مع مراعاة الزيادة في ثمنه في سوق رغم دعم الدولة له.!!!
=======#نظرة إلى الواقع العالمي في مقدار الإخراج:
فلا بد من استحضار هذه المعطيات التي تؤكد أن قيمة زكاة الفطر في بلدنا جد متدنية مقارنة ببعض الدول المجاورة .
الجزائر 120دج= 0,6 €
فرنسا 8 €= 1600دج
الإمارات و السعودية
1250 دينار أو ريال = 6,25 €=1250دج
المغرب 15درهم = 1,4€=280دج
قطر 15 ريال= 3,75€=750دج
تركيا 40 ليرة= 2,50€=500دج
#ملاحظة : تم اعتماد قيمة السوق الموازية في تحويل هذه القيم إلى الدينار الجزائري باعتبارها القيمة الأكثر مصداقية عكس القيمة الرسمية التي تبقى قيمة إدارية بعيدة عن الواقع الاقتصادي.
========#الخلاصة:
أرى أنه من الإنصاف وبعد النظر ، أولا: إعادة النظر في التقدير لقيمة زكاة الفطر، بناء على نوعية الطعام المعياري في التقدير.
ثانيا: ضبط الأطعمة التي يمكن إخراجها في بلدنا، مع مراعاة اختلاف المناطق في الرائج من طعامها.
ثالثا': ترك فسحة للمكلفين أن يخرجوا بما يرونه في صالح الفقير ، فلا إحراج للمزكي، و لا منة على الفقير ، ولا قفز على حاجاته.
و في الأمر سعة، و من لم يطلع على إختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه، و لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.
فقد علم كل أناس مشربهم، فاستبقوا الخيرات .