صناعة الفتوى الكورونیة ... بین تشخیص الأطباء وفتاوى الفقھاء
الدكتور بلخير طاهري - أستاد الشريعة والقانون بجامعة وهران بالجزائر رابطة علماء أهل السنةبسم الله الرحمن الرحیم و الصلاة والسلام على رسول الله
الحمد الذي أشفى وإلى ربك الرجعى وعلى كتابه وسنة نبیه تبنى الفتوى وعلیھما الأحكام تقضى.
إن موضوع تنزیل الأحكام من أخطر المزالق، لأنه یتعلق بتحقیق المناط الذي ھو فخ كل من لم یخض في دروب الفرق والجمع أشواطا، خاصة عند تشعب المسالك وتنوع الخنادق، في درك مراد الشارع، مما یدخل الفقیه في حیرة وارتیاب، ویضطر إلى تقلیب النظر ذات الیمین وذات الشمال، لعله یظفر بمآخذ الأحكام السادة الاعلام، من أئمة النظر والبیان، و محاولة الكشف عن مدارك علل الشرائع، مما یسنح الوقوف على مقاصد و أسرار الأحكام .
وسوف أعالج ھذا العنوان في النقاط التالیة:
أولا: الفتوى صناعة :
إن مسألة الإفتاء، لیست خطابات تذاع، ولا نقولات تقص وتشاع، ولا سلع معروضة وتباع. إنما ھي مكنة من شخص قوي المتاع، و تصویر للمسائل بعقل مشاع، وتحریر لمحل نزاع، ثم تأصیل قدر المستطاع، وأخرھا تنزیل على أرض الواقع بإبداع... فالصنعة تقتضي الإتقان، والإحكام من صانع قد استجمع أدوات التحصیل و التأصیل، ولم یكن قد ركن إلى التقلید والتلفیق، بل بذل الوسع في استثمار ما بین یدیه، وغاص في أعماق مقاصد الأحكام لیستشرف المآلات خوفا من مزالق الأقدام، في وحل حرفیة النص و ما تشابھ منھا من ألفاظ ومعان عظام.
ثانیا: إحترام التخصصات واجب:
قال تعالى ( وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) التوبة 122 .
وجاءت سنة سید الخلق، توزیعه للتخصصات وھو حي، تعلما وإرشادا، فقال : أعلمكم بالحلال والحرام معاذ، أقضاكم علي، أفرضكم زید، أقرؤكم أبي، أعلمكم بالتأویل ابن عباس... وبناء علیھا فعلى الأمة أن تجد من بینھا متخصصین في شتى مناحي الحیاة، فقھا، وطبا، وھندسة، ووو... في كل ما تحتاجه الأمة، وھذا معنى النفور، والتخصصات بكل مجالاتھا ھي التفقه في الدین بمعناه الواسع، لأن كل التخصصات حتى العلمیة ھي من صمیم الدین.
ثالثا: الفقیه لا یستقل بإنشاء الأحكام بمعزل عن وصف الطبیب
تشخیص الطبیب یسبق الرأي الفقھي، فبناء على تصویر الطبیب یكون تنزیل الفقیه، فخطأ الطبیب یبنى علیه خطأ حكم الفقیه، فعمل الفقیه ھو إبلاغ الحكم الشرعي عن رب العالمین في حدود ما یبذل من وسع للكشف عن مراد الشارع، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، وعلى ھذا الوزن تجرى الأحكام في جمیع النوازل والمستجدات وفي كل ما له علاقة بتخصص من التخصصات.
رابعا: ھل قول ھیئة إفتاء ینزل منزلة الإجماع؟
لاشك أن تعدد الأراء الفقھیة ظاھرة صحیة و حضاریة، في رقي ھذا الفقه الإسلامي ومدى مواكبته لمقتضیات العصر ومستجداته، وكان یقول سیدنا عمر بن عبد العزیز رحمه الله ( ما یسرني أن صحابة رسول الله صلى الله علیه وسلم لم یختلفوا! لأن في اختلافھم سعة.
وقال علماؤنا:( من لم یطلع على اختلاف الفقھاء لم یشم رائحة الفقه) ولكن جمع الرأي وتقلیل الخلاف والخروج منه مستحب، والبحث عن القول الجامع مطلوب شرعا، من غیر أن یسفه رأي المخالف.
ولقد عاشت و تعایشت الأمة طیلة ھذه القرون، بل من زمن رسول الله على ھذا الاختلاف من غیر ضیق في الصدر أو إقصاء للمخالف، ولھذا قال الإمام الزركشي في البحر المحیط في باب التعارض والترجیح : ( الحمد أن الله عزوجل نصب على ھذه الشریعة أدلة ظنیة توسعة على الأمة)، لاحظ أدلة ظنیة توسعة على الأمة، ومن ھنا قرر علماؤنا في قواعدھم: أنه لا إنكار في مختلف فیه، وكان علماؤنا یحاولون قدر المستطاع الخروج بالقول الراجح في المسألة الاجتھادیة، ولكن ھذا الترجیح ھو اعتباري، وكما قرر علماؤنا : أن الاعتبار یورث الاعتذار.
وھنا لابد من التنبیه على أمر مھم وھو الخلط بین الإجماع الأصولي والإجماع الفقھي، أو قول الجمھور. فالإجماع الأصولي : یكاد أن یكون نادرا في أحكام الشرع بالصیغة والحد المذكور في كتب الاصولیین، وھو : اتفاق مجتھدي أمة محمد صلى الله علیه وسلم على أمر من الأمور بعد وفاته، وھو نوعان صریح، وسكوتي، أما الأول فلا شك في لزومه وعدم الخروج علیه، وھو أقوى من النص الشرعي كما حرره وقرره علماء الأصول من غیر نكیر. وأما السكوتي: فھو تصریح البعض وسكوت الآخرین، فھو محل خلاف وفیه سعة، أما الإجماع الفقھي، وھو غالب كتب الفقه الإسلامي حتى قال العلماء : حذر الناصحون من إجماعات بن عبد البر في الاستذكار، وابن المنذر في الأوسط والإجماع ، والنووي في المجموع ، وزاد المتأخرون إجماعات ابن تیمیة في مجموعه وابن قدامة في مغنیه، والسبب في ذلك أنھا اجتھادیة، ثانیا أنھا أقوال الأغلبیة أي الجمھور مع وجود المخالف.
فسلوك مسلك الجمھور لابد أن یتنوع فیه أھل الاختصاص من فقھاء وأطباء، وقانونین، وخبراء... حتى تخرج الفتوى أو القرار مستجمعا لجمیع التوجھات والأراء.
======بیت القصید.!!!...
إن إنزال رأي لجنة مشكلة من جھة واحدة، وتخصص واحد، ومشرب واحد، وقطر واحد، لا یمكن أن ینزل باي حال من الأحوال، أنه قول الجمھور أو إجماع فقھي،غایة ما یقال فیه، اجتھاد عزز بموقف السلطان.
فمن حق ولي الامر أن یلزم الأمة بھذا الرأي تحقیقا لمصلحة راجحة ودفعا لمفسدة متحققة.
ولكن لا یعدم بقیة الاراء، ولا یقال لھم أكتموا أنفسكم، وخبؤوا اراءكم، وعطلوا عقولكم، وإیاكم النطق والتصریح إلا باذن صریح من و لي أمر بقرار صحیح.... فإنا وإنا إلیه راجعون.
لقد عاشت الأمة دھرا، إلا ورأي المخالف مكفول، و أن لصاحب مقالة.
وكم من قول شاذ في زمن أصبح راجحا في زمن، وما مسألة الطلاق الثلاث ببعیدة عن الأذھان، وقد نزل القوم على الواحدة بالإذعان وإلا انفرط عقد كل الأسر أمام العیان.
======الخلاصة :
أولا: وجود المخالف أمر مشروع ولا بد أن یكون رأیه مسموعا.
رأي ولي الأمر أو من یقوم مقامه، لا سلطان له إلا في أربع دوائر لا خامس لھا:
1 _فیما لا نص فیه.
2 _فیما یحتمل وجوھا عدة..
3_في المصالح المرسلة.
4 _في تقیید المباح.
وھذه الدوائر بعد استشارة أھل الشرع وما یقررونھ فیھا.
ثانیا: لا إنكار في مختلف فیه، والخروج من الخلاف مستحب، ورعي الخلاف واجب. فالأول قبل الوقوع، والثاني بعد الوقوع، فانتبه!
ثالثا: لا یخلو زمان في ھذه الأمة إلا وھو قائم بالحجة، وما تنزل بالعبد من نازلة إلا و فیھا حكمھا، علمھا من علمھا وجھلھا من جھلھا، كما قرره الإمام الشافعي في الرسالة.
رابعا: لا ینسب لساكت قول. والسكوت لا یستلزم الرضى.
خامسا: الحكم على الشیئ فرع عن تصوره، وعلى قدر المعطیات تكون التنزیلات.
سادسا: قول الشارع یحتج به، وقول العالم یحتج له، ففرق بین به وله. ولا عصمة لرأي إلا بنص صحیح صریح، أو إجماع قطعي من غیر تلمیح، وإلا كل یؤخذ من كلامه ویرد.
سابعا: فقه النوازل، ھو فقه المذاھب لا المذھب، ومن قصره تعصبا فقد حجر واسعا.
ثامنا: الاجتھاد الجماعي أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ، والعقول تنتصر دوما على العقل.
والفتوى الفردیة مطلوبة، ولكن في واقعھا أغلبھا مغلوبة، فصاحبھا حقا ھو یدور بین الأجر والأجرین، ولكن! عندما یؤجر المجتھد على إجتھاده، وتعذب الأمة بخطئه... فمن تعصب برأسه.
تاسعا: مراجعة الحق، خیر من التمادي في الباطل، ولیس من أراد الحق فاخطأه كمن أراد الباطل فأدركه، ولكل امرء ما نوى.
عاشرا : التعمیم آفة، والأحكام تدور مع عللھا وجودا وعدما، فلیس من المعقول الإبقاء على النتائج في ظل تغیر الأسباب.
وتبین الأحكام بعللھا وحكمھا یورث الاطمئنان ویوجب الإسكان، ولكن بیان من غیر زمام ولا خطام لا یوقف تساؤلات الأنام.
فعلى التأصیل البناء، وبدلیل الإقناع عندھا یمكن السماع.