الأحكام الشرعية المتعلقة بطوفان الأقصى(2) - شروط جهاد الدفع ..التطبيق على (طوفان الأقصى)
الدكتور عطيّة عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةهناك شيء من التداخل في كتب الفروع أثناء حديثها عن شروط الجهاد، لكنّنا نستطيع إذا قمنا بعملية استقصاء وتحرّي أن نرتبها ترتيبًا يفرق بين فئات هذه الشروط، ويميز بعضها من بعض، ولكي نصل إلى نتيجة جيدة يجب أن نميز بين شروط جهاد الطلب وشروط جهاد الدفع، وأن نفرق بين شروط للوجوب وأخرى تتعلق بحقوق الآخرين، وأن نخرج شروط اتخاذ قرار الحرب من كل هذه التقسيمات ونخصها بنظر مستقل، مع التمييز بين قرار الحرب في جهاد الطلب وقرار الحرب في جهاد الدفع، ونحن لأجل ذلك مضطرون للمرور - ولو على وجه السرعة - على الفئات المختلفة من هذه الشروط قبل أن نركز على شروط جهاد الدفع سواء كانت شروطًاللوجوب أو شروطًالاتخاذ قرار الحرب.
شروط وجوب جهاد الطلب
ذكر العلماء شروط وجوب الجهاد في كتبهم وكادوا يتفقون عليها، ولا يكاد ما بينهم من خلاف يخرج عن التغاير في الألفاظ المعبرة عن المعنى، وذكرهم للشروط جاء بعد تقريرهم للحكم الأصليّ للجهاد وهو فرض الكفاية الذي ينصرف في استعمالهم جميعًا إلى جهاد الغزو والفتح والطلب والابتداء، وقد تكرر في كتب الفروع النص على شرط الإسلام، وشروط التكليف، وشرطَي الذكورة والحرية، وشرط الاستطاعة الذي ربما قسموه لشرطين، وكثيرًا ما تختلف تعبيراتهم، وسنكتفي فقط بذكر كلام ابن قدامة لما فيه من التفصيل الذي يتعرض للأدلة بقدر من الاعتدال والتوسط.
يقول ابن قدامه: "ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط؛ الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة ... وأماالحرية فتشترط؛ لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- «كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد» ، ولأن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة، فلم تجب على العبد، كالحج. وأما الذكورية فتشترط؛ لما روت عائشة، قالت: «يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ فقال: جهاد لا قتال فيه؛ الحج، والعمرة» ... وأما السلامة من الضرر، فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض، وهو شرط؛ لقول الله تعالى {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} [النور: 61]... وأما وجود النفقة، فيشترط؛ لقول الله تعالى {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91]... فإن كان الجهاد على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، اشترط أن يكون واجدا للزاد ونفقة عائلته في مدة غيبته، وسلاح يقاتل به، ولا تعتبر الراحلة؛ لأنه سفر قريب. وإن كانت المسافة تقصر فيها الصلاة، اعتبر مع ذلك الراحلة؛ لقول الله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92]"([1]).
ومن الواضح أنّ هذه الشروط التي سماها العلماء شروط وجوب الجهاد هي شروط الوجوب على العبد المكلف، أمّا شروط اتخاذ القرار بالقتال من الجهة المسئولة في الأمة - سواء كانت سلطة الدولة أم أهل الحل والعقد لدى شغور الزمان من سلطة الدولة الشرعية أم الجماعة المؤمنة عند غياب الجهتين الآنفتين - فإنّها شيء آخر مختلف، فهذه شروط العبد المكلف، أمّا الأخرى فهي شروط متعلقة بالقرار السياسي بالحرب، كإذن الإمام وتقدم الدعوة وغير ذلك مما سنتعرض له لاحقًا، وقد وقع الخلط في كثير من الكتب بين هذين النوعين، وترتب على الخلط بينهما اضطراب في المفاهيم.
وكذلك ينبغي أنْ نفرق بين شروط الوجوب هذه وبين الشروط التي ألحقت بها وليست في الأصل منها، وإنما اشترطت عند تعلق الخروج للجهاد بحقوق الآخرين، كاشتراط إذن الوالدين، واشتراط إذن الدائن، ومنع خروج المرأة بغير إذن زوجها، ومنع خروج العبد بغير إذن سيده، فهذه شروط وضعت لأجل رعاية حقوق الآخرين، وفي تفاصيلها قدر من الخلاف، لكنّ الراجح اشتراطها في جهاد الطلب الذي هو فرض كفاية لا جهاد الدفع الذي هو فرض عين، وقد بيَّنَتْ كتب الفقه ذلك كله.
شروط وجوب جهاد الدفع
جاء في كتب المذاهب على اختلافها ما يؤكد الفرق في الشروط بين جهاد الطلب وجهاد الدفع، ففي الهداية - على سبيل المثال - يقول الإمام المرغياني: "فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع، تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى؛ لأنه صار فرض عين"([1])، ويقول: "ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن مولاه لما بيَّنَّا، إلا أن يهجم العدو على بلد للضرورة"([2])، ويقول الإمام الزيلعيّ: "الجهاد فرض كفاية ابتداء ... ولا يجب على صبي وامرأة وعبد وأعمى ومقعد وأقطع ...وفرض عين إن هجم العدو؛ فتخرج المرأة والعبد بلا إذن زوجها وسيده؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بإقامة الكل فيجب على الكل ..."([3])، ويقول الشيخ دردير المالكيّ: "وتعين الجهاد بفجء العدو على قوم،وإن توجه الدفع على امرأةورقيق،وتعين على من بقربهم إن عجزوا عن كف العدو بأنفسهم"([4])، وفي المغني لابن قدامه المقدسي الحنبليّ: "(وإذا كان أبواه مسلمين، لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما) روي نحو هذا عن عمر، وعثمان. وبه قال مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وسائر أهل العلم ... وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما، وكذلك كل الفرائض، لا طاعة لهما في تركها. يعني إذا وجب عليه الجهاد. لم يعتبر إذن والديه؛ لأنه صار فرض عين وتركه معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله ... وإن أذن له والداه في الغزو، وشرطا عليه أن لا يقاتل، فحضر القتال تعين عليه، وسقط شرطهما ... ومن عليه دين حال أو مؤجل، لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه، إلا أن يترك وفاء، أو يقيم به كفيلا، أو يوثقه برهن. وبهذا قال الشافعي، ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه؛ لأنه لا تتوجه المطالبة به ... وأما إذا تعين عليه الجهاد، فلا إذن لغريمه؛ لأنه تعلق بعينه، فكان مقدما على ما في ذمته، كسائر فروض الأعيان، ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل؛ من المبارزة، والوقوف في أول المقاتلة، لأن فيه تغريرا بتفويت الحق. وإن ترك وفاء، أو أقام كفيلا، فله الغزو بغير إذن"([5]).
وبهذا يتبين أنّ كثيرًا من الشروط تختص بجهاد الطلب دون جهاد الدفع، ففي جهاد الدفع يسقط شرط الذكورة وشرط الحرية وشرط استئذان الوالدين واستئذان الدائن، وتبقى شروط الإسلام والبلوغ والعقل والاستطاعة، وحتى الاستطاعة تختلف في الحالين؛ فالاستطاعة التي لا تتحقق في النوعين من الجهاد إلا بانتفاء العجز البدنيّ، لا يشترط لها في جهاد الدفع توفر النفقة ولا الراحلة التي تحمل المجاهد ولا حتى السلاح الذي يقاتل به، بل على جميع المكلفين أن يخرجوا للدفع ولو بالعصيّ والحجارة، أو حتى بتكثير السواد وشد أزر المجاهدين وخدمتهم وغير ذلك، وهذه الاستطاعة - في نهاية الأمر - شرط وجوب، فمن تجشم القتال وهو غير مستطيع فله ثوابه وغنيمته أيضًا، لكنْ لا يجب عليه من حيث الأصل، وهو شرط - كما مرّ آنفًا - يتعلق بالشخص المكلف لا بالقرار السياسي.
شروط اتخاذ قرار الحرب
هنا في هذه المساحة توجد شروط مختلفة لا يصح أن تتداخل مع شروط الوجوب السابق ذكرها والتي تتعلق مباشرة بأشخاص المكلفين، كالإسلام والبلوغ والعقل والاستطاعة وغير ذلك؛ لأنّ شروط اتخاذ قرار الحرب - سواء كانت حرب غزو وفتح أو حرب دفاع - تتعلق بالجهة التي يناط بها اتخاذ القرار، سواء كانت هذه الجهة المسئولة هي سلطة الدولة (الإمام أو السلطان أو رئيس الدولة) أو كانت سلطة أهل الحل والعقد عند شغور الزمان من السلطان العام، أو كانت سلطة العلماء ومن معهم من كبار الأمة عند خلو الزمان من مؤسسة أهل الحل والعقد ومن السلطان العام للمسلمين، هنا تأتي شروط من نوع آخر، شروط تتعلق بمدى تحقيق القتال للغرض الذي من أجله فرض.
أولًا: شروط اتخاذ القرار في جهاد الطلب
شُرع الجهاد لأجل هداية الخلق إلى الحقّ، لذلك فإنّ شرط تَقَدُّم الدعوة على الجهاد وتَقَدُّم الجدال على القتال أحد الشروط التي تناط بمن يتخذ قرار إعلان الحرب، "فإنْ كان العدو ممن لم تبلغهم الدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم الى الإسلام؛ لأنه لا يلزمهم الإسلام قبل العلم، والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، ولا يجوز قتالهم على ما يلزمهم وإن بلغتهم الدعوة، فالأحب أن يعرض عليهم الإسلام لما روى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر: "إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فو الله لأن يهدي لله بهداك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم"([6]).
وتشترط الاستطاعة لاتخاذ قرار الحرب، والعلماء عندما يتحدثون عن شروط الاستطاعة تتداخل عندهم الاستطاعة التي هي شرط المكلف مع الاستطاعة التي هي شرط لاتخاذ قرار الحرب من الجهة المسئولة، فالواجب علينا أن نجتهد في تمييز أحدهما عن الآخر، وهذا أحد صور نمو الفقه وتطوره، كما أنّه قد عُرف من استقراء أقوالهم وتصفح طريقتهم أنّهم إذا تحدثوا عن حكم الجهاد بإطلاق وعن شروطه قصدوا بذلك - تحديدًا - جهاد الطلب والغزو والفتح، ثم انثنوا يسقطون كثيرًا من هذه الشروط عند الحديث عن جهاد الدفع، فمن الواجب علينا أيضًا - وهو أحد واجبات الاجتهاد المعاصر - أنْ نميز بين الأمرين وأن نفصل أحدهما عن الآخر، ولاسيما بعد أن تَوَقَّفَ جهاد الطلب منذ أمد بعيد.
ومن خلال النظر في كلام العلماء بعد ضم بعضه إلى بعض يتبين لنا بوضوح أنّ الاستطاعة التي تُشترط لاتخاذ قرار الحرب في جهاد الطلب تتحقق بأمرين، الأول: الإعداد على حسب الوسع والطاقة، الثاني: توقع الظفر بغلبة الظنّ، فأمّا الأول ففيه قول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الآية(الأنفال: 60)، والإعداد ليس واجبًا لذاته وإنّما لغيره وهو الجهاد؛ فهو - إذَنْ - شَرْطٌ له، وأمّا الثاني فيرجع إلى الشورى وترديد النظر، لكنّ القرآن لم يتركنا للنظر حتى وضع لنا قاعدة لضبط هذا النظر، والقاعدة لابد أن تكون مرنة تتسع لتغير الأحوال؛ فتراعي الزمان والمكان، بل وتراعي مستوى اليقين ومقدار الإيمان، وتَبْنِي على مدى قدرة المقاتلين النفسية، وعلى الدرجة التي يبلغها يقينهم وصبرهم وطلبهم لمرضاة الله والدار الآخرة، أي بإجمال: المستوى التربويّ.
قال الله تعالى في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)) (الأنفال: 65-66)، فهنا أمر الله تعالى بتحريض المؤمنين على القتال، والتحريض والحضُّ من الإعداد النفسيّ العقديّ، فإذا كان هؤلاء المؤمنون يتفوقون بإيمانهم ويقينهم وثباتهم وطلبهم للآخرة على الكفار؛ بما ينعكس أثره على عدم اعتبار تكافؤ القوى بشكل مطلق؛ فإنّ التفوق يختلف من زمان لآخر ومن حال لآخر، وتتباين الطاقات النفسية بهذا الاختلاف؛ لذلك فإنّ الآيتين قد وضعتا حدًّا أدنى وحدًّا أعلى لمقدار هذا التفوق، وإذا كان التسليح وما يتبعه من خطط حربية في زمان نزول القرآن متقاربًا بين الناس إلى حدٍّ بعيد، فإنّ الاكتفاء بالعدد في الدلالة على هذا الأمر كافية، ولا حاجة لذكر السلاح والعتاد وغيرهما ذلك مما صار اليوم مرجحًا قويًّا.
والمقصود العام من الآيتين - وليست الثانية ناسخة للأولى على الراجح - أنّ المؤمنين عليهم أن يعدوا ويستعدوا لعدوهم، حتى يغلب على ظنهم الظفر، لكنّ توقع الظفر ليس مبنيًّا على مبدأ تكافؤ القوى بإطلاق، وإنّما لابد أنْ نضع في الاعتبار الفارق الذي يحدثه لدى المؤمنين إيمانهم بالله ويقينهم به وطلبهم للجنة ونعيمها، هذا الفارق - على الأغلب - لا يقل عمّا في الآية الأولى، ولا يزيد عمّا في الآية الثانية، فإن قلّ عن الأولى أو زاد عن الثانية في أحوالٍ نادَّةٍ ونادرة فذلك استثناء يندُر وقوعه، ومن المعلوم أنّ "النادر لا حكم له"، فلا يؤثر في استقرار القاعدة العامة واطرادها.
فالمؤمنون في أدنى أحوالهم لا يُغلبون من مثليهم عددًا وعُدة، وفي أعلاها لا يُغلبون من عشرة أمثالهم عددًا وعدة، وبين هذين الحدَّين يترددون بحسب قوة الإيمان وعمق اليقين، فعلى القيادة الخبيرة أن تقدر الأمور واضعةً في الحسبان هذا المستوى الذي يختلف ويتباين، وهذا لا يعني استحالةَ أن يُغلَبوا من أقل من مثليهم عددًا وعدة، ولا استحالةَ أن يَغلِبوا أكثر من عشرة أمثالهم عددًا وعدة، لكنّ الأغلب هو أنْ يغلِبوا مثليهم عددا وعدة في أدنى أحوالهم، وأن يغلِبوا عشرة أمثالهم عددا وعدة في أعلى أحوالهم، والعبرة للغالب لا للنادر، فتبقى القاعدة مطرة بين هذين الحدين، وما شذَّ عنهما فله حكمه الخاص به.
وقد اختلف المفسرون والفقهاء في الآيتين اختلافًا عريضًا، ونستطيع أن نخرج من هذا الخلاف الحدّيّ بأن نقول: إنّ الحديث هنا ليس عن شرط الاستطاعة الذي يناط بالمكلف، وليس كذلك خبرًا مجردًا يأتي على وجه الإخبار عمّا سيجري، وإنّما الحديث عن ضابط من الضوابط التي يجب مراعاتها عند تقدير مدى توفر شرط الاستطاعة الذي يتخذ في ضوئه قرار الحرب في جهاد الطلب، ففي البداية كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم وحدهم المخاطبون بالجهاد، وكانوا على المستوى الأعلى من اليقين وطلب الآخرة، لكن لمَّا دخل الناس في دين الله أفواجًا صار الصفّ المؤمن عريضًا يشمل السابقين الأولين ومعهم الآخرين الأضعف منهم يقينًا وصبرًا وثباتًا، وبطبيعة الحال صار الصفّ الكافر المواجه لهم أعرض من سابقه لاتساع دائرة الصراع مع اتساع رقعة الدعوة الإسلامية.
فكان من الطبيعيّ أن يضعف العامل الإيمانيّ الذي يسهم في تقدير الاستطاعة عمّا كان في السابق، فلو أنّ الله تعالى أبقى التقدير لهذا العامل - عامل قوة الإيمان - على الحال الأول لكان في ذلك عنت ومشقة؛ إذْ سيدفعهم ذلك إلى اتخاذ قرار الحرب دون إعداد كافٍ يُبنى عليه توقع الظفر الذي هو شرط لاتخاذ القرار؛ فخفف الله عنهم، بأن جعل دور العامل الإيمانيّ في تقدير الموقف يهبط من المستوى المعروض في الآية الأولى إلى المستوى المعروض في الآية الثانية، وبهذا لا نكون بحاجة إلى الصدام بين قولين، أحدهما يذهب إلى أنّها خبر والآخر يذهب إلى أنّها أمر، ونقول: إنّها استراتيجية إعداد.
أمّا الطريقة الحدِّيَّة التي تعامل بها الفقهاء والمفسرون مع الآيتين فلا أحسبها تنتج تصورًا صحيحًا لوضع السياق في الآيتين، وربما يوقع ذلك المسلك في إشكالات يعتاص معها الفهم العام لشروط الجهاد، والحقيقة أنّ ربط الآيتين بمسألة الفرار من الزحف ليس صحيحًا، فالفرار ليس جائزًا على أيّ حال، والتحَرُّف للقتال والانحياز إلى فئة إذا دعت حاجة القتال إليه جائز على كل حال، ولا علاقة لهاتين المسألتين بآيتي التحريض والإعداد وتقدير الموقف قبل اتخاذ قرار الحرب، فحرمة الفرار من الزحف تتعلق بالحرب أثناء اشتعالها واستعارها، فيحرم الفرار إلا على وجه التحرف والانحياز إلى فئة، أمّا هنا في آيتي التحريض والإعداد وتقدير الموقف فحديث آخر يتعلق بمسألة تقدير مدى الاستطاعة قبل بدء الحرب ومستوى تأثير عامل الإيمان في هذا التقدير.
بهذا الذي قدمناه تكون الآيتان قد وضعتا معيارًا ربّانيًّا يسهم في تقدير الموقف قبل اتخاذ قرار المعركة في جهاد الفتح والغزو خاصَّة، وهو معيارٌ لتحديد درجة الإعداد المعنويّ ومستوى القوة النفسية؛ ليراعَى عند تحديد مستوى الجاهزية التي في ضوئها يمكن أن يقال إنّ شرط الاستطاعة قد تحقق؛ وذلك لئلا يُترك الأمر للتقدير الذي يبالغ في اعتبار القوة المادية، والذي قد يتخذ من الألفاظ والجمل المطاطة ذريعة لتعطيل الفريضة، من مثل ذلك المصطلح الذي استخدمه الشيخ الطريري "توازن القوى" و"تكافؤ القوى" والذي أسنده كله لأهل الخبرة العسكرية؛ ليجرده من النَّفَس الشرعيّ الذي يربطه بالآيات"([1]).
والعجيب أنّ الشيخ سحب هذا الكلام حتى على جهاد الدفع، بل إنّه لا يقصد به إلا جهاد الدفع؛ لأنّه من حيث الأصل ينكر جهاد الطلب، حتى إنّه لَيُبطل المقاومة الفلسطينية بجرَّة قلم هكذا: "هل سيقال في عصرنا الحاضر لأهلنا في فلسطين: إنّ عليهم أن يقاتلوا بما يستطيعون من قوة يمكنهم إعدادها ولو كانت عصيّ المكانس وسكاكين المطابخ؟ فهذا ما يستطيعونه، فهذا ما لا يقوله أحد"([1])، والصحيح أنّ الذي لا يقول به أحد هو أن تمتلك "سعوديته" و"مصرنا" طائرات إف 16 وجيوشًا هي الأضخم في المنطقة ولا تتحرك لدفع العدوان عن غزة وفلسطين!
أمّا شرط إذن الإمام فالواقع أنّه تحصيل حاصل؛ لأنّ اتخاذ قرار الحرب منوط أصلًا بالإمام، فإن عدم الإمام عاد الأمر للأمة التي بايعت الأمام على أن يتوكل عنها في قيادة الأمة، فإذا عُدِمَ الوكيل بقي الأصيل، يقول الإمام ابن قدامة: "وأمر الجهاد موكولٌ إلى الإمام ... فإن عُدِم الإمام لم يؤخر الجهاد؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره، وإن حصلت غنيمة، قسمها أهلها على موجب الشرع"([2])، وإذا كان ابن قدامة قد بين التصرف في شأن الجهاد عند شغور الزمان من الإمام، وقضى بأنّ الجهاد لا يتعطل بفقد الإمام؛ فإنّ غيره من العلماء قد تطرقوا لسائر التصرفات، فعلى سبيل المثال يقول الإمام العزّ ابن عبد السلام: "وقد ينفذ التصرف العام من غير ولاية"([3])، وهو كلام - وإن كان في موضوع آخر غير موضوع الجهاد - فيه التصريح بنفاذ التصرف العام من دون أن يكون ثم إمام،وذلك عند الضرورة، وهذا الإمام الجوينيّ يقرر القاعدة المطردة في السياسة الشرعية في أزمان الفتن: "فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلىعلمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد"([4])، فهذا التقعيد يستفاد منه أنّ الجهاد لا يتوقف على إذن إمام إذا خلا الزمان من إمام قوّام بشريعة الإسلام، ولا ريب أنّ هذا الزمان شاغر من الإمام ومن كل سلطان قوّام بشريعة الإسلام.
وإذا كان جهاد الطلب لا يتوقف على وجود الإمام؛ فكيف يتوقف عليه جهاد الدفع الذي أجمع العلماء على أنّه فرض عين لا فرض كفاية كجهاد الطلب، والذي لأجله أسقطوا كثيرًا من الشروط التي وضعت لجهاد الطلب على كل المستويات، فلا ريب أنّ تجاوز شرط إذن الإمامفي جهاد الدفع عند خلو الوقت من الإمام أمر محتم وشأن مقدم، ولا نظر ولا اعتبار بأقوال المخذلين المثبطين الذين يرومون تعطيل الجهاد إلى يوم الدين، والذين وجدوا في الشروط بيئة للعبث بأحكام هذه الفريضة العظيمة.
ثانيًا شروط اتخاذ قرار الحرب في جهاد الدفع
سبق أن بيّنا أنّ جهاد الدفع يختلف عن جهاد الطلب في الحكم وفي شروط الحكم، فجهاد الطلب واجب وجوبًا كفائيًّا، أمّا جهاد الدفع فهو واجب وجوبًا عينيًّا، ومن ثمّ فشروط وجوب جهاد الدفع أخفض من شروط وجوب جهاد الطلب، وهذا ظاهر غاية الظهور في أقوال العلماء الذين نقلنا عنهم آنفًا، ففي جهاد الدفع تخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن سيده والولد بغير إذن والديه والمدين بغير إذن الدائن، بخلاف جهاد الطلب؛ مما يعني أنّ ارتفاع درجة الحكم في جهاد الدفع يقابلها انخفاض في مستوى الشروط، وهذا أمر طبيعيّ، وقد سقنا من قبل أقوال العلماء فلا حاجة للتكرار.
وكما وقع التخفيف في شروط الوجوب يقع التخفيف أيضًا في شروط اتخاذ قرار الحرب، فمما لا شك فيه أنّ قرار الحرب في جهاد الدفع لا يتوقف على الدعوة والبلاغ، فلا يقول عاقل بأنّنا لكي ندفع العدو عن بلادنا يجب أن ندعوه أولًا للإسلام، فهذا الأمر البدهي شاهد على أنّ خفض مستوى الشروط في الدفع أمر طبيعيّ تقتضيه طبيعة هذا النوع من الجهاد، وكذلك بالنسبة لإذن الإمام فقد نقلنا عن العلماء أنّهم قالوا إذا عُدم الإمام لم يتوقف الجهاد عليه، بل لم يتوقف أيّ أمر من الشأن العام أمكن فعله وتيسرت أسبابه وإمكاناته، وقد سقنا أقوال هناك أقوال العلماء وتعليلاتهم؛ فليرجع إليها.
والأمر في جهاد الدفع أهون، فعلى الرغم من كون إذن الإمام واجب لكون الجهاد من المهام العظام التي تناط في الأصل بنظر الإمام، إلا أنّه إذا عُدم الإمام لم يتوقف الجهاد على إذنه، وكذلك إنْ لم يتيسر الوصول إليه لأيّ سبب، كأنْ يقع العدوان على طرف من بلاد المسلمين والإمام قائم، ولكنّ انتظار أوامره - وبين الناس وبينه مسافات - سيؤدي إلى اصطلام العدو لبلاد الإسلام؛ فلا انتظار لإذنه، وهل من المعقول أو المقبول أن يتوقف هبوب الناس لدفع العدوان على إذن الإمام الذي كانت تواريه المسافات الطوال بلا وسيلة من وسائل الاتصال؟ إنّه لا يقول بهذا إلا من فقد عقله أو دبّ فيه داء الخبال؛ وإنّ الجهاد فريضة على المسلمين لا تتوقف على وجود الإمام إن كان معدومًا أو غائبًا.
والحقيقة أنّه إذا أوجب الله تبارك وتعالى أمرًا فإنّ اشتراط شروط للوجوب تقييدٌ لهذا الواجب الذي أوجبه الله وفرضه على العباد؛ وتقييد خطاب الله تعالى - ولاسيما ما كان بالإيجاب - لا يجوز إلا بدليل صحيح صريح، وإلا كان افتئاتًا على الله عزّ وجل، فمن قال بشرط إذن الإمام لوجوب الجهاد أو لوجوب اتخاذ قرار بالحرب في زماننا الذي شغر من إمام أو سلطان عام لبلاد الإسلام؛ قلنا له: أين الدليل الذي يحملنا على تقييد الوجوب الذي هو خطاب الله تعالى للمكلفين؟ فإن قال: مصلحة انتظام أمر الأمة وانضباط حركتها الجهادية في مواجهة الأعداء بما يضمن تحقق القوة في القتال؛ قلنا له: قد كانت هذه المصلحة قائمة عند وجود الإمام، واليوم زالت بزواله؛ فلا وجه لاشتراط أمر لا دليل عليه وتقييد الوجوب به، فإن تم الأمر باستئذان أهل الحل والعقد عند شغور الزمان من السلطان، أو تم باستئذان المعنيين من العلماء العاملين للإسلام عند خلو الزمان من المؤسسة الجامعة لأهل الحل والعقد، ألا يكون هذا كافيًا في تحقق المصلحة التي توخاها العلماء من اشتراط شرط كهذا؟!
وما يبدو لي أنّ الارتباك مصدره نقل المسألة من مكانها، فاستئذان الإمام في إنفاذ أمر يختصّ بالشأن العام مسألة لها مكانها في فقه السياسة الشرعية، وبالتحديد في زاوية وجبات الرعية تجاه الإمام وحقه عليهم، وفي مساحة الأحكام المنظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وليس في مساحة شروط الجهاد، فما أتصوره - والله تعالى أعلم - هو أنّ الجهاد لا يتوقف على شرط إذن الإمام، بحيث إذا عدم الإمام عدم الجهاد على النحو الذي تقرره فلسفة الشروط، وأنّ استئذان الإمام عند وجوده واجب - وليس شرطًا - لأنّ الجهاد من الشأن العام، فأيما شخص أو جماعة قاموا بالجهاد من تلقاء أنفسهم لدى وجود الإمام وقيامه بوظائفه فقد ارتكبوا محرمًا - أو مكروها كما قال الشافعية - وهذا المحرم أو المكروه ليس هو إنفاذ الجهاد، وإنّما هو الافتئات على الإمام، تماما كأن يتولى وليُّ الدمِ القِصاصَ من القاتل بنفسه دون إذن الإمام عند قيامه، فهو مفتئت على الإمام؛ فيأثم بافتئاته لا بإنفاذه لحكم القصاص.
ومن دقق في أقوال العلماء تبين له أنّ الشروط التي وضعوها للجهاد، سواء على مستوى الشروط التي تتعلق بالمكلفين، والتي سميت شروط الوجوب، أو على مستوى الشروط التي تتعلق بالمسئولين، والتي أطلقنا عليها شروط اتخاذ قرار الحرب، أو حتى على مستوى الشروط المتعلقة بحقوق الآخرين، جميع هذه الشروط قُصد بها جهاد الطلب، الذي كان مقصودًا للعلماء لدى حديثهم عن أحكام الجهاد، وهذا هو الذي يفسر استطراد العلماء لبيان خروج جهاد الدفع في حكمه وشروطه عن هذا الإطار واختصاصه بأحكام أشدّ وشروط أخف لم تذكر في السياق الأول الذي تحدثوا فيه عن جهاد الطلب.
والحديث عن شروط اتخاذ قرار الحرب في جهاد الدفع لم يأت في كتب العلماء مجموعًا في مكان واحد، ولم يأت واضحًا، وإنّما تخلل السياقات على استحياء وخفوت، وذلك لأنّ جهاد الدفع لم يكن يمارس في أيام عزّ الإسلام إلا نادرًا؛ فلم يحظ بعناية العلماء كجهاد الطلب، غير أنّنا نستطيع أن نستنبطها من خلال معرفة الفرق بين طبيعة كل نوع من النوعين، مع مراعاة مقاصد التشريع، والاستئناس بالأقوال المتفرقة لبعض العلماء، وإذا كنَّا قد تعرضنا لشرط إذن الإمام ولشرط تقدم الدعوة وبيَّنَّا ضرورة تجاوزهما، فإنّنا بحاجة إلى الوقوف قليلًا عند شرط الاستطاعة، هل سيشترط هذا الشرط في جهاد الدفع بنفس التركيبة التي تحصل في جهاد الطلب، أي الإعداد مع توقع الظفر؟ أم ماذا؟
لا نملك أنْ نقول إنّ شرط الاستطاعة لاتخاذ قرار الحرب في جهاد الدفع مهدرٌ، ولا نستطيع كذلك أنْ نتجاهل الفرق بين جهاد الدفع الذي فُرِض على الأعيان وجهاد الطلب الذي فُرض على الكفاية، هذا من جهة الشكل، أمّا من جهة المضمون فإنّ الانتظار بقرار الحرب إلى حين استكمال الإعداد وتوقع الظفر قد يفضي إلى عدم التمكن أصلًا من الإعداد؛ لأنّ المعتدِي لا يُنظر المعتدَى عليهم حتى يُعِدُّوا إلى أن تبلغ قوتهم مستوى تَوَقُّع الظفر، ولأنّ العدو إذا استولى على بلد من بلاد الإسلام فإنّه يمثل خطرًا داهمًا على دين الناس وعلى أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم؛ فلا يصح الإبطاء في دفعه ولا التواني في جهاده، وليس المسلمون في هذه الحال في سعة من أمرهم كحالهم وهم يرتبون لجهاد الغزو والطلب؛ وعليه فإنّه من غير المقبول شرعًا ولا عقلًا أن ينتظر المسلمون إلى حين توقع الظفر؛ فجميع ما وضعت الشريعة لحفظه من المقاصد الضرورية معرض للخطر، ومن ثمّ فإنّ الاستطاعة التي هي شرط لاتخاذ قرار الحرب في جهاد الدفع لا يشترط لتحققها توقع الظفر، وإنّما الإعداد وحسب؛ لأنّه هو المأمور به.
وحتى الإعداد ليس كالإعداد لجهاد الطلب، لأكثر من سبب، أولها: أنّ جهاد الطلب غزوٌ وفتحٌ وحربٌ تجري على أرض غير أرض الإسلام؛ فتحتاج إلى مزيد استعداد، ولاسيما مع ما يُتوقع من تحصن الأعداء، ثانيها: أنّ جهاد الطلب يمارسه المسلمون وهم في سعة من أمرهم؛ فلا غضاضة أن يستوثقوا من قدرتهم على الحسم بمزيد من الإعداد، ثالثها - وهو الأهم - أنّ تعرُّض بلاد المسلمين لغارة الكافرين، وما يستتبعه ذلك من استباحة للدين والنفس والعرض والمال والنسل؛ يورث المسلمين طاقة من الغضب تشعل مشاعرهم وتشحذ قلوبهم، وترفع من مستوى العامل النفسيّ الذي يجب وضعه في الاعتبار لدى تقدير واقع المسلمين وقوتهم، وهو الذي أشارت إليه الآيتان: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)) (الأنفال: 65-66).
فإذا كان المسلمون وهم في أدنى حالاتهم من حيث الطاقة الإيمانية ومن حيث مستوى اليقين والتوكل والصبر وتقديم الآخرة على الأولى وطلب الشهادة يغلبون مثليهم عددًا وعدة - وذلك في جهاد الغزو والطلب - فإنّهم في جهاد الدفع يغلبون أكثر من مثليهم قطعًا، وإذا كانوا وهم في أعلى حالاتهم يغلبون في جهاد الغزو والطلب عشرة أمثالهم عددا وعدة؛ فإنّهم في جهاد الدفع يغلبون أكثر من عشرة أمثالهم قطعًا، وما بين الأدنى والأعلى ينطبق عليه نفس القانون؛ لأنّ دوافع الدفع أقوى من دوافع الطلب، في تحريكها لمكامن القوة النفسية الذاتية في كل فرد من أفراد الجماعة المسلمة، وهذا كله مما لا شك فيه ولا ارتياب، ولا تعارض بين هذه الدوافع وبين دوافع الانتصار لدين الله، إذا خلصت النوايا.
والغرض من الإعداد في جهاد الدفع هو - فقط - أخذ الأهبة والاستعداد بما تيسر للمسلمين من سلاح وعتاد وترتيب للصفوف وإحكام لخطة الدفع؛ لئلا ينفرط عقدهم عند اللقاء، فهو أقرب إلى الواجب المقارن لواجب الدفع منه إلى الشرط الذي يتوقف عليه اتخاذ قرار الحرب، والواقع أنّ الإعداد والاستعداد وأخذ الأهبة واجب، وأنّ الجهاد واجب أيضًا، لكن لأنّ واجب الإعداد مقدِّمَةٌ لواجب الجهاد ومقدَّمٌ عليه من جهة الوقت؛ صار الإعداد شرطًا لاتخاذ قرار الحرب ولاسيما في جهاد الطلب، وهو كذلك في جهاد الدفع، ولكن يكفي فيه المستوى الذي لا يجعل الدفع يتراخى بما يُمَكِّن للأعداء.
ومن هنا نقول: إنّ حدّ الإعداد لجهاد الدفع ألا يؤدي إلى التراخي الذي يُمَكّن للعدو، وهو بذلك يختلف في تنزيله وتطبيقه من زمان لآخر ومن مكان لآخر ومن حال لآخر، ففي زمان عزّ الإسلام ووجود الإمام العام القوام بمصالح الأنام، يكون الاستعداد بسرعة الدعوة من الإمام للنفير العام، مع ما يلزم لذلك من ترتيب الصفوف واستدعاء الاحتياط واستخراج السلاح ووضع خطة الدفاع، وينبغي أن تكون الخطة موضوعة للدفع الكامل، وربما للمضي بعد الدفع إلى غزو الغزاة في عقر دارهم.
أمّا إذا تمكن العدو في أزمان ضعف المسلمين من البلاد وأحكم السيطرة عليها؛ فإنّ الإمام - أو من يقوم مقامه عند غيابه كأهل الحل والعقد أو من تيسر حضوره منهم - يتخذ القرار بالدفاع بلا تراخ ولا تأخير، ولكن توضع خطة الدفاع بما يؤدي إلى إماطة العدوان واقتلاع جذوره على المدى الذي تسمح به قوة المسلمين، فلا يتأخر الدفع ولا يتوقف، ويمضي الدفاع عبر مسيرة من المقاومة تعتمد الإنجازات التراكمية، التي تبدأ بالنكاية في العدو وإضعاف قوته، وتمر بتمزيق شمله وقطع أمله في البقاء، وتنتهي بدفعه عن البلاد وإجلائه عن دار الإسلام، وأثناء ذلك تنمو المقاومة وتزداد خبرة وقوة يومًا بعد يوم، ويلزم من ذلك جملة من أخلاق الشدة يتخلق بها الجميع، كالمفاصلة والعداوة مع الأعداء المعتدين، والكفر بجميع ما عليه الأعداء، وغير ذلك مما يجب استصحابه وتضخيمه حتى لا يقع الناس في الولاء للكافرين، كما يجب على القادة والزعماء بث روح العداء لهؤلاء المعتدين الجبناء.
التطبيق على الواقع الفلسطينيّ وموجة طوفان الأقصى
إذا أردنا أن نضرب مثالًا من الواقع للدفاع حال ضعف الأمة وتمكن الأعداء منها، فإنّ أوضح مثال على ذلك هو الاحتلال الصهيونيّ لفلسطين، فإنّ الواقع أنّ الصهاينة استعانوا بإخوانهم من الإنجيليين الإنجليز ثم الأمريكان، وبإخوانهم من صهاينة العرب الخونة العملاء، وتمكنوا من احتلال البلاد، فلو أنّ الأمة العربية والإسلامية استمرت في مقاومة هذا العدوان من وقت مبكر ودون تراخ أو توقف لما استقر هذا الاحتلال ولا تمكن من بناء هذه الترسانة العسكرية وهذه الدولة القوية الممكنة، وفي المقابل، لولا وجود المقاومة الفلسطينية ومحاولاتها المستمرة - على ضعفها وعدم قدرتها على الحسم - لكان الصهاينة قد تمكنوا من إنجاز مشروع إسرائيل الكبرى، ولأنهوا من عقود هدم الأقصى وبناء الهيكل، ولتوسعوا بشكل يهدد جميع دول المنطقة ولاسيما دول الطوق، وإذا استمرت هذه المقاومة ونمت وتمددت - وهذا حاصل إن شاء الله - فسوف تستفيد من النتائج التي تراكمت عبر العقود الماضية لتثب إلى مرحلة الحسم بإذن الله، ولاسيما مع تفاعل الأمة الإسلامية في كل مكان مع القضية، ولولا المقاومة بالحجارة ما جاءت المقاومة بالسكاكين والأسلحة الخفيفة، ولولا هذه أيضًا ما تطورت إلى ما نراه اليوم في غزة، فالمقاومة والإعداد يمضيان على خطين متوازين، وإن كان الإعداد يسبق المقاومة بخطوات، وكلاهما ينمو ويتطور وتتراكم نتيجته، وطوال المسيرة يكتسب قوة على حساب مشروع العدو الصهيونيّ، وقد جاء طوفان الأقصى في هذا السياق، وقد أعدّت المقاومة العدة بحسب استطاعتها، واستفرغت في هذا وسعها، إلى الحدّ الذي اضطرها لتقحم بعض ما كانت في غنى عنه لو أنّ الدول المنتسبة للسنة يسرت لها ولو قليلًا من الدعم، وعندما اتخذت قرارها بالهجوم كانت قد أعدت من السلاح والعتاد والتدريب والمعلومات وغير ذلك ما تطمئن النفس بأنّ واجب الإعداد قد تحقق.
هل المصلحة شرط لوجوب الجهاد أو لاتخاذ قرار الحرب؟
لا ينكر أحد دور المصلحة في كل ما هو من قبيل التنزيل كاختيار التوقيت واتخاذ قرار الحرب في الوقت المناسب والنظر في مدى تحقق شرط الاستطاعة وما شابه ذلك، أمّا أنّ حكم الجهاد يتحدد في ضوء المصلحة، وأنّ وجوبه يشترط له تحقق المصلحة؛ فهذا قطعًا يفتح الباب على مصراعية للتلاعب بحكم الوجوب، ولتعطيله وإيقافه، وهو مع ذلك افتئات على الربّ تبارك وتعالى؛ لأنّ القرآن الكريم حسم هذه القضية، وأغلق الباب دون من يحاول أن يعبث بعقله عند تخومها، ففي البداية ولدى فرض هذه الفريضة أول مرة نزلت هذه الآية التي تقرر أنّ الله تعالى - إذْ فرض الجهاد - يعلم ما لا يعلمه الناس عن نتائجه وآثاره، ومنافعه ومضاره، ويعلم غلبة مصالحه ومنافعه على مفاسده ومضاره، فالمبالغة في حساب العواقب تجعل الناس يكرهونه وهو خير لهم، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216).
ومن هنا نقول: إنّ إطلاق القول بتوقف الجهاد على المصلحة دون بيان للمساحة التي ينظر فيها بمنظور المصلحة مجازفة وافتئات على الشريعة المحكمة، وقد اشتطت أقلام كثيرة فخرجت عن الاعتدال في النظر لهذه المسألة، ودفعها غلو البعض ممن لم يلتفت للمصلحة في التزيل واختيار التوقيت إلى أن تقع في غلو مقابل بجعل المصلحة شرطًا لوجوب الجهاد، من مثل قول الدكتور الطريري: "فالجهاد مبني على المصلحة استدلالا وتقييدا"([5])، هكذا بهذا الاتساع المستغرق! ومن مثل صنيع كتاب "مبادرة وقف العنف"([6])، حيث قد توسع في وضع شروط وموانع تفضي إلى تعطيل الفريضة ليوم الدين.
"ولا يمكن بحال من الأحوال أن يُظَنَّ في العقل خيرًا ورشدًا إن لم يتبع الوحي في العقيدة والشريعة، وهذه حقيقة تاريخية يشهد بها العدو والصديق فإن العرب بل أمم الأرض كلهم قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تنفعهم عقولهم ولم تدلهم على مصالحهم - لأن العقل وحده لا يحدد المصلحة والمفسدة - فقد كان قويهم يأكل ضعيفهم - كما هو الحال في هذا العصر - وكانت أحكامهم لا تحرم الزنى ولا الربا ولا الخمر - كما هو شائع في هذا العصر - وكانوا جدّ مضطربين متناحرين متباغضين فقد قسمتهم أهواؤهم إلى قبائل وأمم متناحرة وطبقات يأكل بعضها بعضًاكما هو الحال في كل زمان أعرض عن حكم الله ورسوله، وذهب يترجى الهداية - بزعمه - عند العقل البشري الذي لا يتبع الوحي([7])، فيجب الاقتصاد والاعتدال مع الثقة في حكم الله تعالى ووحيه المعصوم.
الردّ على المشككين في جدوى طوفان الأقصى
بينما العالم كله يتابع ما يجري بإكبار لأهل غزة واحتقار للصهاينة؛ إذْ بأصوات من هنا وهناك تعلو على استحياء، لكنّها برغم خفوتها توجع، وتبذر في أنفس الضعفاء شيئًا من الارتياب، ولهؤلاء نقول: إنّ المقاومة هي المقاومة ولا صوت يعلو فوق صوتها، هي التي تعرف متى تُقْدِم ومتى تُحْجِم، وهي التي تُقَدِّرُ بمعاييرها وتقيس بمقاييسها وتدرك بخبراتها المتراكمة وتجاربها الحية حجم المصالح والمفاسد، وقدر المغانم والمغارم، ومستوى المنافع والمضار، وجهادُها لعدوٍ تدعمه دول الغرب كافّة، وتُطَبِّعُ معه دول العُرْبِ عامّة لا يمكن أن يسمى فتنة إلا في فقه الاستكانة المدخلي المخادن لأمراء الفتنة الذين خرجوا من قرن الشيطان، وكيف يكون الجهاد فتنة وهو لم يشرع إلا لدفع الفتنة؟! فاستحيوا من أنفسكم التي أخْفَتْ اللحى قبائحها، ولا تنسبوا أنفسكم للسلفية، فإنّ اتباع السلف يكون في جهادهم قبل كل شيء.
عليلٌ من تُعْيِيه معرفة الطبيعة التي تصطبغ بها هذه المعركة، وكَلِيلٌ من لا يراها صدامًا حتميًّا بين حقٍّ واضحٍ كفلق الصبح وباطل مظلم كغسق الليل، عليلٌ وكليلٌ من ينظر إلى ما يجري فيحار فيه ويحاول أن يجد له في معايير الواقع البليد مقياسًا ينطبق عليه، إنّ ما يجري ليس نزاعًا بين قوتين على أمر تختلف فيه الحسابات والتقديرات؛ فلا تكاد العقول تستقر في إدراك حقيقته على حال، إنّه ليس صراعًا من جنس ذلك الذي يجري على الأرض اليوم حول مصالح تنزاح وتنداح هنا وهناك في مراوغة وخَتَل؛ فلا يدري القاتلُ فِيمَ قَتَل، ولا المقتولُ فِيمَ قُتِل، وإنّما هو صراع بين حقٍّ صريح وباطل صريح، بين مقاومة تدفع العدو عن الأوطان التي اغتصبها والمقدسات التي استباحها، وبين محتل غاصب غاشم لا حق له في شيء قطّ؛ لذلك لا تقاس النتائج والمقدمات بالمقايس ذاتها التي تقاس بها سائر الصراعات، وغالبًا ما تتسع زاوية النظر لمن يروم باعتدال تقييم النتائج والحكم بموجبها على المقدمات؛ فلا تقف عند الحسابات الحسّية الضيقة، بل تتجاوزها إلى آفاق من المعاني التي تحييها المقاومة في الأجيال.
لا نستبعد أن يقع شيء مما نخشاه، ولو استبعدناه فلن نغير شيئًا من قدر الله، ولو أنّ غَزَّةَ فَنِيَتْ عن آخرها - لا قدر الله - وأُجهضتْ بالتبعيةِ المقاومةُ - لا سمح الله - فلن يقلل ذلك من نصر الله؛ ذلك لأنّ حقيقة الانتصار لا تنحصر في صوة واحدة "الحسم العسكريّ"، فإنّ الثبات إلى الممات نصر يلهم الأجيال، وإنّ دماء الشهداء التي بذلت من أجل تحطيم الأوهام وتكسير الأصنام وإسقاط الأساطير وهدم جدار الخوف والوهن مقدمة أكيدة للنصر الكبير، ومن أراد أن يعرف قدر وحجم ووزن ما حققته المقاومة من إنجاز حقيقيٍّ فليصرف نظره وتقديره إلى قدر وحجم ووزن التغَيُّرات التي أحدثها فِعْلُ المقاومة في نفوس المسلمين والكافرين على السواء، وكذلك في نفوس الشعوب التي تعيش فيما يشبه الفترة، مُغَيَّبَةً عن الوحي، لقد رفعت الأحداث هِمَمَ المسلمين وألهمتهم من المعاني ما فقدوها تحت مطارق الانقلابات والحروب الأهلية، وأرعبت الكفار المعتدين وكشفت ضعفهم وتهافتهم وزيف ادعاءاتهم، وأسعدت الكثيرين من المغيبين في العالم بمعرفة الحقّ الذي تتوق إليه نفوسهم ويتحسسونه حولهم فلا يجدونه، إنّها انتصارات وليست نصرًا واحدًا، ومع ذلك فإنّنا نرجو ما ليس على الله بعزيز: "الحسم".
إنْ قلت إنّ المقاومة في غزة بطوفانها هذا اقتلعتْ الأساطير الإسرائيلية من جذورها، أو قلت إنّها بضرباتها الرشيقة المتتابعة دَقَّتْ المسمار الأخير في نعش النظام الدوليّ، بعد المسمار الذي دَقَّتْهُ أحداث أوكرانيا، ودَقَّتْ المسمار الأخير في نعش جامعة الدول العربية - التي قام أمينُها العام يتهم حماس بالإرهاب دون أن يقدم شيئًا للشعب الفلسطيني الأعزل - بعد المسامير التي دقتها الأحداث الأخيرة في ليبيا واليمن والسودان، وبعد أن لعقت الجامعة بشَّارًا بعد بصقها له، أو قلت إنّ جملة الأحداث - من لدن طوفان الأقصى إلى هذه الليالي الأكثر بشاعة - تمثل صيحة كصوت الحادي أو كنداء المؤذن، سيكون لها سريان في جيل أقعده اليأس كسريان مادة الحياة في الشجرة الجرداء؛ إن قلت شيئًا من ذلك أو تجشمت قول ذلك كله؛ فلن تكون راكبًا متن الشطط، ولا ممتطيًا من الزعم نَشَزًا نائيا.
لقد ارتقت المقاومة في جهادها للعدو الصهيونيّ من مستوى تهديد الاستقرار إلى مستوى تهديد الوجود، ومن رتبة العمليات الجزئية إلى رتبة المواجهة الشاملة، ومن استراتيجية الدفع إلى استراتيجية التحرير، لقد وثبت المقاومة وثبة عالية بهذا الطوفان، شبت بها عن الطوق، وتجاوزت بها عقدة الحسابات المعقدة، ومن المنتظر أن تُعيد للعقل السياسي العربي شيئًا من الوعي الصحيح بالموقف،ولقد طوى طوفان الأقصى جميع اتفاقيات التطبيع وحَوَّلَها في صبيحةٍ عابرة إلى أطلال غابرة، وأفرغها من محتواها وجردها من جدواها، وجعلها "خارج الخدمة" في العمق العربيّ والإسلاميّ كله؛ إذْ لا جدوى لتطبيع لا تتشربه الشعوب؟! بعد هذا الأثر البالغ العمق هل يمكن أن نقول إنّه قد آن الأوان لأن تتجاوز الشعوبُ الأنظمة؟ ولاسيما بعد بروز التباين الشديد في المواقف، هل هذا هو أوان التخطّي الذي يمكن أن يستلهم طوفان الأقصى لاستعادة المسار، ولكن بأمواج أعلى وهدير أقوى؟
ولو لم يكن للكيان الصهيونيّ من مظاهر الغطرسة والبطش والكبرياء والعلو إلا ذلك الذي يمارسه في الأرض المقدسة، من احتلال وقتل وسجن وسحل وتهجير ومطاردة، وارتكاب لمجازر متتالية ومذابح متتابعة متوالية، مع انتهاكٍ ممنهجٍ للمسجد الأقصى، وإصرارٍ على اقتحامه وتدنيسه، وقتلٍ وأسرٍ للقائمين والعاكفين والركع السجود، وتآمرٍ لفرضِ التقسيم المكاني والزماني بلا أدنى حقّ؛ لو لم يكن إلا هذا ولم يقع إلا هذا لكان كافيًا في وجوب المسارعة إلى اتخاذ قرار الحرب واستمرار المقاومة ووضع الأمة كلها في حرج لعلها تتحرك بأنظمتها أو تتجاوزها وتتحرك خلف علمائها، فكيف وقد طال حصار غزة وطال عذابها ولم يعد باستطاعتها أن تستمر على هذا الحال إلا مع مزيد من تسلط الهيئات الدولية وتدخلها في مصير شعب غزو من خلال المؤسسات الداعمة اقتصاديا الغازية ثقافيا ك(الأونروا) وغيرها؟
إنَّ المقاومة ليست دولة مستقلة منفردة لا شأن لنا، بها حتى نجلس في برج عاجيٍّ ننظر إليها ونحاسبها على القرارات، إنّها رأس حرب الأمة الممتدة شرقًا وغربًا والبالغة مليارين من المسلمين، وإذا كانت الأمة معاقة وعاجزة بأنظمتها المطبعة مع الكيان الصهيونيّ عن مجرد فك الحصار عن غزة، وإذا كانت شعوبها عاجزة عن الضغط على إنظمتها لكي تتخذ موقفًا بسيطًا تجاه الاعتداء على الأقصى وحصار غزة، ولو بسحب السفراء وطرد السفراء، إذا كنّا عاجزين عن شيء من هذا على بساطته؛ فلنكن عاجزين كذلك عن توجيه النقد، أم إنّ العجز هو الآخر صار بالخيار كسائر ما نهوى؟!
نعم قد يكون في صدورنا بعض النصائح نحب أن نسديها لإخواننا، فيما يتعلق بالتواقيت وما شابهها من الأمور التي هم في الأصل أدرى بها منّا باعتبارهم أهل الثغر؛ فليكن ذلك بعد أن تضع الحرب أوزارها، عندها نقول ونسمع ونعطي ونأخذ ونقارع الحجة بالحجة، فقد نجد أنفسنا على خطأ في تصورنا، وقد نجد عندنا بعض الصواب الذي يمكن أن ننفعهم به، أمّا والحرب تطحنهم فلا.