العلم الذي نوَّه به القرآن، وحفلت به آياتُه، يشمل كل معرفة تنكشف بها حقائق الأشياء، وتزول به غشاوة الجهل والشك عن عقل الإنسان، سواء أكان موضوعه الكون والطبيعة، أم موضوعه الإنسان، أم موضوعه الوجود والغيب، وسواء أكانت وسيلة معرفته الحس والتجربة، أم وسيلته العقل والبرهان، أم وسيلته الوحي والنبوة.
فليس صحيحًا ما شاع عند الغربيين ومَنْ دار في فَلَكهم: أنَّ العلم مقصور على ما قام على الملاحظة والتجربة، وليس صحيحًا أيضًا ما يتصوره بعض المسلمين المتدينين أو يُصوِّرونه، بأن "العلم" في القرآن يعني "العلم الديني" ولا شيء غيره، وحاول بعض أهل العلم الدفاع عن هذه الدعوى !
وممَّا يدلُّ على بطلان ذلك التصور: استخدام لفظة: "العلم" ومشتقاتها في غير العلم الديني، كما تدل على ذلك آيات القرآن.
فالعلم الذي وصف الله به هؤلاء القوم الذين فصَّل لهم الآيات، والذي جاء ذكره بعد قوله: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا...] يمكن إلا أن يكون هو العلم الكونيّ، الذي يدخل فيه علم الفلك وما يتعلق به.
فالعلمُ المراد هنا: هو الذي به يُتعرَّف على آيات الله في الكون، علويه وسفليه، وفي سرِّ اختلاف الألسنة والألوان، فهو يشمل علوم الكون، وعلوم الإنسان.
واختلاف الألسنة والألوان قد يراد به: اختلاف الأُمم والشعوب في لغاتها وألوانها بعضها عن بعض، وهو اختلاف تنوُّع لا اختلاف تضاد.
وقد يراد به اختلاف الأفراد في أصواتهم حتى إنَّ لكل فرد منهم تميّزا في صوته يجعل له "بصمة" خاصة به لا يشاركه فيها غيره. ومثله الاختلاف في الصورة فكل واحد له صورته المستقلة المتميزة، مهما يكن شبهه بغيره.
وفي القرآن بضعة وأربعون مثلًا. وكان بعض السَّلَف يبكى على نفسه إذا مرَّ بمثل من القرآن ولم يفهم مغزاه، ويقول: قال الله تعالى: [وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ] {العنكبوت:43}. فأنا لست من العالمين !
فالعالمون هنا هم الذين يعقلون الحكمة من وراء ضرب الأمثال للناس، فهم الذين يغوصون في الأعماق، ولا يقفون عند السطوح.
فالعلماء هنا – كما يبدو من السياق – ليسوا هم علماء الدين، وفقهاء الشريعة، على فضلهم ومكانتهم. وإنما هم الذين يعرفون آيات الله، ويكتشفون سُنَّته في خلقه، فيما ذكر من السماء، والنبات، والجبال، والناس، والدوابّ، والأنعام، أي الذين يعرفون عظمة الله من خلال معرفتهم بالسماء وعلم الفلك، ومن خلال معرفتهم بالجبال وعلم الأرض (الجيولوجيا)، ومن خلال معرفتهم بعلوم الإنسان، وعلوم الحياة من نبات وحيوان، ومن خلال هذه المعرفة الحقيقية يخشون الله، إذ لا يخشى الله ويخاف مقامه حقًا إلا مَن عرفه سبحانه.
فتفصيل الآيات هنا إنما ينتفع به الذين يعلمون أسرار الله في هذه الظواهر الكونية، من جَعْل الشمس ضياءً فيها النور والحرارة، والقمر نورًا لأنه يستمد نوره من الشمس، ومن تقدير القمر منازل لمعرفة عدد السنين والحساب.
وقال تعالى في قصة الرهط التسعة من ثمود:[وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ(51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(52) ]. {النمل}.
فالذين يعلمون هنا هم: الذين يعرفون سنن الله تبارك وتعالى في التعامل مع المُكذَّبين والظالمين، وأنَّ مكره تعالى أعظم من مكرهم، وكيدَه أقوى من كيدهم، وأنه يُمهل ولا يُهمل، وأنه يأخذهم وهم لا يشعرون. و ما ربُّك بغافل عما يعملون.