اغتيال الشّيخ نور بركة.. ورسائله إلى العلماء والدّعاة
الشيخ محمد خير موسى
رابطة علماء أهل السنة
بغضّ النّظر عمّا إذا كان هدف القوّة الصّهيونيّة الخاصّة التي تسللت في هدأة الليل إلى قطاع غزّة هو اغتيال الشّيخ نور بركة القائد في كتائب القسّام بهدوء وإحداثُ إرباكٍ في السّاحة الدّاخليّة الفلسطينيّة، أم كان هدفها اختطافه؛ أم كان الهدفُ أمرًا آخر لا يتعلّق بالشّيخ نور؛ فإنّه يمكننا القول بلا تردّد بأنّ هذه العمليّة قد أفشلتها يقظة المقاومة الفلسطينيّة وبنادقها
ورغم الألم الشّديد الذي وقع باستشهاد القائد القسّامي الشّيخ نور بركة ومعه ثلّة من شباب المقاومة في قطاع غزّة، إلّا أنَّ الليلة قد سجّلت إنجازات عدّة للمقاومة تتجاوز مقتل الضّابط الإسرائيليّ الذي نعاه وزير الحرب الإسرائيلي ليبرمان بقوله: "لقد خسر شعب إسرائيل مقاتلًا متعدّد الأفعال وستبقى مساهمته في أمن الدّولة سريّة لعدّة سنوات قادمة"
كما انَّ هذه الليلة السّاخنة في غزّة قد وجهت رسائل في اتجاهاتٍ عدّة، نحاولُ تلمّس ما تحملُه من رسائل إلى العلماء والدّعاة
الرّسالة الأولى: في مفهوم العالم العامل
قبلَ أقلّ من شهرين ناقش الشّيخ نور بركة رسالة الماجستير في الجامعة الإسلاميّة في تخصّص الفقه المقارن بعنوان "الإهمال في العمل الجهادي.. دراسة فقهيّة مقارنة"، وهو حاملُ للسّند المتصل بالقراءات العشر للقران الكريم، ويمارس عمله الدّعوي العلمي والبّحثيّ الذي لم يكن حائلًا بينه وبين تقدّم صفوف المقاومين بل قيادتهم.
وهذا يبرِزُ سؤالًا كبيرًا ما زال يتفجّرُ كلّ يومٍ عن ماهيّة "العالم العامل" ومواصفاته
فهل العالم العامل هو الذي جمع العلومَ وصار مكتبةً شرعيّة متنقّلةً أم هو الذي تقدّم إلى الثّغور فسبق إليها، وحيثما سمع هيعةً طارَ إليها؟!
وقبلَ أن يستدركَ علينا أحدٌ في أنَّ لكلّ ساحةٍ خصوصيّتها ولكل عالمٍ ظرفه؛ فإنَّنا نقول بأنَّ الثّغور لا تقتصر على حمل السّلاح وبذل الدّم، بل إنَّ ثغور المواقف وتقدّم الصّفوف وقول الحقّ بلا خشية، وإعلان الحقائق بلا مواربةٍ، ومجابهة الظالمين بلا وجل، والصّدع بالهويّة بلا خجلٍ، وترشيد سبيل العاملين بلا كللٍ؛ ما تزال ممتدةً على مساحة هذه الأمّة، وقد تأخّر كثيرٍ من العلماء عن هذه الثغور مكتفين ببياناتٍ خجولةٍ أو فتاوى فيها من المداراة السياسيّة واللغة البراغماتيّة ما عجز عنه كثيرٌ من السّياسيين.
إنَّ العالم العامل هو الذي تكون خزائنه المملوءة علمًا دافعًا له إلى العمل الذي يتجلّى في تحسّس الثّغور التي تحتاج إليه والمسارعة إلى الرّباط فيها.
وما زال العلماء يردّدون في مجالسهم البيت المشهور:
وعاملٌ بعـلمِه لم يعْمـلَنْ
معذَّبٌ من قبلِ عبَّاد ِ الوثنْ
ولكن مفهوم العمل ما زال فيه الكثير من الدّعة في التفسير، التي تتنافى مع قول الله تعالى في وصف العلماء: "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا" وعدم الخشية تقتضي الإقدام وتقدّم الصّفوف وسدّ الفراغ وملء الثّغور.
وهنا لا بدّ من بيان أنَّ العالم ليس مطلوبًا منه أن يمارس الفعل الجماهيريّ والإغاثيّ والمدنيّ ويستغرق فيه وقته كما يفعل البعض وكما يمكن أن يفهم البعض، ولكنّ أقلّ المطلوب أن ينزل إلى الميدان فلا يبقى متقوقعًا بين دفوف الكتب ورفوف المكتبات، ولا أن يظنّ أنّه أدّى المهمّة بدرسٍ مسجديّ، أو بالتوقيع على بيان جماعيّ أو فتوى مشتركة.
كما أنّ عليه أن لا يغرق في ردهات الفنادق وكثرة المؤتمرات فيظنّ أنّه أدّى واجبه بقدر ما يشارك في مؤتمرات وندوات ومنتديات ولقاءات أغلبها تطغى عليها المجاملة، ويبرّر لنفسه صنيعه بأنّ وقته كلّه في شغل لأجل الدّعوة والإسلام؛ فصالات الفنادق على أهميّة ما يجري فيها من اجتماعات ومؤتمرات تصلح أن تكون منطلقًا نحو الثّغور لكنّها لا تصلح أن تكون هي الثّغور على الإطلاق.
الرّسالة الثّانية: إلى علماء السّلاطين وعلماء الإعلانات التّجاريّة
تأتي الدّماء التي تزيّن جسدَ الشّيخ نور بركة لتصفع العديدَ من العلماء والدّعاة ممّن تصدّروا الفضائيّات الشّاشات ووسائل التّواصل الاجتماعي؛ فاستخدموا الشّريعة لخدمة الحكّام حينًا، أو لخدمة أغراضهم التّجاريّة فغدت صفحاتهم وحساباتهم مرتعًا للإعلانات المأجورة للعطور والأدوات المنزليّة وغير ذلك، ولتضعهم في مأزقٍ أخلاقيّ جديد أمام أنفسهم التي أهانوها وأمام الشّريعة التي يحاولون تجميل صورتهم بها.
كما أنّ استشهاد الشّيخ نور بركة يضع النّاس أمام نموذجين للعلماء وحاملي الشّريعة، نموذج يضحّي بالشّريعة لأجل رضى الحاكم ويستخدمها للنفاق والمداهنة والتكسّب، وهذا النّموذج يتمّ تصديره وترميزه والاحتفاء به فيظنّ المتابعون أنّه حامل الشّريعة وممثّلها.
ثم تأتي مثل ليلة غزّة لتفصح عن النّموذج الثّاني، وهو نموذج العالم الذي يخدم الشّريعة بصمتٍ، ويتقدّم إلى مكامن الخطر، لا يداهن ولا ينافق، بل يضحّي بروحه لأجل فكرته، ويذود بنفسه عن مبدئه؛ فيعرف النّاس حينها من بكى ممن تباكى، ويفرّقون بين النّائحة المستأجرة والثّكلى.
وإنَّ بروز هذا النّموذج الذي يمثّله الشّيخ نور بركة بين الفينة والأخرى هو من حفظ الله تعالى لدينه، وحمايته للأجيال التي بدأ الإيمان يتزعزع بالفكرة في أعماقها من هول ما يرون من مواقف تبعث على الغثيان من العلماء الذين باعوا دينهم بدنياهم حينًا وباعوا دينهم بدنيا الحكّام أحيانًا أخرى؛ حيثُ يرى النّاس نموذجًا حقيقيًّا لحمل الشريعة يتّفق مع ما في وعيهم عن صورة العالم الحقّ.
الرّسالة الثّالثة: في مسؤوليّة العلماء تجاه فلسطين وما يجري بها
عندما يقدّم أحد علماء فلسطين دمه وروحه على خطوط الاشتباك المتقدّمة مع الاحتلال الإسرائيلي؛ فهو بهذا يطرح على العلماء في الأمّة ـ وكثيرٌ منهم صادقٌ متحرّق ـ سؤالًا مفاده: ما هو واجبكم أنتم اليوم سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المؤسّسات تجاه مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمر على القدس والأقصى وواجبكم تجاه العدوان على غزة وحصارها من الاحتلال الإسرائيليّ والجار المصريّ والأخ اللدود في السّلطة الفلسطينيّة؟!
إنّ البيانات التي تبيّن الحكم الشرعيّ الواجب مهمّةٌ وضروريّة؛ لكنّ الاكتفاء بها هو تخلٍّ عن المسؤوليّة بطريقة أو بأخرى، وكما حمل الشّيخ نور سلاحه وتقدّم الصّفوف مشتبكًا مرابطًا، فسلاحكم اليوم هو الكلمة والموقف ولا قيمة للسلاح إذا لم يُشهَر ويستخدم، ولا وزن للموقف إن كان في الصّفوف الخلفيّة، ولا قيمة للفعل إن لم يكن مرابطةً مستمرّة.
ألم يقل سيّد قطب يومًا: "ستبقى كلماتنا عرائس من شمع، حتّى إذا متنا في سبيلها دبّت فيها الرّوح وكتبت لها الحياة"
وإنّ أقلّ المطلوب من العلماء حتّى تدبّ بقيّة روح في كلماتهم وبياناتهم وفتاواهم المناصرة لفلسطين؛ أن يضعوها على قائمة أولويّاتهم تحرّكًا وعملًا وبرمجةً وتخطيطًا وتنفيذًا.
مطلوب منهم أن يقفوا مليًّا أمام صورة الشّيخ نور بركة وهو مسجّى بدمه وقد أدّى ما عليه وأدّى حقّ العلم الذي يحمله بين جنبيه؛ وأن يسألوا أنفسهم: وماذا عنّا نحن؟!!