لو جربت أن تبتلع لقمة كبيرة من الطعام لغصَّ بها حلقك، وكذلك لو وضعت هدفاً كبيراً أن تقرأ ألف صفحة في العام لوجدت ذلك صعباً، لكن.. لو قلت لنفسك: سأقرأ كل أسبوع عشرين صفحة فحسب، فسيكون ذلك أسهل بكثير، فلو قرأت كل أسبوع عشرين صفحة، فستقرأ في السنة ألف صفحة، وتصل إلى هدفك المنشود، وتفتيت الهدف يجعلك تفرح وتحتفل بـ(الإنجازات الصغيرة) التي تعطيك دفعة قوية للوصول إلى الأهداف الكبيرة.
إن الشعور بالإنجاز ضروري للاستمرار، وفيه كذلك نجاةٌ من القلق والاضطراب والاكتئاب، وتقسيم الأهداف هو ثمرة من ثمار اتباع الوصية النبوية الرائعة: (أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قلَّ).
إن تقسيم الهدف الكبير إلى أهداف صغيرة، ثم توزيعها زمانياً من أهم مفاتيح تحقيق الأهداف، وإن إبقاءها كما هي دون تقسيم يشكِّل عبئاً نفسياً كبيراً على صاحبها، ويحول في كثير من الأحيان دون إنجازها.
مثال:
يريد صاحبنا حفظ القرآن في عام وإلا شعر بالإحباط ونام!!
يا أخي.. اجعل هدفك أن تحفظ كل أسبوع صفحتين، وستحفظ كل شهر -إن سرت بهذا المعدل- نصف جزء من القرآن، أي ستة أجزاء في العام الواحد، فتُتِمُّ حفظ كتاب الله في خمس سنين (أدومه وإن قلَّ).
6. الحد الأدنى والأعلى لكل هدف:
لا تتعامل مع أهدافك على أنها كتلة واحدة جامدة، تأخذها كلها أو تدعها كلها، بل اجعل لكل هدف حداً أدنى، وحدّاً أعلى.
في الصيام: صوم ثلاثة أيام من كل شهر حدٌّ أدنى، وصوم كل اثنين وخميس كهدف أوسط، وصوم يوم وإفطار يوم هو الحدُّ أعلى.
في قيام الليل: جاء في الحديث أن من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين كحدٍّ أدنى، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين كهدف أوسط، ومن قام بألف آية كُتِب من المقنطرين هو الحدُّ الأعلى.
في القرآن: اختم في شهر كحدٍّ أدنى، وفي أسبوع كأوسط، وفي ثلاثة أيام هو الحدُّ الأعلى.
ومثل هذا في سائر العبادات، وهذا يراعي الطبيعة البشرية، ومواسم المد والجزر في همَّتك، ويحافظ على شعورك الدائم بالإنجاز الذي يجعلك محافظاً على حماستك وقوة اندفاعتك.
7. احرق سفن التراجع:
قد نتراجع في منتصف الطريق أثناء سيرنا نحو الهدف، ثم نسعى في اختلاق الأعذار التي تزيِّن لنا هذا التراجع، ويمهِّد الفرد طريق التراجع -دون أن يشعر- حين يستخدم كلمات مثل: (سأحاول، لو أمكن، ربما)، وهذه الكلمات المطاطة لا تضمن التزاماً حقيقياً، بل تجعل صاحبها في حِلٍّ من أمره عند التراجع وعدم الاستمرار، وهذا عكس استعمال الكلمات الحاسمة مثل: (سأنفِّذ، سأفعل)، ولذا كان ابن عباس يقول:
"يُكْرَه أن يقول الرَّجُل: إني كَسْلانٌ، ويتأوَّل هذه الآية: "وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى" [النساء: 142]".
في إشارة هامة إلى أن كلماتنا قد تَكْلِمُنا (الكَلْم: الجُرح)، وحروفنا قد تحرِفنا دون أن نشعر، ولذا فعلى المرء أن يحرص -ليس فقط على أفعاله- بل حتى على كلمات لسانه.
مثال:
أخرج السَّرّاج في تاريخه عن أنس، أن خالد بن الوليد قال للبراء بن مالك يوم اليمامة: قم يا براء، فركب البراء فرسه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"يا أهل المدينة.. لا مدينة لكم اليوم! وإنما هو الله وحدَه والجنة"!
ثم حمل وحمل الناس معه، فانهزم أهل اليمامة!
إن هذه الروح الوثابة واللغة الحماسية الجازمة هي التي تقطع على النفس أي فرصة للتراجع عما عزمت عليه من خير، فتبذل قصارى جهدها لبلوغ هدفها الذي خطّطت له.
8. الخطة البديلة
الأساس أن تضع مع كل هدف إيماني خطة أساسية، ومعها خطة بديلة، والخطة البديلة لا بد أن يتوافر فيها شرطان:
- أن يكون الهدف نصب عينيك؛ لأنه هو الأساس.
- أن تحوي الخطة البديلة أعمالاً مكافئة للعمل المفقود توصل لنفس الهدف.
والهدف من ذلك:
ألا تجعل تعثُّر خطتك سبباً لتراجعك عن أهدافك، بل ضع خطة بديلة من البداية، والجأ إليها عند الحاجة، وتأكَّد أنها تدفع في نفس الاتجاه.
مثال:
سألت امرأةٌ شيخاً فقالت: قبل زواجي كنتُ صوّامة قوّامة، أجدُ للقرآن لذة عجيبة، ولكني بعد زواجي فقدتُ هذه اللذة!!
قال لها الشيخ: ما أخبارُ عنايتك بزوجك؟!
قالت: أسألك عن حلاوة الطاعات، وتسألني عن زوجي؟!
قال لها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا تَجدُ المرأة حلاوة الإيمان حتَّى تؤدِّي حقَّ زوجها".
وليس أقل منها أجراً من نذرت حياتها لتربية أبنائها، فتخرِّج من مدرسة الأمومة إلى المجتمع فرداً صالحاً مصلحاً يخدم دينه وأمته. لاحظ أن:
الهدف: تذوق لذة العبادة.
الوسيلة: القرآن والصيام والقيام.
الخطة البديلة: طاعة الزوج ورعاية الأبناء.
مثال ثانٍ:
نوى صاحبنا قيام الليل ففاته، فهل يستسلم؟!
الجواب: كلا.. بل يقضيه في النهار، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم:
"من نام عن حِزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتِب له كأنما قرأه من الليل".
فإن فاته كذلك قضاء القيام في النهار، فهل انتهى الأمر وضاع الخير؟!
والجواب مرة ثانية: كلا! ففي سُنة الظُّهر القبلية استدراك لطيف، كما في الحديث: "أربع ركعات قبل الظهر يَعْدِلن بصلاة السحر" .
الهدف: التقرب إلى الله.
الوسيلة: قيام الليل.
الخطة البديلة: قضاء القيام في النهار أو بِسُنَّة الظهر القبلية.
مثال ثالث:
أذنبت ذنباً عظيماً ثم تبت منه، وأردت أن تتصدق بصدقة كبيرة من باب إتباع السيئة بالحسنة، فلم يصادف ذلك مالاً عندك، فما العمل؟!
الحل عند الإمام أحمد؛ حيث قال: "بِرُّ الوالدين كفارة الكبائر".
ويشهد لهذا ما رواه الإمام الترمذي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: إني أذنبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك مِنْ أمٍّ؟".
وفي رواية ابن حبان: "ألك والدان؟".
قال: لا.
قال: "فهل لك من خالة؟".
قال: نعم.
قال: "فبِرَّها".
الهدف: التوبة.
الوسيلة: الصدقة.
الخطة البديلة: بر الوالدين.
9. تقييم النتائج
أقترح أن يكون تقييمك لأهدافك أسبوعياً، وليكن كل جمعة لبركة ذلك اليوم، وذلك لقياس تقدمك نحو هدفك، فمن المهم أن تتابع ما أنجزت حتى تتأكد أن كل خطوة تمت في الاتجاه الصحيح وفي التوقيت المناسب، ولتستخدم الخطة الثلاثية لتقييم طريقة تنفيذك للخطة، وتحوي:
1- سأحافظ على
2- سأتوقف عن
3- سأبدأ في
وشرح الخطة الثلاثية بإيجاز هو :-
- ما هو العمل الذي سأكرره وأحافظ عليه؛ لأنه كان فعالاً في إدراك هدفي (سأحافِظ على)؟
- ما هو العمل السلبي الذي أعاقني وأخَّرني هذا الأسبوع لأجتنبه في الأسبوع المقبل؟ وهنا تبرز أهمية الاستفادة من الفشل لاستئناف العمل (سأتوقف عن).
- ما هو العمل الجديد الذي لم أكن أعمله وأحتاج البدء فيه لبلوغ هدفي (سأبدأ في)؟
مثال:
كان هدفي هذا الأسبوع أن أواظب على قراءة نصف جزء من القرآن يومياً، فكانت محصِّلة الأسبوع كالآتي:
- حافظت على وِردي أربعة أيام قرأته فيها بعد صلاة الفجر (سأحافظ على ذلك).
- قصَّرت في وردي ثلاثة أيام؛ بسبب سهري وعدم نومي مبكراً مما اضطرني للنوم بعد الفجر وفوات الورد (سأتوقف عن السهر).
- سأحرص على قراءة وردي إن فاتني بعد الفجر، وذلك بقراءته في موعد بديل، وهو بعد صلاة العشاء (سأبدأ في هذا الأسبوع المقبل).
10. أين مستشاروك؟
مهم جداً أن تستشير، وتستشير من تثق في رأيه وتجربته، ومن ترى نجاحه أمام عينيك، وذلك عند تحديد أهدافك أو تنفيذها أو تعثرك أثناء الوصول إليها، فأنت تحتاج في هذه الأوقات إلى الاستشارة، ولا تعتبر رأي من استشرته هو الأصح دائماً، بل ضع رأيه بجوار رأيك، وقد تخرج منهما برأي ثالث، بمعنى: لا تتعصب لرأيك، ولا تتخلَّ عنه تماماً، بل كن على استعداد لتعديله في ضوء ما تسمع من نصائح.
وقد أمر الله خير خلقه صلى الله عليه وسلم باستشارة أصحابه، فقال له: (وشاوِرْهُم في الأمْر).
قال النووي: "إذا أمر الله بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره؟".
ومن فوائد الاستشارة أنها منجاة من الندم والإحساس بالتقصير الذي يصيب الإنسان في حال عدم التوفيق، وستُخرِج نفسك بالاستشارة من دائرة جلد الذات، ولذا أوصى الشاعر:
فأكثِر من الشورى فإنك إن تُصِبْ ** تجِد مادحاً، وإن تُحرَم الخير تُعْذَر!
والاستشارة عصارة تجارب كثيرة أخذت من صاحبها وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، حتى وصل لأفضل الآراء، ثم تأخذ أنت كل هذا على طبق من ذهب وبالمجّان! قال الحسن البصري:
"والله ما استشار قوم قط إلا هُدوا لأفضل ما بحضرتهم، ثم تلا: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]".
مثال:
حفظ أبي -رحمه الله- القرآن في صغره عن ظهر قلب، وكان يؤم المصلين في صلاة التراويح كل عام في رمضان أثناء إقامته في كل من الكويت ومصر، وكان حريصاً على أن أحفظ القرآن الكريم كاملاً، وأفادني باستشارته فوائد عظيمة:
استشرته في تفلت القرآن من صدري، فأوصاني بأن أصلي بالناس إماماً في رمضان كل عام كوسيلة لتثبيت حفظي.
استشرتُه في ضعف همتي في الحفظ، فأوصاني بالبدء بحفظ السور التي تحوي قصصاً لسهولتها، فقال: ابدأ بسور طه والكهف ومريم والأنبياء والشعراء.
استشرته في أن أراجع أو أستمر في حفظ الجديد، فأوصاني أن أحفظ القرآن كله، ثم أبدأ في المراجعة.
استشرته في خوفي من مخالفة الظاهر للباطن، واختلاف حالي أمام الناس عما أغلق عليه بابي، ومن الرياء، فأوصاني بالقيام في جوف الليل والناس نيام.
فكانت وصاياه لي من أنفع الوصايا، رحمه الله، وجعل الجنة مثواه.