كان سلمة بن دينار يقول: "قد رضِيتُ مِنْ أحدِكم أن يُبْقِيَ على دينه كما يُبْقِي على نعليه".
يخاف أحدنا على نعلَيه من سرقة السارق، ولا يخاف على دينه من سرقة الشيطان.
يضع نعلَيه بين يديه وأمام عينيه حفاظاً عليهما، ولا يعامل إيمانه نفس المعاملة!
يخطط لحياته الزائلة أضعاف أضعاف ما يخطط للدار الباقية، ويبذل في شراء مسكنه تحويشة العمر ولا يبذل في شراء قصرٍ في الجنة عُشْر هذه التحويشة.
هذه المقالة تهدف إلى تسليط الضوء على الارتجال في العبادة، والانتقال منه إلى التخطيط، والتخطيط معناه تخصيص وقت، وجمع هَمٍّ، ومتابعة، واستدراك، مما يؤدي للنجاح والإنجاز.
ومقصودي بالعبادة هنا العبادة بمعناها الشامل، وليس الشعائرَ التعبدية فحسب، بل كل عمل صالح تصحبه نية صالحة فهذا المقال يشمله، والتخطيط يلزمه.
إن شمول مفهوم العبادة هو الذي أخرج المسلمين من ديارهم فاتحين، ناشرين النور في ربوع العالمين، حتى إن صحابياً مثل أبي أيوب الأنصاري دُفِن على أسوار القسطنطينية، ومتى؟! بعد أن تجاوز عمره التسعين عاماً!
وصدق الأمير شكيب أرسلان حين قال: "ما فتَح المسلمون فتحاً، ولا قطعوا وادياً، ولا ركبوا بحراً، ولا جابوا براً، ولا بذلوا مالاً ولا دماً، ولا أسسوا إمارة ولا حضارة، إلا إجراء لأحكام القرآن الكريم الذي كان معناه ممتزجاً بلحمهم ودمهم".
1. حدِّد أهدافك أولاً:
إن لم تعرف إلى أين تذهب، فلن تعرف أي طريق تسلك!
ومن لا يملك هدفاً من الأساس، فإن الشيطان هو الذي يضع له أهدافه.
وبلا أهدافٍ محددة لعبادتك التي تقرِّبك من الله، ستجد نفسك مبتعداً عن الله! وفي أفضل الأحوال ستكون مثل سفينة تتجاذبها الأمواج والرياح حتى توصلك إلى شاطئ (المجهول).
وحديثنا هنا عن هدف العبادة، سواء كان هدفاً كبيراً أو متوسطاً أو صغيراً، حتى على مستوى قراءة كتاب، أو حفظ قرآن، أو تحصيل علم، أو تنمية مهارة، أو اكتساب لغة، أو عمل خيري، أو تواصل اجتماعي، فكل هذه عبادات تحتاج إلى التعامل معها على أنها أهداف نسعى لتحقيقها.
فمن المعلوم أن الأعمال تولد مرتين؛ مرة عبر التخطيط، وهو التصور الذهني للعمل، ومرة ثانية عبر التنفيذ وهو إخراجها إلى حيز الوجود.
ومن وضع تصوراً ذهنياً واضحاً لهدفه بالتخطيط كان أقرب إلى تحقيقه عند التنفيذ.
وقد كثر استخدام ما يُسمَّى (التصور العقلي) في علم النفس الرياضي، فقبل التمرين يقوم اللاعب بتصور المهارات والحركات التي يتوقع حدوثها؛ ليكون أقدر على أدائها في الواقع بصورة ناجحة، ويرون أن التصور العقلي له دور هام في تنمية مهارات اللاعبين؛ لكونهم يستخدمون نفس الممرات العصبية التي تُستَخدم عند الأداء.
ونستطيع أن نطبِّق بفاعلية نفس (التصور العقلي) مع العبادات، فنحن في الحقيقة لا نملك ضماناً بالوصول إلى أهدافنا بصورة حتميَّة، لكن من كتب أهدافه أو وضعها نصب عينيه، فسيحرص على أن يقوم بأي عمل لدعم الوصول لهذه الأهداف، وسيستغل كل وقت متاح ليصل إليه، وسيحرص على البعد عن كل ما يشتت جهوده عن بلوغ الهدف.
2. حافز تحقيق الأهداف:
لا مجال في ديننا لإكراه أحد على فعل شيء إلا أن يكون الحافز ذاتياً: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
ابحث عن الربح المنتظر من وراء كل عبادة تستهدفها، وكلما كان الربح أعظم كان الدافع إليه أكبر، ولذا كان (الترغيب) طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه حين تصعب الأعمال وتشتد الأهوال، فيكون أعظم حافز من حوافز العمل: الجنة.
* في بيعة العقبة الثانية يسأل الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: فما لنا يا رسول الله إن نحن وفَّينا؟ قال: الجنة.
* وفي حفر بئر رومة رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فقال: "مَن حفر رومة فله الجنة".
* وفي تجهيز جيش العسرة قال: "مَن جهَّز جيش العسرة فله الجنة".
* وفي الإتيان بخبر القوم يوم الأحزاب قال: "مَن يأتينا بخبر القوم، أشترط له الرجعة، وأسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة".
* وفي إرسال رسالته إلى قيصر الروم قال: "مَنْ ينطلق بِصحيفتي هذه إلى قيصر وله الجنة".
ولذا ازدحمت كتب الأحاديث والسنن بأبواب فضائل الأعمال؛ لأن معرفة ثواب الأعمال أعظم حافز على بذل المجهود والمحال، واليقين بالجزاء هو أكبر ما يعين على أداء الواجب، والتذكير بوعد الله للصالحين هو رسالة الدعاة والمصلحين.
بل إن الانتظام في أي عمل صالح والمواظبة عليه لا يكون إلا بدوام استحضار ثوابه، ولذا تجد الأحاديث التي تتطلب المواظبة والانتظام مقرونة بذكر ثواب عظيم، كما في الأحاديث التالية على سبيل المثال:
* "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار".
* "خلتان من حافظ عليهما، أدخلتاه الجنة، وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، أن تحمد الله وتكبره وتسبحه في دبر كل صلاة مكتوبة عشراً، عشراً، وإذا أويت إلى مضجعك تسبح الله وتكبره وتحمده مائة مرة، فتلك خمسون ومائتان باللسان، وألفان وخمسمائة في الميزان".
* «من قرأ آية الكرسي دُبُر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت".
فليكن إذن حافزك للمواظبة على أي طاعة استحضار أجرها بالقلب، وأعظم الأجر ما كان من الله، حتى ولو خسرت مكافأة الناس لك، فإن ثواب الله أعظم، بل كلما نقص ثواب الخلق أو قلَّ تقديرهم لك، كانت مكافأة الله لك أعظم وثوابه أجزل، وقد ربّانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، ففي الحديث: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح".
ذو الرحم الكاشح هو أحد أقاربك الذي امتلأ قلبه بالعداوة لك، ومع هذا تتصدق عليه! وأنت تعلم أنك لن تجني من وراء إحسانك إليه غير الإساءة إليك، فربما ذكرك بسوء في غيبتك، فيكافئك الله على عملك العظيم بأعظم المثوبة، ويرفع صدقتك في سجل الصدقات لتكون الأعلى والأفضل، في مقابل إخلاصك وابتغاء وجه الله في عطائك.
إن الحافز المتعلِّق بالأجر الرباني لا ينضب، ولا يضعف تأثيره بمرور الزمن ومهما تقلبت الأحوال؛ لأن الله باقٍ، وثوابه مضمون، وهو سبحانه لا يخلِف وعده، حاشاه، ولذا.. فلا يأس مهما حدث، ولا توقف عن المسير مهما اعترضتك من عقبات، ولا عجز عن الطاعة أو كسل؛ لأن بصيرة القلب ثاقبة ومصوَّبة نحو الجنة.
مثال:
وقف حسن البنا يخاطب أصحابه يوماً قائلاً:
"العامل يعمل لأداء الواجب أولاً، ثم للأجر الأخروي ثانياً، ثم للإفادة ثالثاً، وهو إن عمل فقد أدى الواجب، وفاز بثواب الله ما في ذلك من شك، متى توفرت شروطه؛ وبقيت الإفادة وأمرها إلى الله، فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات، على حين أنه إذا قعد عن العمل فقد لزمه إثم التقصير، وضاع منه أجر الجهاد وحُرِمَ الإفادة قطعاً".
3. تنويع الأهداف:
لتكن أهدافك منوَّعة: عبادية، ومهنية، واجتماعية، وترويحية، ومصحوبة دائماً بنية طلب رضوان الله وثوابه عن طريق هذه الأعمال، وهدف التنويع أمران:
- ألا تمل من العمل على هدف واحد.
- تحقيق التوازن، فقليل من الناس من ينجح في التوازن بين أنشطته المختلفة، فتجد مثلاً:
* الرجل ناجحاً في عمله لكنه فاشل في تربية أبنائه.
* أو ناجحاً في علاقاته الاجتماعية لكنه مقصِّر في فرائضه وعلاقته بربه.
* أو محافظاً على عباداته ومقصِّراً في عمله.
ولا شك أن الشخصية المتوازنة هي أنجح الشخصيات، وليس معنى التوازن التساوي، وذلك لاختلاف ظروف المرء في مراحل حياته المختلفة، فالطالب عادة ما يكون لديه وقت أكثر من غيره، وبعد التخرج يضيق وقته لاستغراقه في عمله الجديد واكتساب المهارات التي تتطلبها سوق العمل، والشاب غير المتزوج أكثر تفرغاً من المتزوج، والمتزوج من غير عيال غير صاحب العيال، لكن ضيق الوقت أو اتساعه وكثرة المسؤوليات أو قلتها لا يجب أن يكون ذريعة للتقصير في فرض أو إصابة محرَّم؛ لأن قلبك في هذه الحالة سيصاب بضمور ثم يموت، وإحياء القلب بعد موته عمل شاق شاق، ومغامرة خطيرة خطيرة.
4. ترتيب الأهداف:
عليك وأنت تضع أهدافك أن ترتِّب أولوياتك، فالفرائض أولاً وقبل كل شيء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة: (وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه".
وقول عمر رضي الله عنه: "لأن أصلي العشاء في جماعة أحب إليَّ من أن أحيي الليل كله".
فلتسأل نفسك الأسئلة التالية، فستفيدك في ترتيب أهدافك وتحديد أولوياتك:
- ما أوجه التقصير التي تلمسها في فرائضك؟!
- هل أنت مقصِّر في أداء فريضة أو إصابة حرام؟
- هل تقصيرك في الصلاة أداءً أو خشوعاً؟!
- هل تعاني ذنوب الخلوات وتشكو منها؟
- هل نقطة ضعفك هي التهاون في الكلام وآفات اللسان؟!
- هل هو التقصير مع عائلتك وأبنائك الذين ينتظرون منك دوراً أكبر في المعايشة والتوجيه؟
وكن واقعياً أثناء ترتيب أهدافك، فإذا كنت تعمل طوال اليوم، وليس أمامك سوى خمس ساعات فارغة أسبوعياً، فإن وضع عشرة أهداف لن تكون خطوة واقعية على الإطلاق، وسيصبح من الصعب الالتزام بهذه الأهداف أو تحقيقها أو حتى مقاربتها، ولذا وجب ترتيب الأولويات، وتقديم الأهم.
التخطيط اليومي:
وصف الإمام حسن البنا عالي الهمة بأنه (ينام على أفضل العزائم).
وهي وصية ثمينة، وبمثابة تخطيط يومي لعمل الغد، فقبل أن تذهب إلى فراشك، عليك أن تمرِّر على ذهنك صورة لما تنوي عمله غداً، من ساعة استيقاظك حتى وقت نومك، وهذا في مجال التخطيط فعال جداً، فضلاً عن أنه في ميدان تحصيل الأجر نافع أعظم النفع، فإنك إن مِتَّ من ليلتك نلتَ أجرَ يوم كامل دون أن تدركه أو تعمل فيه شيئاً، وذلك بفضل هذا التخطيط المسبق والنية الصالحة.
هذا ما أوصى به الخبراء اليوم بأن تقضي في نهاية كل يوم 10 دقائق للتحضير لعمل الغد، مما يوفر لك وقتاً ثميناً في اليوم التالي، فتبدأ عملك مباشرة دون الحاجة إلى عمل قوائم (To Do List) مما يضمن إنجازات أكثر بجهد أقل.
واظِب على هذا كل يوم، وستلمح الفارق!