علم التاريخ.. أهميته عند الفقهاء والتفريط به في عصرنا
دكتور محمد موسى الشريف
رابطة علماء أهل السنة
ن الناظر في مؤرخي الإسلام يجد أنهم كانوا علماء ومشايخ كبارًا، وما ذاك إلا لأنهم علموا أن التاريخ مهمة ثقيلة وتبعة جسيمة لا يقوم بها إلا الصفوة المجربون، والعلماء الراسخون؛ فابن جرير الطبري المجتهد المفسر الفقيه اللغوي [ت 310هـ] كان مؤرخًا بل هو إمام المؤرخين، لولا هفوات وقع فيها في كتابه (تاريخ الأمم والرسل والملوك)، وكل من جاء بعده عيال عليه فيه.
والإمام الذهبي محمد بن أحمد [ت 748هـ] كان ذهب العصر لغة ومعنى كما وصفه تلميذه السبكي عبد الوهاب بن علي [ت 771هـ]، وهو الذي جعل للسرد التاريخي حلاوة ورونقًا وبهاء بتعليقاته الفذة ولفتاته الفريدة وإنصافه الذي لا مثيل له، وقد كان عالمًا في الحديث بل مجتهدًا فيه وهو محدث عصره.
وابن كثير الإمام إسماعيل بن عمر [ت 774هـ] صاحب (البداية والنهاية) كان إمامًا في الحديث والفقه، وابن حجر العسقلاني أحمد بن علي [ت 852هـ] وهو المحدث الكبير والفقيه كان مؤرخ المائة الثامنة في كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، والإمام السخاوي [ت 902هـ] كان محدثًا، وكتب كتابه الرائع لولا هفوات فيه (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع).
ولا ينسى الزمان جهود الإمام السيوطي التاريخية [ت 911هـ]، والقاضي ابن خلكان [ت 684هـ]، وابن العماد الحنبلي [ت 1087هـ]، ونجم الدين الغزي [ت 1061هـ] في ثلة ضخمة من علماء السلف والخلف، إنما ذكرت منهم شذرات فقط.
وتلك الكتابات التاريخية دالة على التالي:
1- كان المتصدي للتأريخ هم الصفوة من علماء عصرهم.
2- كانوا قد كتبوا في كل فروع المعرفة التاريخية؛ فمن سرد للأحداث، وضبط للوقائع، وتبيان للحقائق، وترجمة للرجال، ونفيًا للكذب، ومراجعة للمبالغات، واستخراجًا للقواعد، وإظهارًا للعبر والعظات، إلى آخر تلك الجهود المباركة.
3- إن علم التاريخ يشغل حيزًا كبيرًا من علوم أولئك العلماء الكبار، وقد صرفوا فيه جُلَّ أعمارهم، والناظر في مؤلفاتهم فيه يعلم هذا.
4- إن جُلَّ المصنفين في التاريخ كانوا محدثين، وما ذلك إلا للتلازم بين الضبط الذي كان عليه المحدثون وبين العمل التاريخي الملتزم.
بينما الناظر إلى علم التاريخ اليوم يجد التالي:
1- إن المتصدي له -على الأغلب- ليس من أهل العلوم الشرعية، وفي هذا ما فيه من التجاوز العلمي وقله الضبط، وكان لكثير من أساتذة التاريخ المعاصرين، إساءات للتاريخ وتزوير لا يخفى.
2- لا يوجد مؤلفات جامعة في التاريخ كما كان يصنع سلفنا، إنما هي -في الأغلب- مؤلفات تتناول حقبة محددة أو جانبًا من الجوانب.
3- لغة الكتابة -في الأغلب- لغة ركيكة جافة ينصرف عنها القراء، بينما كانت لغة كتابة التاريخ عند سلفنا -في الأغلب- راقية ثرية، وقد كتبوا كتبهم بمداد العاطفة، فأكسبوها حلاوة ورونقًا وبهاء.
4- أغلب كتب التاريخ المعاصر لا تستطيع أن تأتي بالحقائق كما هي؛ فمن مزورٍ للحقائق إلى مزوقٍ لها، ومن ملتف حولها إلى منتقص منها يؤيد جزءًا ويترك الباقي. وهكذا ضاعت كثير من الحقائق التاريخية في خضم هذا التقصير والضعف.
ولولا كتابات حفظت شيئًا بشأن من التاريخ المعاصر، وحمته من الآفات لضاع علينا جملة مهمة من الأحداث، ومن تلك الكتابات: (التاريخ الإسلامي) للأستاذ محمود شاكر، و(التاريخ الإسلامي) للأستاذ أحمد شلبي، وبعض كتب عماد الدين خليل، وبعض مشاركات لخير الدين الزركلي، وشكيب أرسلان، والندوي، وبعض كتاب الحركات الإسلامية، وبعض ما ورد في المجلات الإسلامية، وبعض ما أنتجته كليات التاريخ في العالم الإسلامي، على أن في كل ما ذكرته آنفًا مَلاحظَ لا يسعني إيراداها في هذه العجالة.
لكني أقول إنه جهد مشكور وعمل مبرور سُدَّتْ به بعض الثغرات في الكتابات التاريخية المعاصرة، لكن الحاجة ماسَّة إلى من يتصدى لكتابة شاملة، مؤسَّسة على قواعد قويمة وأساسات سليمة، ربما أتعرض لشيءٍ منها في كتابات مقبلة، والله الموفق.