المرأة في السنة النبوية ( 4 ) يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ
رابطة علماء أهل السنةحَرِص النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تَربية زوجاتهِ على فعلِ الخيرات، فكان يغتنم الفُرَص لتعليمهنَّ، وإرشادهنَّ، وتَصحيح مسارهنَّ. وهذا من حُبِّه لهنَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالحبُّ بين الزوجين يَستلزمُ النُّصحَ للطرف الآخر، والحرصُ على نجاتِه يومَ القيَامة مِنَ النَّار وفوزِه بالجنَّة.
فمِمَّا علَّمه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، مسألة الصَّدقة، وبما تتصدَّق، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهَا مِنَ الشَّبْعَانِ". (رواه أحمد).
(يَا عَائِشَةُ)، يتكرر معنا هذا النداء اللَّطيف فِي أحاديث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، مما يدلُّ على أنَّ هذا هو نَهجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُناداة زوجاته، بالاسم الجميل الذي تحبُّه الزوجة.
ومَا أَجْملُ اسم أمِّنَا (عَائِشَةَ) لفظًا ومعنى، جعلنا الله مِمَنْ يُحبُّونها، ويَنصُرُونها، ويَتقرَّبُون إلى الله بذلك.
لقد احتوى هذا الحديث على توجيهاتٍ تربويَّةٍ مهمَّةٍ، منها: أهمية الاستِتَار مِنَ النَّار ولو بالشيء اليسير مِنَ الصَّدقة، كما فِي قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)). وهو يدلُّ على أنَّ كلَّ البشر يوم القِيَامَة معرَّضون للنار، وهِيَ أمَامَهم فِي المحشر، ولا مفرَّ مِنَ المرور عليها، فأرشد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجه عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إلى عملٍ يَسيرٍ يَستُرُها مِنَ النَّار؛ مِنْ حرِّها، ولَهِيبها، وعذَابِها، وهو التَّصدُّق بِجُزءٍ مِنَ التَّمرة.
وقد عُرف عَنِ المرأة على مرَّ تاريخ أُمَّتنا حبُّها للصَّدقة والإحسان إلى الناس، ولكنَّها قد تتثاقل أحيانًا بحجَّة أنَّ ما ستُخرجه قليلٌ لا يكفي المحتاج، لذلك أرشدها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التَّصدُّق ولو بنصفِ التَّمْرة، فإنِّه يسترها مِنَ النَّار. قال ابن حجر رحمه الله: ((أَيْ وَلَوْ كَانَ الِاتِّقَاءُ بِالتَّصَدُّقِ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ يُفِيدُ)). (فتح الباري 3/284)
وهذا التَّثَاقُل عَنِ الصَّدقة بالقليل ظاهرٌ عند المرأة، لذلك جاء توجيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنِّساء بالتَّصدُّق بالقليل فِي أكثر مِنْ حديث، مِنْ ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ». (رواه البخاري)
قال ابن بطَّال رحمه الله: ((فيه الحضُّ على التهادي والمتاحفة ولو باليسير؛ لما فيه مِنْ استجلاب الموَدَّةِ، وإِذهابِ الشَّحناءِ، واصطفاءِ الجِيرَةِ، ولِمَا فيه مِنَ التَّعاون على أمر العيشة المُقِيمة للإرْمَاق، وأيضًا فإنَّ الهَديَّة إذا كانت يَسيرة فهِيَ أدلُّ على الموَدَّة، وأَسقَطُ للمَئُونَة، وأسهلُ على المُهدِي لاطِّراح التَّكليف)).
(شرح صحيح البخاري 7/ 85)
وهذا التَّثاقُل فِي التَّصدق بالقليل قَد يكون نابعًا مِنْ شُبهةٍ فِي النفس وهي: ماذا عَسى أنْ يفعل هذا القليلُ بالمحتاج الفقير الجائع؟!
فأزال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الشبهة مِنْ نفس عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قبلَ أنْ تَقعَ فيها، بقوله: ((فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهَا مِنَ الشَّبْعَانِ)). قال ابن حجر رحمه الله: ((وَكَأَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ حَلَاوَتُهَا)). (فتح الباري 3/ 284)
أي أنَّ الشبعان يأكُلها متلذِّذا بحلاوتها، والجائع يأكُلها متلذِّذا بطعمها وحلاوتها.
وقد أثمرت هذه التربية فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فتصدَّقت بالقليل والكثير. فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ». (رواه البخاري)
فلم تجد عَائِشَةُ فِي بيتها سوى تَمرةٍ واحدةٍ، فتصدَّقت بها امتثالاً لما تعلَّمته مِنْ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولمَّا كانَ عندها الكثير تصدَّقت به كذلك، قال عروة: ولقد جاءَها يوماً مِنْ عند معاوية ثمانون ألفاً، فما أَمسى عندها دِرهمٌ، فقالت لها جاريتُها: فهلاَّ اشْتَرَيتِ لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت: لو ذكَّرتيني لفعلتُ.
وذكر الإمام الغزالي رحمه الله أحوالَ الزُّهد، فذكر مِنها خَمْسة أحوال، ثم قال: ((وَوَراء هذه الأحوال الخمسة، حالةٌ هِيَ أعْلَى مِنَ الزُّهد وهِيَ: أنْ يَستوي عِنْده وُجودُ المال وفقدُه، فإنْ وَجَده لمْ يفرحْ به، ولم يتأذَّ، وإنْ فَقَدَه فكذلك، بلْ حاله كمَا كانَ حالُ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها، إذ أتاها مِائةُ ألفِ درهمٍ مِنَ العطَاء، فأخذتها وفرَّقتها مِنْ يومها، فقالت خادمتها: ما استطعت فِيمَا فرَّقت اليوم أنْ تشتري لنَا بدرهم لحمًا نفطر عليه! فقالت: لو ذكَّرتيني لفعلتُ. فَمَنْ هذا حالُهُ لو كانت الدُّنيا بحذافيرها فِي يَده وخزائنه لمْ تَضُرُّه، إذ هو يَرى الأموالَ فِي خزانة الله تعالى لا فِي يَدِ نفسه، فلا يفرِّق بينَ أنْ تكون فِي يده، أو فِي يد غيره)). (إحياء علوم الدين 6/ 131)
فهل نَتَّقِي النَّار بِشِقِّ تَمرة فِي هذا الشَّهر الفضيل؟ وهل نُربِّي أزواجَنَا على ذلك؟
والحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين