الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 09:32 مـ 24 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    بحوث ودراسات علوم القرآن

    معالم الوعي التاريخي القرآني

    رابطة علماء أهل السنة



    تاريخ الإضافة 5/5/2016 ميلادي - 28/7/1437 هجري

    ليس الوعي التاريخي القرآني قراءة تثقيفية مجردة أو استيعابًا نظريًا محضًا لتفاصيل تاريخ الإسلام ومراحله من لدن أبينا آدم، عليه السلام؛ بل هو قوام عمليّة التربية وحاديها ومضمونها، ذلك أن رفضنا للمناهج النظرية المسبقة (راجع مقالنا عن التربية الذي سبقت الإشارة إليه) لا يعني إطلاق الصيرورة التربوية على عواهنها بغير وجهة، بل يعني تحري الوجهة الإلهية التي ارتضاها الله لعباده.

    لقد فصّل القرآن في رسم صورةٍ جليّةٍ للأمة، لم يطرح مفهومًا ماديًّا قابلًا للتفويض، كرابطة سياسيّة أو تنظيمية أو بيولوجيّة مثلًا؛ لكنّه رسم صورة شعوريّة تليق بالإنسان كما خُلق في أحسن تقويم، صورة تليق بأمّة البلاغ من بني الإنسان، وتبدو هذه الصورة واضحة جليّة في تفصيل الوحي الإلهيّ الحديث عن معاناة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) في تبليغ رسالات ربّهم، مؤكدًا تصوّر الجماعة الإيمانيّة العابرة للزمان والمكان، والتي ينتمي لها الإنسان المسلم، إن هذا التصوّر لا يرسُم معالم صيرورة التربية وطبيعة القيادة التي تُفرزُها هذه الصيرورة فحسب، بل يجتث أي شعورٍ بالغربة قد يُعانيه المسلم في سبيل اضطلاعه برسالته، فهو ليس غريبًا مُنبتًا، بل هو ذو انتماءٍ وثيق، ونسب عريق لشجرة أصيلة؛ شجرة الأنبياء وحوارييهم، إنه يقف جنبًا إلى جنب مع طليعة المجدّدين وعموم المصلحين وجملة المجاهدين من كل العصور.

    إن القرآن يحرص على شحذ قدرة الإنسان على تجاوز الواقع المادي كلّه، وعلى استشراف عالم الغيب والانتماء له، إنه يحرص على تخفيف صلته بالطين، وعلى تفلُّته من أسر الأمر الواقع، وزيادة قدرته على بلورة رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون، إن القرآن يحرص على تكوينك كإنسان، وهو في ذلك يمنحك تصوّرًا غير قابلٍ للتقوض أو الهزيمة ما اجتهدت في التزامه، وهذا لعمري جوهر العملية التربوية التي ينبغي على الحركة الإسلامية الانتباه لها.

    مدلول الوعي التاريخي

    إن التصوّر القُرآني للوعي التاريخي الإنساني تصوّرٌ فريد، ولن تكون منحة الإله كتخبُّطات العبيد، ويجدُر بنا اﻵن التوقّف لتحرير مدلول "الوعي التاريخي"، حتى يستطيع القارئ المهموم استبطان محتواه كاملًا دون غبشٍ أو تشوّش، إن الوعي التاريخي هو ذاكرة الشعور الإنسانيّ الواعي برحلة الكبد داخل التاريخ؛ ذاكرة التُخمة والذنب المصاحبين للإخلاد إلى الأرض، وذاكرة اﻷلم والأمل المصاحبين للعروج إلى المولى، إنه الوعي بتجارب الإخفاق والنجاح؛ ذاكرةُ الشعور وليست ذاكرة الأحداث، الوعي التاريخي بالأمّة؛ بالأنبياء وخلفائهم من لدُن آدم عليه السلام، إنّهُ ما يسخر المادّيون منه، وينسبونه للرومانتيكيّة؛ ثُمّ يُعانون الاغتراب بسبب إنكارهم له! إنّهُ ما يجعلني أبكي هزيمة بواتيه (بلاط الشهداء)، برغم انتهاء الحدث الذي لم أُشارك فيه مُباشرة، إنه الوعي باﻷمّة كتجربة شعوريّة أبديّة الحيويّة، لقد عُرّف الأدب قديمًا بأنه تجربة شعوريّة، وعرّفهُ علي عزّت بيجوفيتش بأنّهُ - في جوهره - سيرة ذاتيّة، وإذا كان الوعي بالأمّة تجربة شعوريّة مُستمرّة، فهو في ذات الوقت - وفي جوهره - سيرة يختلط فيها الذاتيّ بالموضوعيّ، والعام بالخاص، والكُلّي بالجُزئي، إنّهُ كشفٌ لطبيعة ورصيد المعرفة والشعور المغروسين في الفطرة البشريّة، ولتجلياتهم الاجتماعية التاريخية؛ إنّهُ كشفٌ واستحضار لربّانيّة الإنسان وعُمق ميراثه الفطري، إنّهُ الكبد الجوّاني السابق على الكبد البرّاني والمنشئ له.

    وإدراك كينونة هذا الوعي التاريخي، باعتباره أهم الأعباء الإنسانيّة/ الإيمانية؛ أمرٌ لا تستطيعُ الفلسفةُ تجريدُه، بل يجبُ أن يوكل لفنانٍ مُرهف، فالفنان يتمثّل التصوّر القُرآني كلما اقترب من الفطرة، يقول نزار قبّاني في قصيدة الحُزن: لم أعرف أن الحُزن هو الإنسان، وأن الإنسان بلا حُزنٍ ذكرى إنسان، إنّهُ لا يتحدّثُ عن الحُزن كانفعالٍ طارئ أو كعاطفةٍ عابرة، بل يتحدّث عن ذاكرة شعور؛ عن الوعي الذي يُشكّل الإنسان، الوعي بأن الإنسان أكثر عُمقًا وقداسة، وكلما ازداد عمقًا ازداد قداسة وألمًا، باقترابه من أصله، إنه "الحيوان الذي يرفُض أن يكون كذلك، كما يقول ألبير كامو، وما رفضه إلا سبب شقائه وكبده اﻷبديين، وحزنه الفريد.

    إن الذين قالوا لقارون: "لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ"؛ كانوا من هذه النوعية من البشر ذوي البصيرة النافذة، لا تفرح؛ أي لا تخرُج من التاريخ وتأمن المكر، إنك في دار ابتلاء؛ "فأحسن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"، لا تغرق في طوبيا المتاع المادّي فهي ليست نهاية المطاف، إنها مما يمقُته الربّ العلي، إن إيقاف حركة التاريخ والتدافُع ليس هو السبب الذي خُلقنا لأجله.

    جوهر الوعي التاريخي

    يصف الإمام مُحمّد عبده أثر السيد جمال الدين الأفغاني فيه؛ مُعبّرًا بعمق عن معنى الوعي التاريخي وحقيقته: لقد أعطاني والدي حياة يُشاركني فيها علي، ومحروس (أخويه)، أما السيّد جمال الدين؛ فقد أعطاني حياة أشارك بها مُحمّدًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    إن جوهر الوعي التاريخي القرآني هو تحوّل إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومُحمد، وحوارييهم وصحابتهم وأنصارهم وتابعيهم على الجملة (وبغير تحديد ولا انتقاء)؛ تحوّلهم إلى شخصيّات حيّة تتحرّك في عالم الواقع، حركة حيّة يُمكن احتذاؤها واقتفاؤها غائيًا في كل أمر، أن يتحوّلوا لحُداة وهُداة لقافلة الإيمان الممتدة عبر التاريخ وإلى قيام الساعة، وليس محض شخصيّات تاريخيّة "ميّتة" تُقرأ قصصها على سبيل التثاقُّف وتزجية الفراغ.

    إن القُرآن ما ذكر هذا الرهط المبارك إلا وأردف بتأكيد ارتباط المسلم به؛ نرى ذلك مثلًا في سورة المؤمنون: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ"، وفي سورة اﻷنبياء: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"، وليت اﻷمر اقتصر على هذا فحسب؛ بل إن السياق في سورة المؤمنون يجعل مفهوم التحزُّب نقيضًا للمفهوم القرآني للأمّة وتقويض لها ولهويتها، فترى المولى سُبحانه يُردف مباشرة بقوله: "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"، إنّهُ وإن كان التحزُّب لا يُخرج من الملّة كما يبدو من ظاهر الآيات؛ إلا أنه يجعل هذا التصوّر الجاهلي البغيض مُبطلًا للمفهوم القُرآني عن وحدة الأمّة واستمرارها التاريخي.

    إن الوعي التاريخي، الذي يُشكِّل صيرورة التربية ومضمونها؛ هو كذلك الذي يصنع القيادة المسلمة التي تعي حقيقة مقتضيات الاستخلاف، إن الوعي التاريخي هو الذي يُشكِّل النموذج الحاكم لسلوك القيادة، ويربط بينها وبين الجماهير برباطٍ غائي مُتجاوزٍ لأعراض هذا العالم. إنه الرابطة الربّانية التي تغمس الأمة في صيرورة التربية لتستخرج قيادتها من رحمها، بعد أن تُعيّن لها وجهتها. وهو اللحمة التي تربط بينهم بوحدة الوجهة ووحدة السبيل ووحدة الوجدان. وإذا استحال وجود القيادة بغير استقامة هذا الوعي التاريخي، واستحالت التربية بغيره، بل واستحالت الأمة المسلمة بغيره؛ فإن الأمة والقيادة مُستحيلان بغير تربية يتمثَّل فيها وجودهم الوعي القرآني.

     

    المصدر: موقع "إضاءات".

    بحوث ودراسات