من كمال الصبر على إقامة الدين : الصبر مع عباد الله الصالحين من أهل الإيمان والطاعة، وأهل الدعوة والجهاد المطبقين لشرائع الإسلام ما استطاعوا، يواليهم ويحبهم بمقدار ما فيهم من إيمان وعمل صالح، ولا يعاديهم أو يخذلهم، ولو كان فيهم ما فيهم من الأخطاء، بل عليه أن ينصح لهم بالرفق، ويتعاون معهم في نشر دين الله وإعلاء كلمته؛ لقوله - تعالى -: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، والآية الكريمة نزلت في مناسبة تعدُّ من أشدِّ ما ابتلي به رسول الله وهو يبلغ رسالة الله، حريصًا على هداية الناس ودخولهم في دين الله، يوم عرض عليه بعض المؤلفة قلوبهم أن ينحي عنهم فقراء المسلمين حتى يجلسوا إليه ويحدثهم ويأخذون عنه، فنهاه الله عن ذلك، وأمره بأن يصبر مع أهل الإيمان والطاعة .
وهذا النوع من الصبر المطلوب يعمُّ الصبر مع جميع أهل الاستقامة من العلماء والأمراء، ومن الأفراد والجماعات؛ وذلك لقوله - تعالى -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]؛ لأن عقيدة الولاء والبراء تفرض على المسلمين موالاة بعضهم لبعض، وتعاونهم للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء تجسَّد ذلك في شكل جماعة أو حركة منظمة، تقوم بواجب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تتبنى في مناهجها ووسائلها ما يخالف الشريعة الإسلامية، أو كان على أي شكل آخر من أشكال التناصر والتعاون المختلفة، وفي الحديث النبوي الشريف: ((الدين النصيحة))، قالوا: لمن يا رسول الله، قال: ((لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ، والنصيحة - وهي مظهر من مظاهر الموالاة - حقٌّ لجميع المسلمين، وليست حكرًا على فرد ولا جماعة، ولا حزب أو مذهب.
والصبر مع عباد الله الصالحين فريضة دينية، أمر الله بها عباده المؤمنين وحثَّهم عليه رسوله الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسلوك اجتماعي رفيع يدل على سعة قلب الإنسان وسمو أخلاقه وإنسانيته، وليس موقفًا سلبيًّا يركن إليه المرء عند الحاجة إلى التقوِّي أو الاستكثار بجماعة المسلمين أو بجماعة منهم، وليس ذوبانًا في الطائفة أو الحزب أو المذهب أو تعصبًا له، وقد بيَّن القرآن معالم هذا الصبر، والتي كانت مجتمعة في شخصية رسول الله إمام الأئمة - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأكسبته محبة صحابته وتعلقهم به والتفافهم حوله، وهذه بعضها:
أولاً: اللين في التعامل مع عباد الله الصالحين؛ قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ثانيًا: السماحة والتماس الأعذار لهم، وعدم تتبُّع سقطاتهم وأخطائهم للتشهير بهم والتنقُّص منهم؛ قال تعالى تمام الآية السابقة: { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
ثالثًا: التشاور معهم فيما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم؛ قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
رابعًا: استشعار الروح الجماعية؛ {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62].
خامسًا: الحرص على ما ينفعهم من علم أو عمل، والصدق والإخلاص في نصيحتهم؛ قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وعلى أئمة المسلمين متابعة هذه الأوامر الإلهية والتربية الربانية والتقيد بها، فإن الله - تعالى - قد عاتب رسوله الكريم لما عمل بما يخالف هذه الأوامر، فأنزل الله في عتابه (سورة عبس) التي قال تعالى في مطلعها: { عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى* وَهُوَ يَخْشَى* فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1-10].
ولا يقدر على الصبر مع عباد الله الصالحين مع فقرهم وعوزهم، أو جهلهم وتقصيرهم، أو غير ذلك من النقائص التي قلَّ من يسلم منها بالكلية، إلا الزهاد في الدنيا وزينتها، المعرضون عن المترفين والظالمين، من الذين لا يختارون مجالس الملوك والأغنياء على مجالس أهل العلم والأتقياء، ولا يلوكون ألسنتهم بأخطاء الدعاة، ويمسكون عن فجور الولاة، ويتألفون الأمراء، ويهجرون العلماء، والمعصوم من عصمه رب الأرض والسماء.