الأستاذ محمد إلهامي - باحث في التاريخ و الحضارة الإسلامية
رابطة علماء أهل السنة
يكمن سرّ تفوق الحضارة الإسلامية وخلودها في أنها وليدة شريعة تقوي المجتمع وترفع من شأنه وتطلق طاقاته، فيستمر عطاؤه الحضاري بغض النظر عن حال السلطة السياسية من القوة أوالضعف، بل نحن أصحاب الحضارة التي ربما هُزِمت عسكريا ثم لم يلبث أن اعتنق المحتلون دينها وحضارتها كالمغول، أو حضارتها دون دينها كالصليبيين في الشام والإسبان في الأندلس والنورمان في صقلية.. وغير ذلك مما هو معروف ومشتهر.
ودَوْر السلطة –في تاريخنا الحضاري- أشبه بمن يطلق الشرارة أو يبذر البذرة، التي ترعاها الأمة فيما بعد، فيستمر حصادها حتى ولو ضعفت السلطة أو ذهبت بالكلية، وذلك راجع إلى قيمتين أساسيتين في الإسلام هما: الإنفاق في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما القيمتان اللتان أسستا لمؤسستي: الوقف والحسبة، وكلتاهما كانتا تعبيرا عن التميز الإسلامي، وكان لهما فضل حراسة قيم الأمة وحضارتها حتى جاءنا الاحتلال الحديث فكان أن استفاد منهما في بلاده وحرص على تدميرهما في بلادنا.
في السطور القادمة نتناول نموذجا من التاريخ لمؤسسة أطلقت شرارتها السلطة، لكنها بقيت خالدة حتى يومنا هذا بعد أن ذهب الخليفة وذهبت دولته بل وذهب المسلمون من تلك الأرض.. تلك هي محكمة المياه في بلنسية الأندلسية، وهي تمثل نموذجا للمسؤولية الاجتماعية والحلول المبدعة التي يفرزها المجتمع ويقوم عليها ويُبْقِيها.
كان عهد عبد الرحمن الناصر من أزهى عهود الأندلس، وهو العهد الذي استمر لنصف قرن، إذ تولى الحكم وهو شاب صغير في حدود العشرين سنة ثم مات وهو في السبعين من عمره (300 – 350 هـ)، واستطاع في عهده أن يغير حال الأندلس من ضعف وتفكك إلى قوة ومجد وازدهار.. فهذا الناصر هو من أطول الملوك حكما في تاريخ المسلمين.
كان من آثار عهده إنشاء "محكمة المياه" في بلنسية التي احتفلت إسبانيا بمرور ألف عام على إنشائها عام 1961م، وحضر الملك الإسباني خوان كارلوس جلساتها أربع مرات، واعتمدت في الدستور الإسباني 1978م، وصارت جزءا من قانون مقاطعة بلنسية الصادر 1982م، ومن قانون الماء الإسباني الصادر 1985م، وأخيرا فقد سجلتها منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي الذي يجب المحافظة عليه في سبتمبر 2009م.. فما هي قصة المحكمة؟
تحولت بلنسية التي أنشأها الرومان على ساحل البحر المتوسط في عهد المسلمين إلى أرض الحدائق والجنات، رغم قلة أمطارها، وذلك بأثرٍ مما أبدعه المسلمون من أنظمة الري والتحكم بالمياه من خلال ما بنوه من سواقي وسدود على نهر توريا الذي يمد المدينة بحاجتها من الماء، وهذه التقنيات التي تركها العرب منذ ألف سنة بلغت من التطور والإبداع حدًّا عظيما، ويكفي أنها ما تزال هي الأساليب المعتمدة في الزراعة حتى الآن.
نشأت محكمة المياه كنوع من المحاكم المتخصصة التي تسد حاجة سريعة في تنظيم الماء في بلنسية، وهي تتألف من ثمانية أعضاء يمثلون السواقي الثمانية القائمة على نهر توريا في بلنسية (وهي سواقي قوارت ــ مصلاتة ــ ترمس ــ مستليا ــ فبارة ــ رأس كانيا ــ روبية ــ بيناشير وفيتمار)، فلكل ساقية مستفيدون منها –وهم أصحاب الأراضي الواقعة حولها- وهم ينتخبون فلاحا منهم ليكون قاضيا عليهم، وتكون مدة انتخابه لسنتين أو ثلاثة، وحين يجتمع الأعضاء الثمانية يترؤسهم الأكبر سنا، ثم يختارون بالانتخاب رئيس المحكمة ونائبه.
تعقد جلسة المحكمة منتصف نهار يوم الخميس من كل أسبوع مثلما كان ذلك في عهد المسلمين، وفيها يتقدم الشاكي بشكايته ويدافع المُتَهَّم عن نفسه، ولا يشترك قاضي هذه الساقية في تداول شأن القضية بل يحكم فيها السبعة الآخرون، وتعد أحكامهم نافذة وغير قابلة للاستئناف أو الطعن أمام أي جهة أخرى، ويقوم بتنفيذها حُرَّاس السواقي تحت إشراف قاضي الساقية الذي لم يشترك في القضية ويعد هو المسؤول عن تنفيذ الأحكام.
وحراس السواقي أولئك هم بمثابة الشرطة المتخصصة، إذ بخلاف تنفيذهم للأحكام فهم أيضا من يبلغون المحكمة بأي تعديات أو مخالفات وقعت في ناحيتهم.
قضاة المحكمة هم من الفلاحين الذين يزرعون الأرض ويتكسبون منها بما يجعلهم متخصصون في هذا المجال ويعرفون دواخله وتفاصيله وأساليب الحيل والمخادعات فيه، وهم ما زالوا يرتدون الثياب السوداء التي كان يرتديها الفلاحون في بلنسية منذ العهد الإسلامي، ويجلسون على مقاعد جلدية كنحو التي كان يجلس عليها القضاة قديما، وجلسات المحكمة كانت ولا تزال علنية يمكن لأي امرئ أراد أن يحضرها، كما وتعقد المحكمة في ذات الفناء الذي كانت تعقد فيه غير أنه قديما كان فناء مسجد رحبة القاضي –وهو المسجد الجامع في بلنسية- بينما صار الآن فناء كاتدرائية بلنسية بعد هدم المسجد في زمن إنهاء الوجود الإسلامي في الأندلس.
وتضمن المحكمة استمرار نفسها من خلال التمويل الذاتي، إذ يحصل القضاة على نسبة من رسوم الري ونسبة من الغرامات التي توقع كعقوبات على المخالفين، وتُكفل لهم نفقات تنقلهم.
وفي حين كان الاجتثاث الإسباني للمسلمين في غاية الجنون، فإنهم ولافتقادهم أي أساليب تنظيمية للزراعة والتحكم في الماء فقد أبقوا على محكمة المياه هذه كأمر لابد منه لكي لا تخرب بلنسية، إلا أن الخراب أصابها من وجه آخر وهو نقص ذوي الخبرة والمهارة في الزراعة الذين كانوا من المسلمين، إذ صاروا بين قتيل وأسير ومهاجر.
ما تزال بلنسية تستعمل المقياس العربي "فيلان" في قياس كميات المياه التي تحصل عليها كل ساقية بحيث ينضبط التوزيع العادل لمياه النهر بحسب كل ساقية والمساحات التي ترويها، والتي تبلغ أكثر من 40 ألف فدان.
وبهذا تمثل محكمة المياه البلنسية الأندلسية نموذجا لمؤسسة اجتماعية ذات نفع عام، استمدت فكرتها وخلودها من خصائص الحضارة الإسلامية التي أنبتتها.