عبد الله كامل الشيخ المختلف
الدكتور محمد الصغير - عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين رابطة علماء أهل السنةالشيخ عبد الله كامل
رحلة قصيرة عاشها بيننا الشيخ الشاب عبدالله كامل، الذي ولد قبل 38 عاما في قرية المشرك القبلي بمحافظة الفيوم، التي تبعد حوالي 100 كيلو متر عن القاهرة. نشأ الطفل عبدالله كامل في القرية، وحفظ القرآن الكريم بطريقة برايل لأنه كان كفيف البصر، وبعد حصوله على الثانوية الأزهرية آثر الالتحاق بكلية دار العلوم التي لها فرع في الفيوم، وقد سبقه إلى ذلك بعض الأزهريين النوابغ، الذين أصبحوا من النجوم اللوامع، في سماء دار العلوم، كالأساتذة الكبار: عبدالصبور شاهين، وحسن الشافعي، وحسين حامد حسان، وهذا الصرح بمثابة الأزهر المصغر في قلب جامعة القاهرة، وهي بقعة مباركة تجود على الأمة في كل جيل برموز في عالم الفقه والفكر، واللغة والشعر، والدعوة والتجديد، ومن أبرز من تخرج فيها: الإمام حسن البنا والأستاذ سيد قطب.
ظهرت مواهب الشيخ عبدالله كامل مبكرا، وأعطاه الله من صنوف العطايا ما تفرق في خلق كثيرين، فقد جمع مع إتقان الحفظ جمال التلاوة، ومع كتابة الشعر حسن الإلقاء وروعة الإنشاد، ومع تألقه في الخطابة بالفصحى، أتقن الإلقاء بالإنجليزية أيضا، مع روح مرحة ودعابة حاضرة، كالتي كانت في الشيخ عبدالحميد كشك رحمه الله، وكان يسعده أن يُشبَّه بالشيخ كشك أو الدكتور عمر عبدالرحمن، ومن الطُرف التي ذكرها أنه استدعي مع بداية شهرته، إلى أحد المقار الأمنية، وكانت معاملة الضابط معه في غاية الغلظة والقسوة، ولا يعرف الشيخ عبدالله سببا لذلك، حتى أفصح الضابط عن مكنون صدره في آخر ” الحفلة” قائلا: ” إياك تفكر تعمل فيها عمر عبدالرحمن تاني يا…. !”
وكأنها كانت ساعة إجابة، إذ صلى الشيخ عبد الله كامل صلاة العشاء قبيل صلاة الجنازة على الشيخ عمر، وقرأ بنفس طريقة الدكتور عمر في التلاوة.
لم يكن الشيخ عبدالله كامل منتميا إلى جماعة أو تنظيم، ولم يكن مشتغلا بالشأن السياسي كالشيخين الكبيرين الضريرين اللذين أخذ منهما الشبه في أشياء كثيرة، ومع ذلك لم يكن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، وكان يظهر رأيه ويصدع بالحق في النوازل التي تنزل بالمسلمين، كاغتصاب الحكم والخروج على الحاكم، أو ما يتعرض له المسلمون من كوارث أو مجازر ومذابح، ومن آخر ما كتبه في ذلك قصيدة في مواساة المسلمين في الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وطلب أن يلقيها عبر شاشة الجزيرة، وبالفعل استضافه الأستاذ أيمن عزام في برنامج منتصف الليل. ولم يكتف الشيخ عبدالله بالحديث عن زلزال سوريا، بل واسى الشعب السوري فيما تعاقب عليه من كوارث في العقد المنصرم، ولم تكن حسابات الخوف من البطش تمنع الشيخ عبدالله من واجب يراه على نفسه، سواء في كلمة الحق التي أصبحت كلفتها عالية، أو باب البر والصلة بإخوانه الذين نأت بهم ديار الهجرة أو غيبتهم المنافي، فكان -رحمه الله- يتحين المناسبات ليتحسس الأخبار، ويؤكد على عدم انقطاع الصلة، ولو أردت أن أعدد من بقي على هذا العهد من أهل المحروسة فلن أتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولهم في ذلك كامل العذر، ومع أن العذر كله لابن كامل، إلا أنه كان من أصحاب العزائم.
رحل عبدالله كامل سريعا، مخلفا جملة من الرسائل منها: أن كلمة الحق لا تقرب أجلا ولا تمنع رزقا، وأن الفضل ليس مرتبطا بطول العمر، ولكن بما يتركه الإنسان من أثر، وأن ألسنة الخلق هي أقلام الحق، وأفراد الأمة هم شهداء الله في الأرض، وأن ما يحدث من طيب الذكر وحسن السيرة وتجاوب عامة المسلمين، لا يكون إلا لأهل القرآن العاملين، والعلماء الربانيين، فهنيئا لمن أقامه الله هذا المقام، واستخلفه في هذا الميدان، (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ.) فصلت/33
خرج عبدالله كامل إلى أمريكا داعيا إلى الله، وتعددت ختماته للقرآن كعادته في رمضان، ومات غريبا، ودفن حيث مات كشأن السلف الأوائل، وهو مما يُستبشر له به، كما في مسند أحمد من رواية عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: ” تُوُفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ عَنْ وَلَدٍ بِالْمَدِينَةِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّةِ”.