الرد على برهامي وشيعته


في الوقت الذي كانت تعجّ فيه مواقع التواصل الاجتماعي بصور وأخبار الموقف العظيم الذي صاغته بتلقائية وعفوية شابة عشرينية، أفزعها ما تقوم به الشركة التي تعمل فيها من دعم تكنولوجيّ للحرب الصهيونية على المسلمين العزّل في غزة، أطلّ على الأمة عبر الميديا الشيخ ياسر برهاميّ زعيم الدعوة السلفية بالإسكندرية؛ محذّرًا ومنددا ومفتيًا بعدم وجوب النصرة لحماس وأهل غزة؛ بزعم أنّ حماس انفردت بالقرار دون مشاورة، وأنّ مصر لا يجوز لها شرعًا التدخل إلا بعد إعلام الطرف الإسرائيليّ بانقضاء العهد وانتهاء الميثاق بيننا وبينهم، والعهد والميثاق هو معاهدة كامب ديفيد، وفي اليوم ذاتِهِ فوجئ المسلمون - الذين أذهلتهم الفتوى وصدمت عقولهم ومشاعرهم - بأشياع برهامي يتلقفون فتواه وينخرطون في شرحها وبسطها والدفاع عنها، من أمثال عبد المنعم الشحات وغيره؛ ولولا أنّ الفتوى بسطت رداءها الأسود على كمّ هائل من الشبهات والمغالطات لما عنّيت نفسي بالردّ على هؤلاء الذين سقطوا وانحدروا في قاع النسيان منذ زمن بعيد، منذ عقد من الزمان أو يزيد، وقبل أن أفنّد تلك المزاعم وأكشف عن بطلان الفتوى شكلا وموضوعًا؛ أودّ أن أعلن عن موقف سابق حدث بيني وبينه، وهو أنّني قبل ثورة يناير بعام تقريبًا أرسلت له كتابي "الأحكام الشرعية للنوازل السياسية"([1])، وفي فصل من فصوله أثبتُّ بطلان معاهدة كامب ديفيد، يومها أعجب بالكتاب وأوصى الشباب بقراءته، وأبلغني الطرف الوسيط بيني وبينه بذلك، وهو شاب ثقة أمين، وبعد الثورة قابلت الشيخ "المقدم" في مؤتمر تحديات ما بعد الربيع العربي، فأكد لي على حقيقة تلقي الدعوة السلفية وعلمائها وشبابها للكتاب بالقبول الحسن، ثم كانوا معنا في الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، وقامت الهيئة بطباعة الكتاب على حسابها طبعتين ووزعته على كافّة الأعضاء وأكثرهم من السلفيين، فما سمعنا من أحدهم نقدًا ولا اعتراضا، فكيف هم اليوم يبنون فتواهم على أساس الاعتراف بالمعاهدة؟ بالطبع سيخرجون علينا بقاعدة "لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان"، ولكن هيهات؛ فالقاعدة قاعدة فقهية وليست (زمبلك) لنقل اللعبة الصماء يمينًا وشمالًا، وقد استمعت صباح اليوم لفيديو يتحدث فيه بالطريقة ذاتها التي يتحدث بها من ينكر عليهم اليوم؛ فما الذي تغيّر؟! هل اكتسبت معاهدة كامب ديفيد شرعية بمرور الزمن أم إنّ حقّ المسلمين في مقاومة العدوان سقط بالتقادم؟!
بطلان الأساس الذي بنيت عليه الفتوى
العجيب أنّ أحدًا - ممن جلسوا بين يدي ياسر برهامي - لم يفكر في أن يطرح عليه سؤالا تأسيسيًّا لا يمكن العبور عليه وتجاوزه، وهو هل معاهدة السلام المسمّاه "كامب ديفيد" - والتي بنيت عليها فتواك - لها شرعية أصلًا، أنا على يقين من أنّ ياسر برهامي لا يقيم لها وزنًا، لكنّه اليوم يبني عليها، ويقول: إننا إن أردنا التدخل عسكريّا فمن الواجب أن نعلمهم بانقضاء العهد والميثاق، أي معاهدة كامب ديفيد، وقد كنّا في حلّ من تقحم هذا المجال الذي لا نضطر لتقحمه إلا عند مخاطبة الجهال بالشريعة والموالين للأنظمة.
والحقيقة أنّ هذه المعاهدة - ومثلُها سائر المعاهدات العربية الإسرائيلية - لم تحظ بأدنى درجات المشروعية، ولم تسعد واحدة منها ولو بشرط واحد من الشروط التي تشترط لجواز وصحة عقد الهدنة، ومن المعلوم فقهًا وقانونًا وشرعًا ودينًا وعرفًا أنّ غياب شرط واحد من شروط الصحة يعني - مباشرةً - البطلان، حتى ولو توافرت باقي الشروط، فإذا لم يتوافر شرط واحد من شروط صحة المعاهدات ومشروعيّتها فكيف يمكن القول بجوازها، بل وكيف يمكن البناء عليها لتحديد مواقف شرعية في نازلة حلّت بالأمة؟!
إنّ الفقهاء من كافّة المذاهب الإسلامية قالوا بجواز عقد الهدنة بشروطهم، ولم يخالفهم في ذلك إلا الظاهرية الذين قالوا بعدم جواز المهادنات من حيث الأصل بدعوى أنّها منسوخة؛ ما يعني أنّ الذين قالوا بالجواز وهم الجماهير إذا وضعوا شروطًا للجواز فلم تتوافر هذه الشروط فإنّ الإجماع يكون منعقدًا على بطلان المعاهدة، فما هي الشروط التي وضعها العلماء لصحة عقد الهدنة أو معاهدة السلام؟
الشرط الأول: أن تكون الهدنة خيرًا ومصلحة للمسلمين، فقد اشترطت كافة المذاهب لجواز عقد الهدنة أن يشتمل على مصلحة ظاهرة وراجحة للمسلمين([2])، وإن لم تكن خيرًا للمسلمين فلا تصح؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾[محمد: 35].
الشرط الثاني: «ألا يشتمل عقد الهدنة على شرط فاسد»: هذا الشرط ورد ذكره في كافة المذاهب، إما بالنص عليه مباشرة، أو بذكر أمثلة للشروط الفاسدة التي لا يصح معها العقد([3]).
الشرط الثالث: أن يكون العاقد للهدنة هو الإمام أو من ينوب عنه، أو القيادة السياسية والشرعية للمقاومة الإسلامية في زماننا هذا الذي شغر عن سلطان شرعيّ، فجمهور الفقهاء «المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية»([4]) يرون أن عقد الهدنة لا يجوز أن يعقده مع المشركين إلا الإمام أو من ينوب عنه، وذلك بالطبع عند وجود الإمام، ويرى الحنفية([5])، أنه لا يشترط أن يكون عاقد الهدنة الإمام، والجمع بين القولين بأن نقول: إنّه لدى قيام الإمام لا يجوز الافتئات عليه بعقد الهدنة من آحاد الرعية؛ عملًا بقول الجمهور، وعند شغور الزمان من الإمام يجوز لقيادة المقاومة الإسلامية السياسية؛ إعمالًا لقول الحنفية.
الشرط الرابع: ألا يكون العقد مؤبدًا: فقد اختلف الفقهاء في المدة، ولكنهم لم يقولوا بتأبيد عقد الهدنة قط، واللبس دخل على البعض من الخلط بين التابيد والإطلاق، فالإطلاق يعني ألا تكتب في العقد مدة معينة، أمّا التأبيد فهو النص على التأبيد، والتأبيد باطل لأنه يؤدي إلى وقف فريضة الجهاد.
والذي يتابع أحداث معاهدات السلام العربية الإسرائيلية ابتداء من كامب ديفيد ومرورًا بمدريد وانتهاء بأوسلو، وينظر في بنودها، ويطالع نصوصها، ويتأمل نتائجها يجزم بالنظرة العابرة بأنها مصادمة للمصلحة ولمقاصد الشريعة، فإذا ما أمعن النظر الفقهي والمصلحي فسوف يتبين له أنها مصلحة صرفة للعدو الصهيوني ومفسدة محضة للأمة الإسلامية، وأنّها لم تستوف الشرط الأول والأهم من شروط الصحة([6]).
وأمّا عن شرط عدم اشتمال عقد الهدنة على شرط فاسد، فإنّنا لو تأملنا معاهدات السلام العربية الإسرائيلية لوجدناها مشتملة على جملة كبيرة من الشروط الفاسدة، من هذه الشروط الفاسدة: أن المعاهدة تضمنت ضرورة الاعتراف الكامل بدولة إسرائيل، ومنها أنَّها تضمنت اتفاقا على قيام علاقات طبيعية كتلك القائمة بين الدول التي هي في حالة سلام دائم، ومن أمثلتها أيضا شرط ضرورة التطبيع الثقافي، هذه الشروط الفاسدة تجعل عقد الصلح محرما؛ لعدم مشروعية محل العقد([7])، لذلك أفتى كثير من علماء الأزهر ببطلان الصلح مع إسرائيل على التنازل عن جزء من أرض فلسطين([8]).
وأمّا شرط الإمام أو من ينوب عنه فليس متوفرًا أيضًا؛ إذْ إنّ هؤلاء الحكام جميعًا لا شرعية لهم من الأصل؛ لأنّهم يقودون الأمة بغير كتاب الله، ويظاهرون أعداء الله على الإسلام والمسلمين، ولأنّهم لم يأتوا إلى الحكم عبر أيّ سبيل من السبل الشرعية، وأمّا التغلب فهذا حكم استثنائي، ومع ذلك لا ينطبق على واحد منهم([9])، فما يصدر عنهم من تصرفات ليست معتبرة شرعًا، ومن ثم فالذين تولوا عقد هذه المعاهدات لا يمثلون الأمة، وليس لما يعقدونه من عقود أو معاهدات أدنى احترام أو إلزام لأجيال الأمة.
هل على المقاومة أن تشاور الأنظمة؟
لو أنّ هذه الأنظمة ليست مطبعة مع الكيان الصهيونيّ، ولا ملزمة بالتنسيق الأمنيّ معه بموجب الاتفاقيات، ولا متهمة بالتخابر معه وتسريب المعلومات الخطيرة إليه، ولا متورطة في الولاء له ومظاهرته على المؤمنين، ولا دائرة في فلك مصالحة كدوران الكواكب حول شمسها؛ لكان من الممكن أن تناقش هذه المسألة، وأن يطرح السؤال: هل على المقاومة أن تشاور ما يسمى بالدول العربية والإسلامية، وعندها سيكون الراجح الصحيح هو أنّها ليست مكلفة بذلك، فإن فعلت فهذا شأنها، وإلا فلا إلزام عليها؛ لسبب جوهريّ وهو أنّ هذه الأنظمة - على فرض سلامتها مما أسلفنا وهذا غير صحيح - ليست معنيّة باتخاذ قرار الحرب لأهل غزة وفلسطين، إذْ إنّها لا شرعية لها في حكم الشرع؛ لأنّها تقود الأمة بغير كتاب الله، وتقف موقف المضادة لشريعة؛ ومن ثمّ فإنّ الزمان شاغر عن إمام عام أو سلطان قوّام على الأنام بشريعة الإسلام، وعندما يكون الأمر على هذا النحو يكون اتخاذ قرار الحرب بيد علماء الأمة وأهل الحلّ والعقد منها، لأنّهم هم أولوا الأمر على الحقيقة والأمراء نوابهم ووكلاؤهم، فإذا انعدم الوكيل عاد الأمر للأصيل، فإذا لم يكن لأهل الحلّ والعقد مؤسسة جامعة، وكانوا - كحالهم في هذا الزمان - شذر مدر؛ فإنّ قرار اتخاذ قرار الحرب من شأن أهل الثغر مع مشاورة من رأوا فيه أمانة من أهل العلم وأهل الخبرة، ولاسيما القريبين من الثغر، ولا يتوقف الجهاد على انعدام الإمام؛ لأنّ استئذان الإمام حقٌ له إذا كان قائما، أمّا إذا عدم فلا يشترط استئذان إمام؛ لأنّ في ذلك تعطيل لفريضة شرعية واجبة على الأمة، يقول ابن قدامة: "وأمر الجهاد موكولٌ إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعيةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك ... فإن عُدِم الإمام لم يؤخر الجهاد؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره ..."([10])، وعليه فإنّه لا يستطيع أحد أن يلزم المقاومة بمشاورة الدول والأنظمة، هذا على فرض أنّها سالمة مما ذكرنا من السوءات، فكيف والحال كما يعلم الكافّة؟!
لكن هل يترتب على عدم مشاورتهم ألا تلزم المسلمين نصرتهم؟ هذا ما لم يقل به أحد من علماء الأمة على الإطلاق، بل مناصرتهم واجبة وإن أخطأوا في قراراتهم بشأن الحرب، ثم يكون للمسسلمين حساب معهم، فإن تخلت عنهم الأنظمة وجب على الشعوب أن تناصرهم بما تستطيع، والأصل مناصرتهم بالقتال، فإن عجزت الشعوب وجب عليها أن تحاول وأن تضغط على الأنظمة التي تحكمها لا لأنّ لها شرعية ولكن لأنّها متحكمة في مقدرات المسلمين، وتملك الجيوش التي يُنفق عليها من أموال المسلمين، وهذا مما لا خلاف فيه بين الفقهاء؛ لأنّ إجماعهم منعقد على وجوب جهاد الدفع إذا تعرض طرف من أطراف المسلمين لغارة الأعداء، ويبدأ الوجوب العينيّ على أهل البلد الذي تعرض للغارة، ويبقى على باقي المسلمين فرض كفاية، فإن لم يكفوا انتقل الوجوب العيني إلى من ورائهم إلى أن يعمّ الأمة بأسرها، وهذا في كلام العلماء من جميع المذاهب واضح جليٌّ، نقل القرطبي عن ابن عطية قوله: "والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين"([11])، ويفصل الإمام ابن عبد البر المالكيّ: "والفرض في الجهاد ينقسم أيضا قسمين: أحدهما: فرض عام متعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار؛ وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محاربا لهم، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا وشبابا وشيوخا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم"([12]).
أمّا الآية التي استدلّ بها برهامي وشيعته وهي قول الله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) (الأنفال: 72)، فليس في الآية ما يؤيد قولهم؛ لسببين، الأول: أنّ معاهدات السلام العربية الإسرائيلية كما أسلفنا باطلة، فليس ثمّ ميثاق ولا عهد، الثاني: أنّ هؤلاء - الذين أمرتنا الآية بنصرهم إلا على قوم لهم مع المسلمين عهد وميثاق - لم يهاجروا؛ فلم يدخلوا في حمى الدولة الإسلامية، فإذا اعتدى عليهم من له مع المسلمين عهد وميثاق لم يكن عدوانه نقضًا للعهد والميثاق، وأهل غزة ليسوا في هذه المرتبة المتدنية التي هبط بها امتناع هؤلاء المسلمين عن الهجرة وبقاؤهم في ديار الكفار في وقت كانت الهجرة واجبة على كل من آمن بالله ورسوله، فشتان بين هؤلاء وأولئك.
هل يشترط لاتخاذ قرار الحرب توازن القوى؟
بداية يجب أن نفرق بين شروط الوجوب على المكلف كالبلوغ والعقل والذكورة والحرية والاستطاعة البدنية، وبين شروط تتعلق بحقوق الآخرين، كاستئذان الوالدين واستئذان الدائن، وشروط تتعلق بالقيادة المسئولة عن اتخاذ قرار الحرب، كالدعوة قبل القتال وتحقق شرط الاستطاعة العامّة، كما ينبغي أن نفرق بين شروط جهاد الطلب وشروط جهاد الدفع، في جهاد الدفع تسقط شروط كثيرة، فيخرج المدين بغير إذن الدائن والولد بغير إذن الوالدين والمرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن سيده"([13])، كما أنّ شرط الدعوة يسقط في جهاد الدفع، وكذلك شرط إذن الإمام إذا لم يكن ذلك بالإمكان مع وقوع التهديد.
أمّا شرط الاستطاعة فإنّه يختلف في جهاد الدفع عن جهاد الطلب، ففي جهاد الطلب يتحقق بالإعداد إلى أن يتوقع المسئولون بغلبة الظنّ تحقق الظفر، وقد وضعت الآيتان من سورة الأنفال معيارًا متحركًا، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)) (الأنفال: 65-66)، فهنا أمر الله تعالى بتحريض المؤمنين على القتال، والتحريض والحضُّ من الإعداد النفسيّ العقديّ، والمقصود العام من الآيتين - وليست الثانيةُ ناسخةً للأولى على الراجح - أنّ المؤمنين عليهم أن يعدوا ويستعدوا لعدوهم، حتى يغلب على ظنهم الظفر، لكنّ توقع الظفر ليس مبنيًّا على مبدأ تكافؤ القوى بإطلاق، وإنّما لابد أنْ نضع في الاعتبار الفارق الذي يحدثه لدى المؤمنين إيمانُهم بالله ويقينُهم به وتوكلهم عليه وطلبهم للجنة ونعيمها، هذا الفارق - على الأغلب - لا يزيد عمّا في الآية الأولى، ولا يقل عمّا في الآية الثانية، فإن زاذ عن الأولى أو قل عن الثانية في أحوالٍ نادَّةٍ ونادرة فذلك استثناء يندُر وقوعه، ومن المعلوم أنّ "النادر لا حكم له"، فلا يؤثر في استقرار القاعدة العامة واطّرادها.
فالمؤمنون في أدنى أحوالهم لا يُغلبون من مثليهم عددًا وعُدة، وفي أعلاها لا يُغلبون من عشرة أمثالهم عددًا وعدة، وبين هذين الحدَّين يترددون بحسب قوة الإيمان وعمق اليقين، فعلى القيادة الخبيرة أن تقدر الأمور واضعةً في الحسبان هذا المستوى الذي يختلف ويتباين، وهذا لا يعني استحالةَ أن يُغلَبوا من أقل من مثليهم عددًا وعدة، ولا استحالةَ أن يَغلِبوا أكثر من عشرة أمثالهم عددًا وعدة، لكنّ الأغلب هو أنْ يغلِبوا مثليهم عددا وعدة في أدنى أحوالهم، وأن يغلِبوا عشرة أمثالهم عددا وعدة في أعلى أحوالهم، والعبرة للغالب لا للنادر، فتبقى القاعدة مطّردة بين هذين الحدين، وما شذَّ عنهما فله حكمه الخاص به.
وبهذا تكون الآيتان قد وضعتا معيارًا ربّانيًّا يسهم في تقدير الموقف قبل اتخاذ قرار المعركة في جهاد الطلب والابتداء والفتح والغزو خاصَّة، وهو معيارٌ لتحديد درجة الإعداد المعنويّ ومستوى القوة النفسية؛ ليراعَى عند تحديد مستوى الجاهزية التي في ضوئها يمكن أن يقال إنّ شرط الاستطاعة قد تحقق؛ وذلك لئلا يُترك الأمر للتقدير الذي يبالغ في اعتبار القوة المادية، والذي قد يتخذ من الألفاظ والجمل المطاطة ذريعة لتعطيل الفريضة، مثلما يقول الشيخ برهامي وأشياعه، ومثلما تقول كتب المراجعات التي أنتجتها الجماعة الإسلامية، ومثلما يقول بعض الباحثين المعاصرين كالشيخ الطريري في كتابه سنام الإسلام.
أمّا القول بأنّه يجوز للمجاهد أن يفرّ من أكثر من اثنين؛ فهذه وعكة أصابت بعض كتب الفقه والتفسير، ومع تقديرنا وإجلالنا للأئمة - رضي الله عنهم - فإنّ هذا ليس صحيحًا بالمرة، فالآيتان لا تتحدثان عن الفرار من الزحف: متى يجوز ومتى لا يجوز، وإنّما تتحدث عن تقدير الموقف قبل القتال لاتخاذ قرار الحرب، أمّا الآية التي تتحدث عن الفرار من الزحف أثناء احتدام القتال فهي قول الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)) (الأنفال 15-16)، فإنّه لا يجوز التولي يوم الزحف مهما كان عدد الكفار وعتادهم، إلا على سبيل التحرف للقتال أو الانحياز إلى فئة، فهذان موقفان مختلفان، ولكل موقف حكمه، ولم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية أنها حسبتها بطريقة الفرار من الثلاثة فأكثر وعدم الفرار من اثنين فأقل، وإنّما كانت دائمًا تحسبها بطريقة: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249)، هكذا كان فقهها وكان كذلك فعلها.
ويبقى أنّ شرط الاستطاعة في جهاد الدفع أقلّ بكثير، ولا نملك أنْ نقول إنّ شرط الاستطاعة لاتخاذ قرار الحرب في جهاد الدفع مهدرٌ، ولا نستطيع كذلك أنْ نتجاهل الفرق بين جهاد الدفع الذي فُرِض على الأعيان وجهاد الطلب الذي فُرض على الكفاية، هذا من جهة الشكل، أمّا من جهة المضمون فإنّ الانتظار بقرار الحرب إلى حين استكمال الإعداد وتوقع الظفر قد يفضي إلى عدم التمكن أصلًا من الإعداد؛ لأنّ المعتدِي لا يُنظر المعتدَى عليهم حتى يُعِدُّوا إلى أن تبلغ قوتهم مستوى تَوَقُّع الظفر، ولأنّ العدو إذا استولى على بلد من بلاد الإسلام فإنّه يمثل خطرًا داهمًا على دين الناس وعلى أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم؛ فلا يصح الإبطاء في دفعه ولا التواني في جهاده، وليس المسلمون في هذه الحال في سعة من أمرهم كحالهم وهم يرتبون لجهاد الغزو والطلب؛ وعليه فإنّه من غير المقبول شرعًا ولا عقلًا أن ينتظر المسلمون إلى حين توقع الظفر؛ فجميع ما وضعت الشريعة لحفظه من المقاصد الضرورية معرض للخطر، ومن ثمّ فإنّ الاستطاعة التي هي شرط لاتخاذ قرار الحرب في جهاد الدفع لا يشترط لتحققها توقع الظفر.
وحتى الإعداد ليس كالإعداد لجهاد الطلب، لأكثر من سبب، أولها: أنّ جهاد الطلب غزوٌ وفتحٌ وحربٌ تجري على أرض غير أرض الإسلام؛ فتحتاج إلى مزيد استعداد، ولاسيما مع ما يُتوقع من تحصن الأعداء، ثانيها: أنّ جهاد الطلب يمارسه المسلمون وهم في سعة من أمرهم؛ فلا غضاضة أن يستوثقوا من قدرتهم على الحسم بمزيد من الإعداد، ثالثها - وهو الأهم - أنّ تعرُّض بلاد المسلمين لغارة الكافرين، وما يستتبعه ذلك من استباحة للدين والنفس والعرض والمال والنسل؛ يورث المسلمين طاقة من الغضب تشعل مشاعرهم وتشحذ قلوبهم، وترفع من مستوى العامل النفسيّ الذي يجب وضعه في الاعتبار لدى تقدير واقع المسلمين وقوتهم، وهو الذي أشارت إليه الآيتان من سورة الأنفال.
فإذا كان المسلمون وهم في أدنى حالاتهم من حيث الطاقة الإيمانية ومن حيث مستوى اليقين والتوكل والصبر وتقديم الآخرة على الأولى وطلب الشهادة يغلبون مثليهم عددًا وعدة - وذلك في جهاد الغزو والطلب - فإنّهم في جهاد الدفع يغلبون أكثر من مثليهم قطعًا، وإذا كانوا وهم في أعلى حالاتهم يغلبون في جهاد الغزو والطلب عشرة أمثالهم عددا وعدة؛ فإنّهم في جهاد الدفع يغلبون أكثر من عشرة أمثالهم قطعًا، وما بين الأدنى والأعلى ينطبق عليه نفس القانون؛ لأنّ دوافع الدفع أقوى من دوافع الطلب، في تحريكها لمكامن القوة النفسية الذاتية في كل فرد من أفراد الجماعة المسلمة، وهذا كله مما لا شك فيه ولا ارتياب، ولا تعارض بين هذه الدوافع وبين دوافع الانتصار لدين الله، إذا خلصت النوايا.
هل تراعى المصلحة في الجهاد؟
لا ينكر أحدٌ دور المصلحة في كل ما هو من قبيل التنزيل كاختيار التوقيت واتخاذ قرار الحرب في الوقت المناسب والنظر في مدى تحقق شرط الاستطاعة وما شابه ذلك، أمّا أنّ حكم الجهاد يتحدد في ضوء المصلحة، وأنّ وجوبه يشترط له تحقق المصلحة؛ فهذا قطعًا يفتح الباب على مصراعية للتلاعب بحكم الوجوب، ولتعطيله وإيقافه، وهو مع ذلك افتئات على الربّ تبارك وتعالى؛ لأنّ القرآن الكريم حسم هذه القضية، وأغلق الباب دون من يحاول أن يعبث بعقله عند تخومها، ففي البداية ولدى فرض هذه الفريضة أول مرة نزلت هذه الآية التي تقرر أنّ الله تعالى - إذْ فرض الجهاد - يعلم ما لا يعلمه الناس عن نتائجه وآثاره، ومنافعه ومضاره، ويعلم غلبة مصالحه ومنافعه على مفاسده ومضاره، فالمبالغة في حساب العواقب تجعل الناس يكرهونه وهو خير لهم، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216).
فالجهاد خير وبركة ونفع ومصلحة؛ لذلك فهو ماض منذ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر أمته المسيخ الدجال، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، ومن هنا نقول: إنّ إطلاق القول بتوقف الجهاد على المصلحة دون بيان للمساحة التي ينظر فيها بمنظور المصلحة مجازفةٌ وافتئات على الشريعة المحكمة، وقد اشتطت أقلام كثيرة فخرجت عن الاعتدال في النظر لهذه المسألة، ودفعها غلو البعض ممن لم يلتفت للمصلحة في التزيل واختيار التوقيت إلى أن تقع في غلو مقابل بجعل المصلحة شرطًا لوجوب الجهاد، من مثل قول الدكتور الطريري: "فالجهاد مبني على المصلحة استدلالا وتقييدا"، هكذا بهذا الاتساع المستغرق! ومن مثل صنيع كتاب "مبادرة وقف العنف"([14])؛ حيث أنّه بعد أنْ تحدث عن المانع عمومًا تحدث عن أول موانع الجهاد وهو غياب المصلحة، ونقل عن العلماء كالشاطبي وابن تيمية ما يراه مؤيدًا لزعمه، قال: "بقي أن يقال: إنّه إذا كان أيٌّ من طرفي القتال - وهما شباب الحركة الإسلامية ورجال الشرطة - لا يتهم الآخر بكفر أو خروج من الملة، وكان الجهاد لا يفضي إلى مصلحة؛ فينبغي المسارعة إلى إيقافه؛ لأنّ الدماء المراقة دماء مسلمة، حتى وإن كان بعضهم ظالمًا أو باغيًا"([15])، ومن مثل ما قاله ويقوله ويكثر من ترديده الشيخ برهامي وسائر الأشياخ من أتباعه، ولعلّنا إن اكتفينا بهذا القدر نكون قد أتينا على أهم ما تطرق إليه هؤلاء المثبطون، وما بقي من شبهات جانبية ضعيفة الأثر لا يضر إهمالها.
هل أخطأت حماس في قرارها؟
هذا سؤال مشروع، ومن حقّ كل مسلم أن يطرحه، لكنْ متى؟ وكيف؟ هذا هو المهم، إنّ المقاومة ليست معصومة من الخطأ، فمن الجائز أن تكون أخطأت في قرارها، لكنّ خطأ المجتهد لو يوقعه في الإثم ولا يجيز التخلّي عنه وترك نصرته، بل ولا يسقط حقّه في أن يشاور بعد ذلك، المشكلة تكمن في أنّ الزمان ليس زمان محاسبة، الزمان زمان نصرة، لكنّ العكس وقع من الكثيرين، فبينما العالم كله يتابع ما يجري بإكبار لأهل غزة واحتقار للصهاينة؛ إذْ بأصوات من هنا وهناك تعلو على استحياء، لكنّها برغم خفوتها توجع، وتبذر في أنفس الضعفاء شيئًا من الارتياب، ولهؤلاء نقول: إنّ المقاومة - على الرغم من ورود الخطأ عليها وجوازه في حقّها - هي المقاومة، ولا صوت يعلو فوق صوتها، هي التي تعرف متى تُقْدِم ومتى تُحْجِم، وهي التي تُقَدِّرُ بمعاييرها وتقيس بمقاييسها وتدرك بخبراتها المتراكمة وتجاربها الحية حجم المصالح والمفاسد، وقدر المغانم والمغارم، ومستوى المنافع والمضار، وجهادُها لعدوٍّ تدعمه دول الغرب كافّة، وتُطَبِّعُ معه دول العُرْبِ عامّة لا يمكن أن يسمى فتنة إلا في فقه الاستكانة المدخلي المخادن لأمراء الفتنة الذين خرجوا من قرن الشيطان، وكيف يكون الجهاد فتنة وهو لم يشرع إلا لدفع الفتنة؟! فاستحيوا من أنفسكم التي أخْفَتْ اللحى قبائحها، ولا تنسبوا أنفسكم للسلفية، فإنّ اتباع السلف يكون في جهادهم قبل كل شيء.
عليلٌ من تُعْيِيه معرفة الطبيعة التي تصطبغ بها هذه المعركة، وكَلِيلٌ من لا يراها صدامًا حتميًّا بين حقٍّ واضحٍ كفلق الصبح وباطل مظلم كغسق الليل، عليلٌ وكليلٌ من ينظر إلى ما يجري فيحار فيه ويحاول أن يجد له في معايير الواقع البليد مقياسًا ينطبق عليه، إنّ ما يجري ليس نزاعًا بين قوتين على أمر تختلف فيه الحسابات والتقديرات؛ فلا تكاد العقول تستقر في إدراك حقيقته على حال، إنّه ليس صراعًا من جنس ذلك الذي يجري على الأرض اليوم حول مصالح تنزاح وتنداح هنا وهناك في مراوغة وخَتَل؛ فلا يدري القاتلُ فِيمَ قَتَل، ولا المقتولُ فِيمَ قُتِل، وإنّما هو صراع بين حقٍّ صريح وباطل صريح، بين مقاومة تدفع العدو عن الأوطان التي اغتصبها والمقدسات التي استباحها، وبين محتل غاصب غاشم لا حق له في شيء قطّ؛ لذلك لا تقاس النتائج والمقدمات بالمقاييس ذاتها التي تقاس بها سائر الصراعات، وغالبًا ما تتسع زاوية النظر لمن يروم باعتدال تقييم النتائج والحكم بموجبها على المقدمات؛ فلا تقف عند الحسابات الحسّية الضيقة، بل تتجاوزها إلى آفاق من المعاني التي تحييها المقاومة في الأجيال.
لا نستبعد أن يقع شيء مما نخشاه، ولو استبعدناه فلن نغير شيئًا من قدر الله، ولو أنّ غَزَّةَ فَنِيَتْ عن آخرها - لا قدر الله - وأُجهضتْ بالتبعيةِ المقاومةُ - لا سمح الله - فلن يقلل ذلك من نصر الله؛ ذلك لأنّ حقيقة الانتصار لا تنحصر في صورة واحدة "الحسم العسكريّ"، فإنّ الثبات إلى الممات نصر يلهم الأجيال، وإنّ دماء الشهداء التي بذلت من أجل تحطيم الأوهام وتكسير الأصنام وإسقاط الأساطير وهدم جدار الخوف والوهن مقدمة أكيدة للنصر الكبير، ومن أراد أن يعرف قدر وحجم ووزن ما حققته المقاومة من إنجاز حقيقيٍّ فليصرف نظره وتقديره إلى قدر وحجم ووزن التغَيُّرات التي أحدثها فِعْلُ المقاومة في نفوس المسلمين والكافرين على السواء، وكذلك في نفوس الشعوب التي تعيش فيما يشبه الفترة، مُغَيَّبَةً عن الوحي، لقد رفعت الأحداث هِمَمَ المسلمين وألهمتهم من المعاني ما فقدوها تحت مطارق الانقلابات والحروب الأهلية، وأرعبت الكفار المعتدين وكشفت ضعفهم وتهافتهم وزيف ادعاءاتهم، وأسعدت الكثيرين من المغيبين في العالم بمعرفة الحقّ الذي تتوق إليه نفوسهم ويتحسسونه حولهم فلا يجدونه، إنّها انتصارات وليست نصرًا واحدًا، ومع ذلك فإنّنا نرجو ما ليس على الله بعزيز: "الحسم".
إنْ قلت إنّ المقاومة في غزة بطوفانها هذا اقتلعتْ الأساطير الإسرائيلية من جذورها، أو قلت إنّها بضرباتها الرشيقة المتتابعة دَقَّتْ المسمار الأخير في نعش النظام الدوليّ، أو قلت إنّ جملة الأحداث - من لدن طوفان الأقصى إلى هذه الليالي الأكثر بشاعة - تمثل صيحة كصوت الحادي أو كنداء المؤذن، سيكون لها سريان في جيل أقعده اليأس كسريان مادة الحياة في الشجرة الجرداء؛ إن قلت شيئًا من ذلك أو تجشمت قول ذلك كله؛ فلن تكون راكبًا متن الشطط، ولا ممتطيًا من الزعم نَشَزًا نائيا.
لقد ارتقت المقاومة في جهادها للعدو الصهيونيّ من مستوى تهديد الاستقرار إلى مستوى تهديد الوجود، ومن رتبة العمليات الجزئية إلى رتبة المواجهة الشاملة، ومن استراتيجية الدفع إلى استراتيجية التحرير، لقد وثبت المقاومة وثبة عالية بهذا الطوفان، شبت بها عن الطوق، وتجاوزت بها عقدة الحسابات المعقدة، ولقد طوى طوفان الأقصى جميع اتفاقيات التطبيع وحَوَّلَها في صبيحةٍ عابرة إلى أطلال غابرة، وأفرغها من محتواها وجردها من جدواها، وجعلها "خارج الخدمة" في العمق العربيّ والإسلاميّ كله؛ إذْ لا جدوى من تطبيع لا تتشربه الشعوب! بعد هذا الأثر البالغ العمق هل يمكن أن نقول إنّه قد آن الأوان لأن تتجاوز الشعوبُ الأنظمة؟ ولاسيما بعد بروز التباين الشديد في المواقف، هل هذا هو أوان التخطّي الذي يمكن أن يستلهم طوفان الأقصى لاستعادة المسار، ولكن بأمواج أعلى وهدير أقوى؟
ولو لم يكن للكيان الصهيونيّ من مظاهر الغطرسة والبطش والكبرياء والعلو إلا ذلك الذي يمارسه في الأرض المقدسة، من احتلال وقتل وسجن وسحل وتهجير ومطاردة، وارتكاب لمجازر متتالية ومذابح متتابعة متوالية، مع انتهاكٍ ممنهجٍ للمسجد الأقصى، وإصرارٍ على اقتحامه وتدنيسه، وقتلٍ وأسرٍ للقائمين والعاكفين والركع السجود، وتآمرٍ لفرضِ التقسيم المكاني والزماني بلا أدنى حقّ؛ لو لم يكن إلا هذا ولم يقع إلا هذا لكان كافيًا في وجوب المسارعة إلى اتخاذ قرار الحرب واستمرار المقاومة ووضع الأمة كلها في حرج لعلها تتحرك بأنظمتها أو تتجاوزها وتتحرك خلف علمائها، فكيف وقد طال حصار غزة وطال عذابها ولم يعد باستطاعتها أن تستمر على هذا الحال إلا مع مزيد من تسلط الهيئات الدولية وتدخلها في مصير شعب غزة من خلال المؤسسات الداعمة اقتصاديا الغازية ثقافيا ك(الأونروا) وغيرها؟
إنَّ المقاومة ليست دولة مستقلة منفردة عنّا لا شأن لنا بها؛ حتى نجلس في برج عاجيٍّ وننظر إليها ونحاسبها على القرارات، إنّها رأس حربة الأمة الممتدة شرقًا وغربًا والبالغة مليارين من المسلمين، وإذا كانت الأمة معاقة وعاجزة بأنظمتها المطبعة مع الكيان الصهيونيّ عن مجرد فك الحصار عن غزة، وإذا كانت شعوبها عاجزة عن الضغط على أنظمتها لكي تتخذ موقفًا بسيطًا تجاه الاعتداء على الأقصى وحصار غزة، ولو بسحب السفراء وطرد السفراء، إذا كنّا عاجزين عن شيء من هذا على بساطته؛ فلنكن عاجزين كذلك عن توجيه النقد، أم إنّ العجز هو الآخر صار بالخيار كسائر ما نهوى؟!
نعم قد يكون في صدورنا بعض النصائح نحب أن نسديها لإخواننا، فيما يتعلق بالتواقيت وما شابهها من الأمور التي هم في الأصل أدرى بها منّا باعتبارهم أهل الثغر؛ فليكن ذلك بعد أن تضع الحرب أوزارها، عندها نقول ونسمع ونعطي ونأخذ ونقارع الحجة بالحجة، فقد نجد أنفسنا على خطأ في تصورنا، وقد نجد عندنا بعض الصواب الذي يمكن أن ننفعهم به، أمّا والحرب تطحنهم فلا، ولا ريب أنّنا بحاجة إلى أن نقول كلمة فيما يتعلق بالتحالف أو الاستعانة بالروافض المجرمين وشروط ذلك من الناحية الشرعية، وما يحتفّ به من محاذير إذا تحول إلى تحالف استراتيجيّ، وهذا يجب أن يقع على الوجه الصحيح من حيث التوقيت المناسب والأسلوب اللائق.
والله تعالى أعلم
-------------------------------------------------------------------------------
([1]) الكتاب متوفر على الشبكة العنكبوتية في مواقع المكتبات مثل "مكتبة نور"
([2]) المبسوط للسرخسي 10/86 - شرح مختصر خليل للخرشي (150) - أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) - كشاف القناع (3/112).
([3]) شرح السير الكبير (5/ 1750) - شرح مختصر خليل، للخرشي (ص151) - أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) - الكافي لموفق الدين بن قدامة (4/231)
([4]) بداية المجتهد (1/283)، المهذب (2/332) حاشيتا قليوبي وعميرة 4/238 ،الفروع محمد بن مفلح المقدسي6/253 - شرح منتهى الإرادات 1/655 ، مطالب أولي النهى 2/585، التاج المذهب 4/449
([5]) بدائع الصنائع (7/108).
([6]) راجع للكاتب "معاهدات السلام العربية الإسرائيلية" في موقع "مركز محكمات للبحوث والدراسات" قسم الكتب
([7]) خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم (ص361).
([8]) ر: «فتوى علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين (ص15)» وما بعدها، جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت، ط1، 1410هـ.
([9]) راجع للكاتب: تداول السلطة بين التغلب والخروج على موقع مكتبة نور
([10]) المغني لابن قدامة (9/ 202-203).
([11]) تفسير القرطبي 3/ 38.
([12]) الكافي في فقه أهل المدينة (1/ 462-463)
([13]) ر: الهداية مع البناية شرح الهداية (7/ 98) - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (3/ 242) - الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 176) - المغني لابن قدامة (9/ 208-210). وراجع الشروط من كتابي (إحياء فقه الجهاد) صــــ 136 وما بعدها مطبوع ومرفوع على موقع مكتبة نور
([14]) سنام الإسلام "نظرات ومراجعات في التجارب القتالية" - عبد الوهاب الطريري - وسم للمعرفة - اسطنبول- ط أولى 2023م صـــ24
([15]) مبادرة وقف العنف - أسامة حافظ وزملاؤه - مكتبة العبيكان - الرياض - طبعة أولى 2004م صـــ60