التوكل شعور بهيمنة الله تعالى على الحياة، وبأنَّ حركاتها وسكناتها محكومة بحوله وقوته سبحانه لا يمكن أن تند منه أو تبعد عنه.
واستقرار هذا الشعور في القلب يجعل صلة الإنسان بربه عميقة، وركونه إليه بادياً.
ولكي ندرك الأساس العقلي لهذا الشعور يجب أن نلقي نظرة لا افتعال فيها على ما يدور حولنا من شئون، وعلى مسلكنا المعتاد بإزائه.
إن أحدنا يخرج من بيته إلى عمله في الصباح، وهو مالك لأمره، يعتقد أنه ليس عليه أكثر من أن يحرك قدميه إلى حيث يصل، وتلك وسائل مقدورة له.
ولعل الماديين من الناس يقولون:
وما دامت تلك الوسائل في حوزته فلا معنى للتفكير فيما وراءها.
ونريد نحن أن نتأمل في هذا القول، ومدى صدقه.
هل صحيح أن الوسائل الموصلة في أيدينا؟.
لننظر إلى الكيان البشري نفسه.
إن الساعة التي في معصمك، والمنبه الذي في بيتك لا يدوران إلا بعد أن تملأهما يومياً، فإن غفلت عن ذلك توقفت العقارب وسكت الدق.
أفكذلك قلبك بين حناياك؟ إن دقاته لا تهدأ أبدا، إنه يخفق أردت أو لم ترد، إنه يواصل عمله ليلاً ونهاراً، وأنت نائم وأنت يقظان، فهل لك عليه من سلطان؟ فإذا خرجت من بيتك، وشاء مالك التصرف فيه أن يوقفه فمن يمنعه؟.
ولنفرض أنك مالك أجهزتك الظاهرة والباطنة، وأن هيمنتك عليها شاملة كاملة، فماذا تملك من ظروف الحياة الخارجية؟ إن الحركة الواسعة التي تدور في الشارع بعيدة عن نطاق حكمك، ولو تنبَّه حسك أشد التنبُّه ما أمكنك أن تسيطر على كل شيء، ويمكن على حين غرة أن تصاب بأذى شديد من قشرة برتقالة تحت قدمك، أو من سيارة مارقة لم يحسن قائدها الابتعاد عنك.
إن هناك أشياء كثيرة لا يتم مراد الإنسان إلا بتوفيرها جميعاً، وهذا التجميع والتنسيق لا تحكمهما مشيئة بشر، ونحن المؤمنين لا نرد ذلك إلى حظوظ عمياء بل إلى مشيئة الخالق الكبير، المهيمن على كل شيء [وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] {هود:123}.
من أجل ذلك كثرت الأوامر في الكتاب والسنة بالتوكل على الله جل وعلا، لأن التوكل دلالة علم بالله تعالى وصفاته وما ينبغي له...
وفيه بصيرة من العبد بالحدود التي تعمل في نطاقها قدرته وإرادته، وبالمدى الواسع الذي تتصرف فيه الإرادة العليا والقدرة العليا.
والمتوكل بهذه اليقظة الفكرية والنفسية أهل لأن يظفر برعاية الله وتوفيقه ومحبته [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] {آل عمران:159} ، [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا] {الطَّلاق:3} .
أي أنَّ الله تعالى يكفي من لاذ به واعتمد عليه، وهو سبحانه يستحيل أن يفوته ما يريد، فهو بالغ أمره لا محالة، بَيْد أنه أدار الكون على قوانين مقدورة، وسنن معلومة [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] {الحجر:21}.
ومن الجهل بالله تعالى وصفاته، والجهل طريق الكفر إن لم يكنه ، أن يتوقع أحد الخذلان والضياع مع ارتباطه بالله!!
وقد جاء في نظم القرآن الكريم تساؤل غريب يكشف وجه الحق في هذه القضية [أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ] {الزُّمر:36-37} .
والتوكل كلمة مظلومة، إنها تعني ركون الإنسان إلى الله تعالى فيما لا طاقة له به لأنه لا يستطيع عمله.
أما ما يدخل في حدود طاقته ويملك البتّ في بدايته ونهايته فلا مكان للتوكل فيه.
إذا دخل الليل وهو في حجرته نهض إلى المصباح فأوقده، هذا عمله الذي يقوم به ولا ينتظر من السماء أن تنوب عنه فيه.
إذا سار في طريق التزم الجانب الأيمن، وتجنب مظان الخطر؟ وأجاب داعي الحذر، أما إيثار الفوضى والنزق وانتظار السلامة باسم التوكل فجهل...
إذا تقدم لمسابقة استكمل أهبة الفوز بما تفرض من كفاح ذهني وعلمي وما تتطلبه من نشاط يقرِّب من الغاية...
إذا سكن بيتا غلَّق أبوابه ليلاً، وتعهد ثغراته حتى لا يجد اللصوص لهم منفذاً وهكذا.
من أجل ذلك أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي سأله: أتركها وأتوكل أم أعقلها وأتوكل ـ يعنى ناقته ـ؟ فقال: (أعقلها وتوكل).
ونبَّه الله المجاهدين ـ إذا ضمتهم جنبات الميدان أن يكون انتباههم حاداً وتيقظهم بالغاً[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا] {النساء:71}.
وقبل أن يأمر الله تعالى نبيه بالتوكل عليه في قوله:[ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ] {هود:123}
قبل ذلك مباشرة قال: [وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ] {هود:121-133}.
فالأمر بالتوكل جاء بعد إعلان عن عمل موصول وصبر طويل.
ورأى أحد الأئمة فقيراً ينطلق إلى الحج دون زاد، فسأله أين زادك؟.
فقال: أنا متوكل على الله.
فقال له: أمسافر أنت وحدك؟ قال: بل مع القافلة.
فقال له: أنت متوكل على القافلة!!.
وصدق، فهذا متأكل لا متوكل، وهذا الصنف جاهل بالإسلام، ومعرفته بالله تعالى غامضة يشوبها حمق كثير.
والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد كل الوسائل المقررة في عالم الشهادة، إيمان بالله سبحانه بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من واجبات.
والتوكل يجئ صدقاً وسكينة في موضعه الحق، ولنضرب لذلك الأمثال.
طلب الرزق غريزة لدى الأحياء كلهم ما إن تبدو تباشير الصباح حتى يستعد الفلاحون والتجار والصناع وأصحاب الحرف للدخول في كفاح طويل أو قصير كي يحرز كل امرئ قوته وقوت أسرته.
وهذا الكفاح محك قاس للأخلاق والمسالك، فإن اللهفة على تأمين المعايش قد تلجئ أصحابها إلى الختل والتلون أو الكذب والحيف.
وربما وجدت الضعاف يتملقون الأقوياء، والصغار يذوبون في الكبراء.
والإسلام يرفض أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة لهذه الآثام كلها، ومن ثَمَّ فهو يطلب بصرامة أن يكون الارتزاق من أبواب الحلال المحض، وألا يلجأ مسلم أبدا إلى غش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء: الوسائل التي حددها الشارع هي وحدها الأسباب الشريفة التي يقوم بها ثم يقف عندها مرتقبا في ثقة ما تتمخض عنه من نتائج.
والتزام التقوى في معالجة هذه الشئون وأمثالها هو منطق الإسلام، وهو منطق منتج لا عقيم قال تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] {الطَّلاق:2-3} .
والتقوى هنا رعاية الشرف في التكسب، والاستقامة في الطلب، فإن إلحاح الرغبة في طلب الكفاف أو في طلب الثراء قد يدفع إلى اللؤم والعوج.
وحجزاً للنفوس عن هذه المهاوي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته).
وغرساً لفضيلة التوكل عند طلب الرزق روى الغزالي في الإحياء هذه الآثار.
قرأ الخوَّاص قوله تعالى:[وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا] {الفرقان:58} فقال: ما ينبغي للعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى.
وقيل لبعض العلماء في منامه: من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته، وقال بعض العلماء: لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلا ما قد كتبه الله لك.
وقال يحيى بن معاذ: في وجود العبد الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد.
قال إبراهيم بن أدهم: سألت بعض الرهبان: من أين تأكل؟ فقال لي: ليس هذا العلم عندي ولكن سل ربي من أين يطعمني؟.
وقال هرم بن حيان لأويس القرني: أين تأمرني أن أكون؟ فأومأ إلى الشام.
وقال هرم: كيف المعيشة؟ قال أويس : أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.
وقال بعضهم: متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً، نسأل الله تعالى حسن الأدب.
وهذه الآثار لا تعنى إلا رفع كبوات البؤس أو زجر نزوات الطمع، فإن البشر في هذه الميادين يفتقرون إلى علاج شديد.
لقد رأينا ذل الفقراء وشره الأغنياء وراء المال يفعل الدواهي فلا جرم أن ترد الآثار تلطم هذا التطرف كيما ترده إلى سواء السبيل.
ولكن هذه التعابير التي يقصد بها إشاعة الثقة في أرجاء النفس الإنسانية حتى لا تضرع وتجزع انقلبت دلالاتها في بعض النفوس ففهمت منها ما لا يجوز أن يفهم، فهمت منها أن السعي باطل، وأن السكون دِين، وفى ذلك يقول رجل مهزوم أطاش العجز لبه:
والسعي للرزق والأرزاق قد قسمت بغي ألا إن بغي المرء يصرعه