التغلب: صوره وطرائقه
د: أكرم كساب
إذا كان الفقهاء قد اعتبروا المتغلب حاكما، وأجازوا القهر والتغلب وسيلة للحكم فهل هذه الآلية معتبرة بإطلاق؟
وهل يعتبر الانقلاب صورة من صور التغلب؟
هذا يتطلب منا أن نوضح عدة أمور، وهي كالتالي:
أولا: ما هو التغلب؟
التغلب في اللغة:
جاء في معاجم اللغة: (غلَبَ): غلَبَ على يَغلِب، غَلْبًا وغَلَبةً وغَلَبًا، فهو غالب، والمفعول مَغْلوب، وغلَب فلانًا: قهره، هزمه. و(غلب) على الشَّيْء أَخذ مِنْهُ قهرا، وَيُقَال غلب عَلَيْهِ وَفُلَانًا على الشَّيْء أَخذه مِنْهُ كرها فَهُوَ غَالب غَلَبَة وَهُوَ غلاب. و(غَلبه) عَلَيْهِ جعله يغلبه وعَلى بلد كَذَا جعله يستولي عَلَيْهِ قهرا.
التغلب في الاصطلاح: والمعنى الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي، فيمكن القول بأنه: القهر والاستيلاء على الحكم ممن لا يحق له، في ظروف خاصة ثم يقر الناس له بحكمه، بعد إشاعة الأمن وإقامة الجمعة والجهاد.
ثانيا: من هو المتغلب؟
والمتغلب ليس هو كل من ملك قوة، وجمع عددا واغتصب سلطة دو قيد أو شرط؛ فهذا وهم غير موجود في كتب الفقه، وهو فقه أعرج أعوج لقيط، لم يقل به إلا فقهاء السلطة وعلماء الشرطة، من عبيد الاستبداد ومحبي التزلف.
وإنما المتغلب كما ذكره الفقهاء وأعطوه صبغة شرعية استثنائية هو: المستولي على الحكم لحاجة ملحة، مع توفر شروط الإمامة فيه، واستقرار الأمر له، بعد أن أقام الشرع بإقامة الجمعات والجهاد.
وقد عبر عن هذا صاحب (مغني المحتاج) بقوله: و(باستيلاء) شخص متغلب على الإمامة (جامع الشروط) المعتبرة في الإمامة على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين... ((مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (5/ 423)).
ومعنى هذا أن المتغلب هو من جمع:
1. الاستيلاء على الحكم بغير حق.
2. وجود قوة وشوكة معه.
3. أن يكون هناك حاجة لتغلبه، كخلو منصب الرئاسة.
4. أن يكون جامعا لصفات الحاكم.
5. أن يقيم الشرع بإقامة الجمعات والجهاد، إذ شرط أساس في الحاكم الشرعي كما جاء في مسلم: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا»، فكيف بالمتغلب؟!
6. أن ينشر العدل ويحقق الأمن.
7. أن يستتب له الأمر ويبايع له الناس.
وسأذكر أقوال العلماء في هذه الشروط عند ذكر حكم التغلب إن شاء الله تعالى.
ثالثا: صور التغلب وطرائقه؟
وللتغلب في كتب الفقه صور متعددة، منها ما أقره الفقهاء وقالوا به، وآخر لم يعتبره الفقهاء تغلبا، وإنما اعتبروه فسقا وخروجا، وأهم هذه الصور:
1. أن يتغلب متغلب على متغلب، فالأول لص والثاني أخ له في اللصوصية والتغلب، وما كان كذلك فقد أجاز العلماء التغلب فيه، إذ ليس للأول خصوصية في لصوصيته وغلبته.
2. أن يتغلب صاحب شوكة عند فراغ منصب الحكم، وهذا الفراغ قد يكون بسسب:
أ- موت الحاكم ولم يختر الناس بعد خلفا له.
ب- إصابة الحاكم بجنون مستمر ولم يتفق الناس على حاكم بعد.
ت- أن يقد الحاكم استقالة ولم يرجع فيها، وما زالت الأمة تبحث عن حاكم يصلح.
ث- أن يكون هناك قتال داخلي وكل يدعي أحقيته بالحكم، فيتغلب أحد الطرفين، أو يأتي ثالث فيتغلب على الفريقين.
3. أن يتغلب أحدهم على حاكم كافر كفرا بواح للناس فيه برهان.
4. أن يتغلب على حاكم شرعي عادل حي، وفي هذا تفصيل سيأتي في مكانه قريبا.
رابعا: تغلب اللصوص على بعضهم يُقرّ، وأي تغلب عليهم (يُقر ويُشرْعن):
ولأن المتغلب لص سارق، وحاكم غير شرعي فإن التغلب عليه يقره الفقهاء، قال ابن عابدين: وإذا تغلب آخر على المتغلب وقعد مكانه انعزل الأول، وصار الثاني إماما.. ((الدر المختار (4/ 263)). وجاء في كتاب (أسنى المطالب): (وكذا) تنعقد (لمن قهره) عليها فينعزل هو... (أي المتغلب الأول).. ((أسنى المطالب (4/ 110)).
ومن باب أولى فإن التغلب على هذا اللص المتغلب يزيل ملكه، لأن إقراره ضرورة، ومشروعيته ليست مطلقة، يقول ابن بطال: فأما من رأى شيئًا من معارضة الله ببدعة أو قلب شريعة، فليخرج من تلك الأرض ويهاجر منها، وإن أمكنه إمام عدل واتفق عليه جمهور الناس فلا بأس بخلع الأول.. ((شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/ 215)).
خامسا: لا تغلب على حاكم شرعي حي:
وجواز التغلب على متغلب أو عند شغور المنصب أو عند كفر الحاكم، لا يعني جواز التغلب على الحاكم الشرعي الحي، قال صاحب (مغني المحتاج): و(باستيلاء) شخص متغلب على الإمامة (جامع الشروط) المعتبرة في الإمامة على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين. أما الاستيلاء على الحي فإن كان الحي متغلبا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إماما ببيعة أو عهد لم تنعقد إمامة المتغلب عليه. وجاء في كتاب (أسنى المطالب): (وكذا) تنعقد –أي الإمامة- (لمن قهره) عليها فينعزل هو بخلاف ما لو قهر عليها من انعقدت إمامته ببيعة أو عهد فلا تنعقد له، ولا ينعزل المقهور.
والنووي يقرر أن الفقهاء ما أجازوا إمامة المتغلب إلا حال فراغ الحاكم فيقول: وأما الطريق الثالث، فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين... ((روضة الطالبين (10/ 46)).
وهذا ما ذكره القلقشندي بنصه تقريبا حيث يقول: فإذا مات الخليفة فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير عهد إليه من الخليفة المتقدم ولا بيعة من أهل الحل والعقد انعقدت إمامته لينتظم شمل الأمة وتتفق كلمتهم ((مآثر الإنافة في معالم الخلافة (1/ 58)).
وعلى ذلك فإن تغلب المتغلب على متغلب أو عند خلو السلطة من حاكم لموت أو استقالة؛ فإن التغلب لا يصح ولا (يشرعن) إن كان على حاكم شرعي حي.
د: أكرم كساب