اشتملت هذه الآية على ثلاث وصايا للداعي إلى الله عزَّوجل:
الوصية الأولى: أَخْذُ العفو.
الوصية الثانية: الأمرُ بالعُرف.
الوصية الثالثة: الإعراضُ عن الجاهلين.
الوصية الأولى: أيها الداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، إنَّك ستواجه ممن تدعوهم أذىً وعداءً، وسفاهة وجهلاً، وعناداً واستكباراً، وسخريةً واستهزاءً، وستواجه سباباً وشتائم... وإنَّك أمام هذا المَوقف الصعب بين خيارين:
فإما أن تُواجه من تعالجهم بمثل أعمالهم، فتخرجَ عن منهج دعوتك، وتقيم بينك وبينهم عَقبات الخُصومات، فالعداوات، وهي عقبات كأداء في طريق دعوتك تمنعك من مُتابعة المَسير.
وإما أن تعفو عمَّن يُسيء إليك، وتتغاضى عنه، وتبقى جُسور الصلة بينك وبين من تسعى لهدايتهم ونُصحهم وإرشادِهم.
وقد جاء التوجيه الرباني لوُجوب سُلوك سَبيل العفو والإغضاء عن إسَاءات المُسيئين.
والبديع في عبارة التوجيه القرآنية، أنَّها جاءت بأسلوب المُطالبة بأخذ العفو: (خُذِ العَفْوَ) دون عبارة: فاعفُ، فالزم سبيل العفو، إنَّ جملة (خُذِ العَفْوَ) تشعر بأنَّ العفو شيء ثمين يؤخذ ويُغتنم ويُظفر به.
والعفو له حَلاوة في القلوب والنفوس، فمن عَفَا ذَاقَ حَلاوة العفو، والأشياء ذوات الحلاوات تُؤخذ.
والعفو يثيب الله عزَّ وجل عليه ثَواباً عظيماً، وهذا الأجرُ العَظيم يأخذه المؤمن بسبب العفو، فهو سببٌ في أخذ الأجر العظيم من الله تعالى.
إنَّ قول الله عزَّ وجل (خُذِ العَفْوَ) تدلُّ بلازمها على النهي عن التشفِّي. أي: ولا تأخذ التشفي لنفسك بالانتقام، ومُقابلة السيئة بمثلها، ومُعاقبة المُسيء فَحَلاوةُ العفو ولذَّتُه مع ثوابِ الله العظيم خيرٌ لك من لذَّة التشفِّي العَابرة، التي قد لا تَظفر بها، وقد تجلبُ لك شراً كَبيراً، مع ما تُقيم من عقبات وجُدُر في سبيل قيامك بأداء رسالتك التي تَحملها للإصلاح، ومع ما تدمِّر من جُسور بينك وبين من تُعالجهم بالدعوة.
الوصية الثانية: (وَأْمُرْ بِالعُرْفِ)، أي: وليكن همُّك أن تأمر الناس بالعُرف. والعُرف هو: البذل والعَطَاء والمُسَاعدة لذوي الحَاجات والضَّرورات.
إنَّ الداعي إلى الله تعالى يَجب عليه أن يهتمَّ بقضايا ذوي الحَاجَات من الفقراء، والمَسَاكين والضُّعفاء، وأن يحثَّ على العطف عليهم ومُساعدتهم، وبذلك يستميل قلوبَ الكثرة الكَاثرة من النَّاس.. ويجعلهم يلتفون حوله، ويَستجيبون لدعوته.
وبالبذل والعطاء والمُساعدة يَقطع حَامل الرسالة لسانَ من يُسيء إليه، ويَتَصاغر في نفسه، ويَتَراجع عن مَوقفه، ويحاول التكفير عن إساءته.
الوصية الثالثة: (وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)، أي: وقابل الذين يَتَمادون في الجَهَالة عليك بعد العفو عن إساءتهم، وبعد أمرك بصنع العُرْف لهم، بالإعراض فَقَط، وهو إعطاء عارضك لهم وهو جانب الوجه والجسم.
ونفهم من هذا أنَّه من غير المُستحسن إدارة الظَّهْر لهم، والتولي عنهم، بل المطلب الاكتفاء بمجرَّد الإعراض عنهم، والإعراض منزلة وُسْطَى بين المُواجهة والإدبار.
والمُراد بالجاهلين الذين يَتَسافهون على الفُضَلاء، فيُخَاطبونهم بالأقوال النابية القبيحة، أو بالشَّتَائم والسِّبَاب، ويُؤذونَهم بالتحقير والسخرية، والهَمْزِ واللَّمْز...
بعد الوصايا الثلاث جاءت هذه الآية لمُعَالجة نفس حامل الرسالة إذا تحرَّكت نَفْسُه للتَّشَفِّي ممَّن أساء إليه... فأبان الله عزَّ وجل له أنَّ ذلك من نَزْغِ الشيطان. أي: من تحريكه وتحريضه وإثارَتِه للغضب.
وعلَّمَه الله عزَّ وجل الدواء الذي يَصْرِفُ الله به عنه هذا النزغ الشيطاني..
هذا الدواء هو أن يَستعيذ بالله مِنه، فإذا فَعَل ذلك سمع اللهُ استعاذتَه الصادقة، الصادرة من عُمق فؤاده، فيستجيب له، فيعودُ إلى حالة الهُدوء والسكينة والطمأنينة.
ونزغ الشيطان: وَسَاوِسُه وتَسويلاتُه وتَزيناته، التي تَحمل الإنسان على المَعَاصي.
فاستعذ بالله: فادعُ الله أن يُعيذَك من نَزْغِ الشيطان، ويصرفه عنك، ويحميك من وساوسه وتَسْويلاته. ومن استعاذَ بالله ولَجَأ إليه صَادق النية، أدخله الله في حِمَايته ودائرة عصمته.
[إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]: علمه شامل واسع... يُجيب المُستعيذ إذا دَعَاه بصوت خَافت، وبنيَّة صادقة... سميع فعل الجاهليَّة وسفاهاتهم، عليم بما تَحمله من أذاهم...
وقد أكَّد الله سبحانه مَضْمُون هذه الآية في سُورة فصلت: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] {فصِّلت:33}.
[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] {فصِّلت:34}. فإذا جَادلك أحدٌ بالبَاطل دَفعت بالمُجادلة بالتي هي أحسن... وإذا قُوبلت بالسباب والشتائم، والدسِّ والكَيد والمَكْرِ والاتِّهَامات البَاطلة دَفعت بالتي هي أَحسن.
[فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]: إنَّها تُبرِّد حَرارة هُجومه، ويَتَراجع عن مَوَاقفه السيئة شَيئاً فَشيئاً باتِّخَاذ مَواقف ليِّنَة رَقَيقَة حَسَنة... ليُغطِّي مَوقفه السابق الذي جعله مُداناً في نَظَر الناس بقُبْحِ التصرُّف، وبالعُدوانيَّة التي لا مُسوِّغ لها.. ولا يَزال يَتَراجع حتى يَتَظَاهر بالتودُّد، فيبدو كأنَّه ولي حَميم، مُناصر ذو وَلاء، صديق ذو ودٍّ حقيقي.
وقوله تعالى: (كَأَنَّهُ): يدلُّ على أنَّه قد يَتَصنَّع هذه الظواهر الوديَّة مُداهنة ورياءً ليُغطِّي ما سَبَقَ من مَوَاقِفَ سيِّئَة لا مُسوِّغ لها.
(وَمَا يُلَقَّاهَا)، أي: هذه الخصلة الحَميدة، مُقابلة السيئة بالحسنة (إلا الذينَ صَبَرُوا) على الأذى، فهي تحتاج إلى صبر عظيم، وحَظٍّ وَافرٍ من فَضَائل الأخلاق ومَحَاسن الشِّيَم.
يلقاها من عطاءات الله تعالى.
[وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]: هذا هو الدواء نفسه الذي أوصى الله به في سورة الأعراف... وزاد في سورة (فصلت) بالتأكيد وإفادة الحصر: [إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ]، أما آية الأعراف فقد جاء فيها: [إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ].
وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيَّه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا مُتَفَحِّشاً، ولا سخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يَعفُو ويَصْفَح.
وروى أحمد عن عقبة بن عامر قال: لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته، فأخذتُ بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال، فقال: (يا عقبة صِلْ من قَطَعَك، وأعطِ مَنْ حَرَمك، وأعرضْ عمَّن ظَلَمَك).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عُيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس ـ وكان من النفر الذين يدنيهم عُمر ـ وكان القرَّاء أصحاب مَجَالس عُمر ومُشَاورته كهولاً كَانوا أو شباباً ـ، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجهٌ عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحرُّ لعيينة، فأذن له عُمر، فلما دخل قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تُعطينا الجَزْل، ولا تَحكم بيننا بالعَدْل، فغضب عُمر حتى همَّ أن يُوقِعَ به. فقال الحرُّ: يا أمير المؤمنين! قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ]، وإنَّ هذا من الجاهلين، والله ما جَاوَزَها عُمر حين تَلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله عزَّ وجل. انفرد بإخراجه البخاري.
والجَهَالة: ضدُّ الرشد، والجهالة ضد العلم، والإعراض يكون بالترك والإهمال، والتهوين من شأن ما يَجْهلون به من التصرُّفات والأقوال، والمُرور بها مرَّ الكرام، وعدم الدخول معهم في جِدَال لا يَنْتَهي إلى شَيء إلا الشدَّ والجذب، وإضاعة الوقت والجهد... وقد ينتهي السكوت عنهم، والإعراض عن جَهَالتهم إلى تَذليل نفوسهم وتَرْويضها، بدلاً من الفُحْشِ في الرَّدِّ، واللجاج في العِنَاد، فإن لم يؤدِّ إلى هذه النتيجة فيهم، فإنَّه يعزلهم عن الآخرين الذين في قُلوبهم خير، إذ يَرَون صاحبَ الدعوة مُحتملاً مُعْرِضاً عن اللغو، ويَرَون هؤلاء الجاهلين يَحْمَقون ويثورون ويَجْهلون، فيسقطون من عيونهم ويُعزلون!ـ الظلال 3/1419ـ
قال تعالى في سورة المؤمنون: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ] {96}. فهذه الآيات الثلاث في الأعراف، والمؤمنون، وفصلت، لا رابع لهن، يرشد فيهن الله تعالى إلى مُعَامَلة العَاصي من الإنسان بالمعروف، والتي هي أحسن، ثم يرشد إلى الاستعاذة من شيطان الجن، فإنَّه لا يكفُّه عنك الإحسان، وإنَّما يُريد هَلاكك ودَمَارك، فإنَّه عدو مُبين لك ولأبيك من قبلك.
(إنَّهُ سَمِيعٌ) لجهل الجاهل عليك، عليم بما يذهب نَزغ الشيطان.