البيوت في الحضارة الإسلامية.. طبقا للمواصفات البيئية الحديثة
الأستاذ محمد إلهامي - باحث في التاريخ و الحضارة الإسلامية
رابطة علماء أهل السنة
أثبتت عدد من الدراسات التي أجريت على البيوت الإسلامية أن درجة حرارة الهواء داخل هذه الأفنية أقل من درجة حرارة الهواء الخارجي صيفا، وأقل من درجة الحرارة فوق سطح المنزل بحوالي 4 إلى 7 درجات مئوية. وبصفة عامة فغالبا ما كانت تتوسط الفناء الداخلي نافورة أو شاذوران أو بركة ماء، كما كان يُزَوَّد بالأشجار المثمرة التي كانت تلقي بظلالها على أرضيته وعلى الواجهات المطلة عليه[1].
كذلك أفادت العديد من الدراسات العملية والمعملية بأن استخدام النوافير في فراغات مقفلة أو مفتوحة له آثار قوية في تحسين البيئة المناخية للمناطق ذات الطقس الحار. وهو ما يعتبره العديد من الخبراء أحد اتجاهات المعالجات البيئية المهمة والمفيدة في المجتمعات العربية والإسلامية ذات الطقس الحار[2].
وباعتبار وقوع غالب المدن الإسلامية في المناطق الحارة، فقد لجأ المعماري المسلم إلى وسائل عديدة للتظليل، منها فكرة عمل بروزات متراكبة بواجهات المباني المطلة على الشوارع، حيث يشغل الطابق السفلي قطعة الأرض بكامل مسطحها، بينما تبرز واجهات الدول الأول عن واجهات الدور الأرضي على هيئة بروزات كابولية، ثم تبرز واجهات الطابق الثاني عن واجهات الطابق الأول، وهكذا. وبذلك تقوم هذه البروزات المتراكبة بإلقاء الظلال على واجهة المبنى نفسه وعلى أرضيه الشارع التي تطل عليه، كما أنه في حالة وجود بعض العناصر المعمارية البارزة كالمشربيات مثلا فسيتم إلقاء المزيد من الظلال[3]، وقد نتج عن التقارب بين المباني في المدينة الإسلامية تحقيق ظل ذاتي، فقد استغل تظليل المباني المتجاوزة كوسيلة طبيعية لعزل الواجهات الخارجية للمباني، وكذلك كل الشوارع وممرات المشاة[4].
وفي معظم البيوت الإسلامية المقامة بالمدن فإن الحوائط الخارجية للطابق الأرضي عادة ما تُبنى بالحجر الجيري بسمك 50 سم وأكثر، وبسبب اللون الفاتح للحجارة فإنها تعكس جزءا كبيرا من الإشعاع الشمسي الساقط عليها، والحجر الجيري مادة ذات سعة حرارية عالية، حيث أن كثافته كبيرة (1920 كجم/م3) مما يجعل زمن النفاذ الحراري من خلاله يصل إلى 15 ساعة[5]، وهذا يعني أن الحرارة الخارجية سوف تأخذ وقتا طويلا لتصل لفراغات المبنى الداخلية نظرا لطبيعة وسُمْك الحجر المستخدم في بناء حوائطه، لذلك فإن ارتفاع درجة حرارة الهواء نتيجة إشعاع الحوائط الخارجية للحرارة المخزونة بها ليلا لن يسبب إزعاجا، حيث إن الأدوار الأرضية في البيت الإسلامي كانت لا تستخدم غالبا في النوم، وعلى ذلك فإن الفراغات الداخلية تحتفظ بهوائها البارد معظم ساعات النهار أثناء ارتفاع درجة حرارة الهواء في الخارج[6]. أما الجزء العلوي من الحوائط الخارجية، وهو يمثل الأدوار التي يعلو الدور الأرضي، فعادة ما كان يبنى بالطوب المنهي بالبياض، ويكون أقل سمكا من حوائط الدور الأرضي الحجرية، وعلى ذلك فإن انتقال الحرارة للداخل سيكون أسرع، وهذا يعني أن الفراغات الداخلية تصبح دافئة مساء ولكن يتم التغلب على ذلك عن طريق تهويتها بالهواء البارد أثناء الليل[7].
وفي دراسة للعلاقة بين النسبة المئوية للمباني المصمتة والأجزاء المفتوحة (نوافذ أو فتحات …) في بعض المساكن الإسلامية القديمة بالقاهرة، لوحظ أنه ليس هناك نسب ثابتة للمفتوح والمصمت بواجهات هذه المساكن وأن النسب تتراوح بين 10% و 20% للمفتوح، وهي تتطابق تماما مع ما أوصت به دراسة حديثة: أن تكون الفتحات بمباني القاهرة صغيرة جدا وتتراوح بين 10% و 20%[8].
إن توزيع الفتحات بواجهات المباني الإسلامية، خاصة السكنية، كان يتم وفق دراسة دقيقة وفقا لتوجيه كل واجهة وما تتعرض له من إشعاع شمسي، وهو ما أوضحته إحدى الدراسات الحديثة، فقد اتضح من دراسة الواجهات المطلة على فناء منزل جمال الدين الذهبي بالقاهرة الإسلامية أن أسلوب توزيع الفتحات وأماكن البروزات خاصة بكل من الواجهتين الشرقية والجنوبية قد أتاح توافر كم كبير من الظلال في منتصف النهار صيفا، حيث تأخذ الشمس أكبر ارتفاع لها بالسماء، كما لوحظ أن نسبة الفتحات بالواجهة الجنوبية تشكل حوالي 11.66% من إجمالي مساحة الواجهة، وأن نسبة وقوعها في الظل نتيجة للبروزات الموجودة بالواجهة قد وصل إلى 86%، أما في الشتاء فإن نسبة تظليل هذه الفتحات تقل لتصبح 75%، مما يدل على أن هذه الفتحات تتمتع بكمية أكبر من الإشعاع الشمسي، وهو شيء مطلوب في أثناء الشتاء، وهو ما يؤكد أن توزيع الفتحات ومقدار البروزات قد تم بأسلوب يعمل على تعظيم كمّ الظلال صيفا وتقليله شتاء[9].
وفي بلدة “غرداية” بوادي الميزاب بالجزائر وُجد أن ضريح “سيدي إبراهيم” به ريح منعشة باردة ناتجة عن التيارات الهوائية بالداخل، حيث توجد فتحات صغيرة في الحائط المواجه للرياح وفتحات كبيرة على هيئة أقواس في الحوائط المقابلة، وعلى هذا فإنه من الواضح أن البنائين في غرداية كانوا على دراية بأن فرق الضغوط في اتجاه الريح والاتجاه المضاد للريح على الحوائط يؤثر في كمية حركة الهواء داخل المبنى، بحسب المعادلة التي نشرتها محطة الأبحاث البريطانية والتي تقول: ك= 3150 م س
ك: معدل حركة الهواء (قدم مكعب/ ساعة)، م: مساحة فتحة دخول الهواء (قدم مربع)، س: سرعة الهواء (ميل/ ساعة)[10].
ويعتبر الرواق المسقوف في بيت الضيافة في قرية القرنة قرب الأقصر بمصر من الأمثلة المهمة للظاهرة السابقة، فحتى في يوم حار جدا يهب نسيم معتدل البرودة إلى داخل الرواق، ويرجع هذا إلى التصميم المعماري الذكي الذي يوظف مبادئ علم التحريك الحراري، فالحجرة تطل من ناحية على فناء مدابر للريح، وفي الناحية الأخرى يحجب الرياح السائدة حائط شبه مغلق فيه صفان من الفتحات الصغيرة فينتج عن تدفق الهواء فوق المبنى وحوله منطقة ضغط جوي منخفض في الجانب المدابر للريح في داخل الرواق، مما يؤمن تدفقا منتظما للهواء بطريقة السحب من خلال الفتحات الصغيرة، وهذا المبدأ نفسه مطبق في إقليم الحلة بالعراق حيث استخدمه القرويون في تهوية مبانيهم[11].
وبشكل عام فلقد كانت سمة البيوت الإسلامية هي تركيزها على الداخل أكثر من الخارج، فالبيت الإسلامي في العادة هو فناء داخلي مكشوف، وحوله الغرف التي تطل على الخارج من خلال نوافذ عالية أو مشربيات “تهيئ الانفتاح على الخارج دون إخلال بالحجاب، وتيسر السبيل أمام أهداف التهوية والإضاءة كما تتيح الفرصة لمن يطل”[12]، وتعوض قلة نسبة الفراغات الخارجية بالمدن الإسلامية[13].
[1] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص113.
[2] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص133، وهو ينقل عن: أحمد عبد الملك عفيفي: الوظيفية في العمارة الإسلامية، ندوة عمارة المساجد 5/95 – 112، كلية العمارة والتخطيط. جامعة الملك سعود، الرياض، 1999م.
[3] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص102، وهو ينقل عن: عمرو خير الدين: المعالجات البيئية في تخطيط المدن الإسلامية وتصميم مبانيها، سجل بحوث مؤتمر أنتربيلد، القاهرة، 1997م، ص855 – 877.
[4] د. محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية ص171، وهو ينقل عن: أحمد محمد عبد الله: المناخ والعمارة، رسالة ماجستير لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية ص217.
[5] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص107، وهو ينقل عن:
El-Bakry, M. (1973) The Islamic house, A study of enviromental characteristics of Cairo’s Islamic house. Report for M.Sc. in Architecture. School of Enviromental studies, University college, London.
[6] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص107.
[7] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص108، وهو ينقل عن: حمدي صادق أحمد: تأثير العوامل المناخية في المناطق الصحراوية على التشكيل المعماري للمسكن الإسلامي، رسالة دكتوراة، كلية الهندسة، جامعة حلوان، القاهرة (1994م). ص73.
[8] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص124، وهو ينقل عن:
سامية كمال نصار: العلاقة بين الفراغ الداخلي والفراغ الخارجي للمسكن الإسلامي فترة عصر المماليك والعثمانيين بمصر، رسالة ماجستير، قسم العمارة، كلية الهندسة، جامعة القاهرة، 1989م. ص151.
والدراسة الحديثة المقصودة هي: سمير حسن حسني: المناخ والعمارة 1/37.
[9] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص124، 125.
[10] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص125، وهو ينقل عن: محمد البدوي: العمارة الإسلامية الشعبية في شمال إفريقيا، مجلة البناء، الرياض، عدد 13، ص45، 49.
والمرجع الذي أثبت المعادلة فيه هو:
Fathy, H. (1973). Architecture for the Poor, pp, 47.
[11] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص125، وهو ينقل عن: حسن فتحي: الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية ص103، 104.
[12] د. ثروت عكاشة: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية ص61.
[13] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص96.