ليس هناك من أمر أسعد للمرء بعد قوة إيمان من أخ صادق، يسأل عنك إن غبت، ويتفقدك إن طال غيابك، يشعر بألمك قبل أن ترفع صوتك، ويكفيك حاجتك قبل أن يسمع بك الناس... غطاؤك إن تكشفت، ودؤاك إن مرضت، وطعمتك إن جرعتك الأيام مرارة الجوع.
إن وجدته فاغفر له إن أخطأ، واعف عنه إن زل، وعض عليه بالنواجذ فإنه عملة نادرة... فإنك إن فقدته فقدت الخير الكثير....
إنها الأخوة، التي جعلت موسى يطلب النبوة لأخيه هارون، فلم ينس مزاياه ومنها فصاحته؛ بل قال بأعلى صوته: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}(القصص: 34، 35)، وقال: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}(طه: 29- 32)، قال ابن كثير: لهذا قال بعض السلف: ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون عليهما السلام، فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيا ورسولا معه إلى فرعون وملئه، ولهذا قال تعالى في حق موسى:{وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً}الْأَحْزَابِ: 69)تفسير ابن كثير (6/ 212).
هناك أخوة لكنها أخوة مزيفة، تلك التي لا تظهر إلا وقت الراحة والدعة، ولا يفيض منها الحب إلا ساعة اليسر والغنى، ولا يعرف عطاؤها إلا مع الشبع والترف، إنها دروع لكنها من خشب، وسهام لكنها من ورق، وحصون لا تمنع أذى، ولا تدفع باطلا، كبّر عليها أربعا؛ ولا تندم على فقدانها، لأنها فقدت روح الحياة.
إن أخوة يظهر إيثارها إن وجد من الطعام ما يكفي ومن الشراب ما يزيد، أخوة يتنافس البعض فيها على من يضع اللقمة في فم أخيه حين يضمن أن الأكل لن ينفد، وأن الحلو سيفيض؛ هذه لا تسمى اخوة، لكنها تجمل باهت، وإيثار كاذب، وخداع لا ينطلي على أحد، إن هذا الصنف لا تستر بهم عورة، ولا تسد بهم جوعة، فهؤلاء والعدم سواء، وقد أحسن الشاعر حين قال:
وإخوان حسبتُهم دروعاً ..........فكانوها ولكن للأَعَادي
وخلتُهم سهاما صائبات.......... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صَفت منّا قلوبٌ .......... لقد صدقوا ولكن عن ودادي
وقالوا قد سعينا كل سعي .......... لقد صدقوا ولكن في فساد
إن الدنيا لا تحلو قط إلا بأخ صدق، يشد الأزر، ويقوي الظهر، ويدفع الفاقة، وينصر المظلوم، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الدهر بما يملك، وقد يعين بما لا يملك، فقد يستدين لك، أو يجوع من أجلك، فمرضك مرضه، وهمك همه، وأمله رضاك لأن في ذلك رضا الرحمن سبحانه، وما أروع قول القائل:
إِنَّ صَدِيقَ الحقِّ مَنْ يَمْشِي مَعَــكْ .......... وَمَـنْ يَضُـرُّ نَفْسَــهُ لِيَنْفَعـَكْ
وَمَـنْ إِذَا رَيْبُ الزَّمَانِ صَدَّعَـكْ .......... شَتَّـتَ فِيكَ شَمْلَـهُ لِيَجْمَعَـكْ
فرق بين هذا وبين من ودّك بلسانه، وأعطاك حلاوة من فمه دون جميل فعل، إنه وإن أحسن قولا لكنه ما أحسن فعلا، وقد قال الشاعر في هذا وأمثاله:
وَلَيْـسَ أَخِي مَـنْ وَدَّنِـي بِلِسَانِـهِ ** وَلَكِنْ أَخِي مَنْ وَدَّنِـي وَهُوَ غَائِـبُ
وَمَنْ مَالُـهُ مَالِي إِذَا كُنْتُ مُعْـدِمًـا ** وَمَالِـي لَـهُ إِنْ أَعْوَزَتْهُ النَّـوَائِـبُ
إننا بحاجة إلى أخوة تستر ولا تفضح، تقوي ولا تضعف، تلين ولا تقسو، تقرب ولا تباعد، تجمع ولا تفرق، تيسر ولا تعسر، تبشر ولا تنفر...
أخوة إذا أخذت حمدت وشكرت، وإذا أعطت أسرت وأخفت، لها في السراء عون ملحوظ، وفي الضراء وقفات لا تبور...
تلك هي الأخوة؛ فإن وجدت أخا كهذا فاشدد عليه فإنه عضدك، واعض عليه بالنواجذ فإنه عملة نادرة، وإياك والتفريط فيه فإنك إن فقدته فقدت الخير الكثير...
أسأل الله ألا يحرمنا وإياكم أخ صدق، ومعين حق....