الإثنين 23 ديسمبر 2024 11:19 صـ 21 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    بين المرأة الصينية والمرأة المسلمة

    رابطة علماء أهل السنة

    عندما كنت أدرّس في معهد اللغات (يويان شويان) بجامعة بكين عام 1979؛ لفت نظري في شوارع المدينة، وفي أكثر من حالة، نساءٌ في سنٍّ متقدّمة، ولكن ليس إلى حدّ العجز، تحيط بكلٍّ منهنّ فتاتان تمسكان بها لمساعدتها على المشي، مع أمرٍ غريبٍ لا يمكنك تجاهلُه، وهو أنّ هؤلاء السيدات جميعاً كنّ ذوات أقدامٍ صغيرةٍ جدّاً بما لا يتناسب مع أعمارهنّ أو أحجام أجسادهنّ! لقد كان من الواضح أنّ أقدامَهنّ الضئيلة لم تُخلق لمثل أجسادهنّ الكبيرة!

    كنت قد سمعت قبل مجيئي إلى الصين أنّهم هناك يضعون أقدام الفتيات بقالبٍ كنت أظنّه مِن حديد، ثمّ اكتشفت أنّه من خيوطٍ حريريّةٍ يلفّونها على القدمين حين تبلغ الفتاةُ السابعةَ من العمر، ثمّ ما تزال قدما الفتاة في ذلك القالب حتّى تشبّ، فتبقى قدماها بحجم قدمَي طفلةٍ في السابعة.

    وكنت أظنّ، حتّى ذلك الوقت، أنّها إنّما هي مسألةٌ جماليّةٌ تحاول المرأة الصينيّة بها أن تحافظ على أنوثتها وصِغرِ قدميها حتّى لا تبدو خشنةً ضخمةً كالرجال. ولكنّني، وللمفاجأة، حين سألت عن الأمر هناك عرفت الحقيقة الصعبة: لقد كانوا يفعلون هذا بالمرأة حتّى لا تكون قادرةً، بمثل هاتين القدمين الصغيرتين، على الابتعاد أكثر ممّا ينبغي عن بيت زوجها!

    لم تكن الصين حديثة عهدٍ بهذا "التقليد"، فقد كانت هذه العادة أقدم من أن يستطيع من سألتهم عنها تحديد تاريخها، إنّها من التقاليد الموغلة قِدماً في تاريخ المرأة الصينيّة.

    وظننتُ لوهلةٍ أنّ الصين، بعد سيطرة الشيوعيّين على الحكم، لم تكن لتسمح بتطبيق مثل هذا التقليد في ظلّ النظام الجديد. ولكنّ الأيّام كشفتْ لي بعد ذلك أنّ تقاليد أخرى، وفي ظلّ النظام الشيوعيّ، ما زالت تتجاوز في تشديدها على المرأة أكثرَ الدول الإسلاميّة، وغيرِ الإسلاميّة، محافَظةً في العالم.

    كنتُ آنذاك أشارك في دورةٍ تطويريّة في اللغة العربيّة للإعلاميّين والدبلوماسيّين ومدرّسي أقسام اللغة العربيّة في الجامعات الصينيّة. وأترككم مع هذا المقطع من كتابي (نبويّون أكثر من النبيّ؟) وقد ذكرتُ فيه جانباً ممّا وقع لي هناك:

    "حدث أن ألقيتُ على المشاركين في الدورة، وأعمارهم بين 30 و50 عاماً، مقطوعةً غزليّةً معروفةً للشاعر الجاهليّ المُنخَّل اليَشكُريّ مطلعها:

    ولقد دخلتُ على الفتا ةِ الخِدْرَ في اليومِ المطيرِ

    وبعد أن شرحت لهم القصيدة؛ طلبت منهم أن يحفظوها غيباً لأسمعها منهم في اليوم التالي. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

    في المساء اتّصلت بي إحدى المشارِكات، وزارني، في الليلة نفسها، مشاركٌ آخر في فندقي، (فندق الصداقة) – وهو الاسم الذي أطلقوه على المدينة المخصّصة للأجانب في العاصمة الصينيّة –. وكلا المشارِكَين أرادا أن يحذّراني من مجرّد التفكير في أن أطلب غداً قراءة القصيدة من أيّ مشاركٍ في الدورة، لأنّ الجميع اتّفقوا، إن فعلْت، على الخروج من القاعة احتجاجاً، والسبب: أنّ القصيدة تتنافى مع الأخلاق الصينيّة!

    كانت تلك الحادثة الصغيرة صدمةً حضاريّةً وثقافيّةً لي لا يمكن أن أنساها. شعرت للوهلة الأولى بالحَيرة والاضطراب وعدم الاستيعاب: أيجري هذا الاحتجاج على قصيدة حبٍّ في دولةٍ مثل الصين الشيوعيّة؟ وعلى أبياتٍ لا تتجاوز مساحةُ الحبّ المكشوف فيها كلمة (قبّلتُها) وبيتاً طريفاً يختتم الشاعر به قصيدته:

    وأحبُّـــــــها وتــحبُّــني ويحبُّ ناقتَها بَعِيري

    ومرّ أمام خاطري، في لحظةٍ خاطفة، شريطُ المناهج والكتب التي ندرّسها في أقسام اللغة العربيّة بجامعات العالم العربيّ/الإسلاميّ، ولطلاّبٍ وطالباتٍ ما يزالون في العقد الثاني من أعمارهم، وفيها أشعار امرئ القيس المُنْحلّة، وأشعار أبي نواس الماجنة، وأشعار أبي العتاهية وبشّار بن برد، وغير هؤلاء ممّن قالوا في النساء وفي الغلمان وفي السكْر والفسق والعربدة..

    ومع مرور الأيّام والأسابيع والشهور؛ بدأت تتكشّف لي وأنا في الصين جوانبُ أخرى من أخلاق الصينيّين "الشيوعيّين".

    إنّهم هناك أكثر تعصّباً من أن يسمحوا للرجل بأن يمشي إلى جانب زوجته في الطريق، وعلى الزوجة أن تتأخّر عنه مسافةً لا تقلّ عن 10-15 متراً، وإلّا..

    وإنّهم هناك أكثر تعصّباً من أن يسمحوا للمرأة بأن تلبس ثوباً ينبئ عن وجود صدرٍ لها تحت ثيابها، ولا بدّ، لمن تملك مثل هذا الصدر، أن تضع مشَدّاً "يمحوه" من الوجود؛ قبل أن تفكّر في الخروج من منزلها.

    وإنّهم هناك أكثر تعصّباً من أن يسمحوا للمرأة بالزينة، أيّاً كانت هذه الزينة: لا أصباغ، لا عطور، لا خواتم، لا أقراط، لا أساور، لا عقود، لا ألوان في الملابس. يجب إلّا يختلف لباس الجميع عن ثوب (ماوتسي تونغ) الرماديّ ذي القطعتين الفضفاضتين، السترة والبنطال، والذي لا تتميّز فيه المرأة عن الرجل[1].

    ويحكي لنا التاريخ الصينيّ أنّ الأب كان إذا رُزق بأنثى؛ يذهب إلى السوق ليعرضها للبيع بأبخس الأثمان، فإن لم يجد من يشتريها أعطاها لأوّل عابر سبيلٍ بدون مقابل، وإلّا عمد إلى قتلها خنقاً أو إغراقاً، أو يئدها حيّةً في التراب (على طريقة العرب قبل الإسلام). وقد تكرّر المشهد نفسه في العقود الأخيرة عندما حدّدت الصين النسل وحصرته بمولودٍ واحدٍ لكلّ زوجين، فكان أن عمد بعضهم، لو حدث أن رُزق بأنثى، إلى إجهاض الأمّ، أو قتل المولودة حال ولادتها.

    --------------------------------------------------------------------------

    [1] (نبويون أكثر من النبي؟ إعادة قراءة النصّ الديني). ص: 174-176. وروى لي طلابي هناك كيف أُعلن يوماً عن بيانٍ هامٍّ يلقيه ماو تسي تونغ على الصينيّين في تمام الثامنة صباحاً. وفي الموعد المحدّد؛ توقّف الصينيّون جميعاً عن أعمالهم، في الدوائر والمكاتب والمخازن والبيوت، ووقفوا بجانب المذياع بانتظار البيان الهامّ، وحين تحدّث ماو أخيراً؛ كان بيانه لا يزيد عن خمس كلماتٍ لا أكثر: "أيّتها النساء لا تُغْرُنّ الرجال". وفي الحال خلعت كلّ نساء الصين، كلّهنّ، ما كان عليهنّ من زينةٍ وحليّ، وأزَلْنَ ما عليهنّ من أصباغٍ وعطورٍ وألوان، ثمّ لم تعد تجد أيّاً من هذه السلع في الأسواق بعد ذلك اليوم. كان تجربتي هذه مع الصين عام 1979، أي بعد ثلاث سنوات من وفاة ماو، ومن الواضح أنّ الصين قد غيّرت اتّجاه بوصلتها بعد ذلك تغييراً كبيراً.

    المرأة الصينية المرأة المسلمة الحشمة التشدد الرجال النساء

    مقالات