القضاء في تركيا بين أوهام الماضي ومكتسبات الحاضر
الدكتور ياسين أقطاي رابطة علماء أهل السنةللسنة الثانية على التوالي تقام مراسم افتتاح العام القضائي في تركيا بقاعة المؤتمرات في المبنى الجديد للمحكمة العليا بالعاصمة أنقرة، بعد أن كان الافتتاح يعقد في المجمع الرئاسي مدة 3 سنوات. وقد كانت تلك السنوات الثلاث التي استمر فيها انعقاد حفل مراسم الافتتاح في المجمع الرئاسي بعيدا عن مبنى المحكمة العليا، موضع انتقادات عديدة من حيث استقلال القضاء. رغم أن السبب الوحيد لعقد هذا الحفل في المجمع الرئاسي كان زيادة عدد أعضاء محكمة النقض (الاستئناف العليا) وعدم كفاية قاعة المؤتمرات الخاصة بالمحكمة العليا. وللسبب ذاته استمر عقد برامج الافتتاح بالفعل في قاعة المؤتمرات بغرفة أنقرة التجارية طوال مدة 7 سنوات قبل إقامتها في المجمع الرئاسي، كما أن قاعة المؤتمرات الكبيرة في المجمع الرئاسي تتسع لاستضافة العديد من هذه الأنشطة.
صورة مظلمة
كما جرت العادة في حفل الافتتاح، وقبل خطاب الرئيس، ألقى كل من رئيس اتحاد نقابات المحامين التركية (TBB) ورئيس محكمة النقض أيضا كلمته في الجلسة.
وخلال الخطاب الطويل لرئيس اتحاد نقابات المحامين، الذي يعارض بشدة الرئيس والحكومة، قدَّم صورة مظلمة للغاية حول الوضع الحالي للقضاء في تركيا. حيث تحدث عن عدم استقلال القضاء، وتسييسه، وفترات الاعتقال الطويلة، وغياب حرية التعبير، وتعرض لموضوع تنفيذ قرارات المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، والعقوبات التي تعرضت لها تركيا نتيجة لذلك. وفي إشارة منه إلى ما سبق أن ذكره رؤساء نقابات المحامين السابقين، قال: إن الثقة في القضاء قد انخفضت إلى أدنى مستوياتها في التاريخ، وإن هذا الوضع أصبح خطيرا لدرجة أنه يهدد وجود الجمهورية التركية. وذلك في إشارة منه مرة أخرى إلى سابقيه في المنصب ذاته، وأعاد التأكيد على مشكلة كلية الحقوق في البلد بوصفها “آلة استخراج الشهادات”. وانتقد بشدة القرار السياسي بالانسحاب من اتفاقية إسطنبول. كما تناول في حديثه أيضا مشاكل المحامين إضافة إلى تقديمه اقتراحات بشأن الترتيبات القانونية التي ينبغي اتخاذها. وفي نهاية خطابه الذي لم يأت فيه بجملة إيجابية واحدة تقريبا حول أداء القضاء التركي، دعا إلى العودة إلى مبادئ أتاتورك وإصلاحاته وفهمه لاستقلال القضاء ونزاهته.
وبالطبع، فإن إنهاءَه الخطاب على هذا النحو قد مثَّل تناقضا كبيرا من شأنه في الواقع أن يُبطِل وينفي كل ما قاله؛ لأن فترة أتاتورك التي ذكرها هي واحدة من النماذج النادرة التي أنشئت فيها محاكم الاستقلال وتركزت جميع القوى في يد واحدة. والحقيقة أنها مسألة تستحق اهتماما خاصا باعتبارها مرجعا لفهم العدالة؛ لأنها تعرض لفترة أصبحت فيها ممارسات محاكم الاستقلال نموذجا لجميع المحاكم تقريبا.
لا ضرر
وبطبيعة الحال لا ضرر من توجيه أي انتقاد للحالة الراهنة للسلطة القضائية. ويمكن القيام بذلك، لكنه مما لا يخفى أنه كان من المستحيل تماما توجيه مثل هذه الانتقادات في الفترة الذي كان يتحدث عنها. كما أن محمد أكارجا رئيس محكمة النقض، الذي أخذ الكلمة بعده، قد تطرق إلى مشاكل المؤسسة القضائية التي يرأسها بنفسه، والتي لا تزال مستمرة رغم كل الإصلاحات والتطويرات. وذكر إضافة إلى ذلك أن كل قرارات المحكمة والقضاء على حد سواء تقبل جميع أنواع الانتقادات بشرط ألا تصل إلى حد الإهانة والاعتداء على شخصية القاضي.
ومن الواضح أننا في تركيا نعيش مناخا يمكن فيه توجيه كل هذه الانتقادات، ويعطي الفرصة كاملة لرئيس نقابة المحامين لتوجيه كل انتقاداته في وجه الرئيس أردوغان ومسؤولي الدولة، الذين أشار إليهم ضمنا بأنهم مسؤولون عن كل هذه السلبيات. ومع ذلك فإن هناك حقيقة لا بد من وضعها بين يدي القارئ، وهي أن هذه الانتقادات التي تتخذ العدالة مرجعا لها (والتي يمكن الرجوع إليها في مواطن أخرى كثيرة) بتلك الطريقة أمام رئيس الدولة في الفترة التي لا يستطيع فيها أي شخص القيام بذلك مع مسؤولي الدولة، ينبغي أن تؤخذ مرجعا يكشف أيضًا عن نوع العدالة وطبيعة المشهد الذي يفتقد استقلالية القانون.
وهكذا يتضح أنه حين تنتقد شرائح معينة من تركيا أردوغان وتصفه بالدكتاتورية، نجدهم يرغبون في العودة إلى حقبة أخرى امتلأت بالقمع والاستبداد، وفي ذلك تناقض لا ينكره ذو عينين؛ لأن الفترة التي يشتاقون إليها لن تمنحهم أبدا ما يقصدون، وكل ما كان هناك هو نظام أكثر استبدادا في قبضة رجل واحد. ومن المفارقات الغريبة أنهم بطريقتهم تلك يوصون أردوغان بأن يكون أكثر استبدادية؛ لأنهم رغم كل شيء لا يعرفون التاريخ حقا.
بداية الحديث عن الاستقلال
أقيمت مراسم افتتاح السنة القضائية لأول مرة في عام 1943، ومن المتاح لأي شخص الاطلاع على الكلمات الافتتاحية لرئيس المحكمة العليا خليل إبراهيم أُوزيُورُوك، الذي ألقى الخطاب الأول، ومراجعة كلمات جميع رؤساء المحكمة العليا السابقين حتى عام 1949، ليجد أنه ليس هناك لدى أي منهم أدنى انتقاد لأي نوع من الممارسات القضائية والقانونية لفترة الحزب الواحد ونظامه السياسي، اللهم إلا المدح والثناء المفرط له. في ذلك الوقت، لم تكن موضوعات استقلال القانون أو الفصل بين السلطات أو حياد القضاء، مثار تفكير أي من رئيس المحكمة العليا أو أعضاء السلطة القضائية؛ لأن مهمة القضاء هي المُضي مع الدولة والحكومات في الإصلاحات وإقامة النظام.
هل تعلم متى تبادرت إلى الذهن لأول مرة مسألة استقلال القضاء؟ كان ذلك في افتتاح العام القضائي عام 1950، ذلك العام الذي وصل فيه الحزب الديمقراطي إلى السلطة؛ حيث أعرب رئيس محكمة النقض مصطفى فوزي بُوزَر في كلمة الافتتاح عن حيادية القضاء تجاه السلطة السياسية، وذلك في سياق يمكن أن نطلق عليه نقلة نوعية في مجال القضاء في تركيا، كما تناول في حديثه الوعد بالوقوف إلى جانب الأمم التي تتحدى حكامها بثقة. ومع ذلك فإن النظام الذي ألقى خطابه أمامه، قد انتخبه الشعب بنفسه من عهد قريب، كما أن الحكومة التي وصلت إلى السلطة من خلال انتخابات حقيقية لأول مرة على الإطلاق (حكومة الحزب الديمقراطي) كانت حاضرة أمامه كذلك.
وهكذا تتجلى صورة بداية فترات وصاية القضاة الذين ظلوا صامتين في وجه الحكام غير المنتخبين الذين يفرضون ما أرادوا من إصلاحات (ثورة) على الأمة رغم إرادتها واحتياجاتها. ومنذ ذلك الحين، اعتبر القضاء في تركيا نفسه الوصيّ على المسؤولين الذين انتخبهم الشعب، وبالتالي على الشعب نفسه، ليس نيابة عن الأمة ولكن نيابة عن تلك السلطة المؤسِّسة.
وإذا كان هناك سعي للإصلاح في مجال العدالة، فإنه من الضروري أن ننطلق من هذا الوعي أولًا. إن حزب العدالة والتنمية الذي أخذ دورًا يليق باسمه، قد استطاع التخلص من عقلية الوصاية بعد صراع طويل وسجالات معقدة. واليوم، وبطبيعة الحال لا يسعنا إلا الحديث عن حقيقة واحدة هي أن القضاء هو حكم الأمة حقا، دون التغافل عن كل المشاكل التي تمتد جذورها في الماضي أو التي ظهرت حديثا مع النظم الجديدة، والتي تحتاج جميعها للمراجعة المستمرة. وفي هذا السياق فإن انتقادات رئيس اتحاد نقابات المحامين TBB، لقرار إلغاء اتفاقية إسطنبول وإدانة القضاء التركي لعدم امتثاله لقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، يمكن النظر إليها باعتبارها محاولات تقوم على أساس الوصاية الساعية للحصول على موطئ قدم من خلال الدعم الدولي.
الدعم السري
لا يمكن تجاهل أن هذه الانتقادات تصدر في إطار تجاهل الدعم السري والعلني الذي تقدمه أوربا للمنظمات الإرهابية التي تعمل ضد تركيا. وكيف يمكننا أن ننسى أن إدارة نقابات المحامين، التي أعربت عن هذه الحساسية إزاء انتهاكات حقوق الإنسان، لم تكد تقبل المحجبات ضمن أعضائها مؤخرا؟
ما بالنا نصم آذاننا عن تلك اللغة المتشددة في خطابات الذين يتشدقون بعبارات عن استقلال القضاء هذه الأيام؟ ولو تغاضينا عما ضاع باسم مستوى العدالة، هل يمكن بهذا العقل الواهم تأسيس محاكم مستقلة؟ وهل سيكون هناك أي أمل في استقلال القضاء عن ذلك العقل؟