المرأة في السنة النبوية ( 6 ) يَا عَائِشَةُ، إِنّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ
الدكتور عادل الحمد رابطة علماء أهل السنة اشْتُهر العَرَب فِي جاهِليَّتهم قَبْلَ الإِسْلاَم بالكَرمِ، حَتَّى ضُرِبَت بهم الأمثَال، والكرمُ والإحسانُ إلى النَّاس دليلٌ على سخاء النَّفس، وهَذَا غير مُختص بالمسلمين، وإنما هُوَ مرتبط بحسن الأَخْلَاق مِنْ أيِّ ملَّة كان الإِنْسَان عليها.
وفِي هَذَا الشَّهْر الفضيل قَدْ نَرَى أَوْ نَسمَع عَنْ بعض المشاهير مِنْ غَيْرِ المسلمين يُقَدِّمون الطعام، ويصنعون موائِد الإفطَار للصَّائمين، فهل ينفعهم ذلك؟ وكيف نتعامل مع مثل هذه الأخبار لما تنتشر بيننا؟
عبدالله بن جُدعان رجلٌ مِنْ أهل الجَاهِليَّة، اشتهر بالكرم، وصِلة الرَّحم، قال عنه النووي رحمه الله: ((كان ابن جُدْعَانَ كَثِيرَ الْإِطْعَامِ وَكَانَ اتَّخَذَ لِلضِّيفَانِ جَفْنَةً يُرْقَى إِلَيْهَا بِسُلَّمٍ وَكَانَ مِنْ بَنِي تَمِيمِ بْنِ مُرَّةَ أَقْرِبَاءِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ)). (شرح النووي على مسلم 3/ 87)
وابنُ جُدعان هُوَ الَّذِي اجتمعت قريش فِي بيته لعقد حلف الفضول للدِّفاع عَنِ المظلومين، والَّذِي قال عنه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((شَهِدْتُ مَعَ عُمُومَتِي حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَنْكُثَهُ، وَأَنَّ لِي حُمر النَّعَمِ)). (رواه البخاري الأدب المفرد)
وسُمُّوا بالْمُطَيَّبِينَ لأنَّهم جعلوا طيبًا فِي إناء، وغَمَسوا أيديَهم فيه، وتحالفوا على التَّناصُر، والأخذ للمظلوم مِنَ الظَّالم. وهم بَنو هاشم وبَنو زُهْرَة وتَيم.
فعبدالله بن جُدعان، رجلٌ كريمٌ مِضْيافٌ، يَصل أرحامَهُ، ويُدافع عَنِ المظلومين، بَذَلَ أموالَه فِي إطعام النَّاس والإحسان إليهم، فهل ينفعه ذلك يومَ القِيَامة؟
هَذَا ما تَساءَلت عَنْه عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وأجاب عليها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حديث عميق المعاني.
تقول عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: ((لا يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)). (رواه مسلم)
ما أجمل الخطاب النَّبَوي، وما أروع الألفاظ النَّبَويَّة الجميلة التي تراعي مشاعر السامعين. لنتأمل كيف أجاب النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سؤال عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، إجابة تَربَوِيَّة عَلَّمها مِنْ خلالها عِدَّة أمور.
عبدالله بن جُدعان مِنْ أقارب عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وهِيَ تسألُ عَنْ مصيره يومَ القِيَامَة، مع ما عرف عنه مِنَ الكرمِ وصِلةِ الرَّحم. وعَائِشَةُ لها المكانة العظيمة عند النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأجابها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير محاباة، فالأحكام الشرعية لا تُغَيَّر مِنْ أجل مَنْ نُحبُّ، أَوْ مِنْ أجل قريب لنا، أَوْ مِنْ أجل المشاهير فِي الإعلام، أو فِي السياسة.
((لا يَا عَائِشَةُ))، كان هذا هُوَ الجواب، لا ينفعُه كرمهُ، ولا إحسانُه، ولا صلةُ رحِمِه، يومَ القِيَامَة.
ولم يقتصر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإجابة المختصرة بأنَّه لا ينفعُه، بل بيَّنَ لها السببَ فِي ذلك.
ونلاحظ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يناديها باسمها المُحبَّب إلى نفسها وإلى نَبِيِّها (يَا عَائِشَةُ)، زيادة فِي التَّلطُّف فِي الإجابة، وتخفيفها عَلَى نفس عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
ثم عَلَّمها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القاعدة فِي هذا الأمر، فقال لها: ((إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)). لم يقلْ لها إنَّه كافر، فقد تكون هذه الكلمة ثقيلةً عَلَى نفسها، ولكنَّه أوصل لها المعنى بألفاظ أخرى تعطي بُعدًا تربويًّا فِي حياتها.
يومُ الدِّين، هُوَ يومُ الحساب والجزاء، والَّذِي لا يؤمن بهذا اليوم لا يَحسِب له حِسابًا فِي أعماله، فهو يعمل العمل الصالح فِي الدنيا ولا يرجو ثوابه فِي الآخرة، لأنَّه لا يؤمن بيوم الحساب، وهذا حال الكُفَّار الذين يعملون الأعمال الحسنة.
وأقصى ما يناله فِي الدنيا ويرجوه هُوَ الثناء والذِّكر الحسن، وهذا غاية ما له لأنَّه عَمِل مِنْ أجله، قال تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ ١٥ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيۡسَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٦) [هود: 15-16]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا)). (رواه مسلم)
وهذا مِنْ عدل الله عزَّ وجلَّ مع النَّاس، مُسلمِهم وكافرِهم.
قال النَّووي رحمه الله: ((«مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ مِنَ الصِّلَةِ، وَالْإِطْعَامِ، وَوُجُوهِ الْمَكَارِمِ، لَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، لِكَوْنِهِ كَافِرًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) أَيْ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا بِالْبَعْثِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ كَافِرٌ، وَلَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَنْفَعُهُمْ أَعْمَالُهُمْ، وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا بِنَعِيمٍ، وَلَا تَخْفِيفِ عَذَابٍ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ بَعْضٍ، بِحَسَبِ جَرَائِمِهِمْ)). (شرح النووي على مسلم 3/ 87)
وبهذا نعلمُ أنَّ الميزانَ الَّذِي نَزِنُ به النَّاس هُوَ ميزان الشَّرع، فلا نَغترُّ بفعل الكُفَّار، ولا نُفضِّلُهم عَلَى المسلمين، بأي شكل من الأشكال.
لقد عَلَّم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ بهذا الجواب أهميَّةَ أنْ يَدعوَ الإنسانُ بهذا الدُّعاء: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)). فهو مَطلب الأنبياء، فكيف بغيرهم؟ قال تعالى عَنْ إبراهيم: (وَٱلَّذِيٓ أَطۡمَعُ أَن يَغۡفِرَ لِي خَطِيٓـَٔتِي يَوۡمَ ٱلدِّينِ ٨٢) [الشعراء: 82]
وكلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، فكلُّهم بحاجةٍ إلى هذا الدعاء، فنسألُ اللهَ أنْ يغفرَ لنا خطايانا يومَ الدِّينِ.
والحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين