قِصّة أمِّ المؤمنين عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في حجّة الوداع (2) تعظيم شعائر الله
الدكتور عادل الحمد رابطة علماء أهل السنةبدأت رحلة الحج بتعظيم الشعائر ومخالفة أهل الجاهلية:
في السنة العاشرة من الهجرة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذن في الناس بالخروج لحجة الوداع، ليتهيأ الناس للخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة العظيمة؛ حجة الوداع. قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 27 - 29].
ولا شك أن هذه فرصة عظيمة لأداء مناسك الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ، والنهل من هديه وسنته في هذه الرحلة العظيمة، لذلك حرص الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم أجمعين على شهود حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم . قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ.
ومن نماذج حرص الصحابيات على حضور حجة الوداع ما وقع من ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب رضي الله عنها ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنها كانت وقت الحج مريضة وتخشى أنها لا تستطيع أداء المناسك، فتوجهت إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تجده، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بمجيئها إلى بيته ولم تجده توجه إلى بيتها، فلما دخل عليها قال لها: ((لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ؟)) قَالَتْ: وَاللَّهِ لا أَجِدُنِي إِلا وَجِعَةً. إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ ، وأَنَا امْرَأَةٌ سَقِيمَةٌ، وَأَنَا أَخَافُ الْحَبْسَ ،فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: ((أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي)) ، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم كيف تتصرف في هذه الحالة من المرض، والخوف من عدم القدرة على إتمام النسك، مع الرغبة في الحج. وكان من رحمة الله بها أنها أدركت الحج كاملًا.
فإن كنتِ يا أختي الحاجَّة تشتكين من المرض، وتخافين أن تُحبسي فلا تستطيعي إتمام الحج، فلك في قصة ضباعة بنت الزبير أسوة ومخرج.
ولما حان الموعد الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم للحج، تحركت قافلة الحج العظيمة بعد صلاة الظهر، بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم ((لِخَمْس لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ)) ، كما أخبرتنا أُمّنا عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أي في يوم السبت الرابع أو الخامس والعشرين من ذي القعدة. وإنما جزمت أُمّنا عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بعدد الليالي الباقية من شهر ذي القعدة ((لأنها حدثت بذلك بعد أن انقضى الشهر)).
((وخروجه صلى الله عليه وسلم آخر الشهر بخلاف أفعال الجاهلية في استقبالهم أوائل الشهور في الأعمال وتوجيههم ذلك وتجنبهم غيره من أجل نقصان العمر، فبعث الله نبيه ينسخ ذَلِكَ كله، ولم يراع نقص شهر ولا ابتداءه، ولا محاق القمر ولا كماله، فخرج في أسفاره على حسب ما يتهيأ له، ولم يلتفت إلى أباطيلهم ولا ظنونهم الكاذبة، وردَّ أمره إلى الله تعالى، ولم يشرك معه غيره في فعله، فأيده ونصره)).
هذه المخالفة لأمر الجاهلية سنراها في كل تفاصيل أعمال الحج، فهي أمر مقصود في هذا النسك العظيم.
وتحركت قافلة حجة الوداع وهي مصحوبة بمشاعر التعظيم لهذا النسك العظيم، ولأيامه، وأحواله المرتبطة بالحجاج، تقول أُمّنا عَائِشَة رَضِي اللَّه عَنْهَا: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِي الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ. ((أَيْ أَزْمِنَتُهُ وَأَمْكِنَتُهُ وَحَالَاتُهُ)).
وهكذا أختي الحاجَّة ينبغي أن يكون خروجكِ للحج فيه تعظيم لهذا النسك العظيم، وكل ما يحيط به من الأمور المتعلقة به، كأشهر الحج؛ شوال، وذي القعدة، وذي الحجة. وهي متداخلة مع الأشهر الحرم التي حرمها الله عز وجل يوم خلق السموات والأرض، وأمرنا بتعظيمها واحترامها، فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 36].
ومن تعظيمكِ لهذا النسك تعظيم حرمات الله في نفسكِ، فتجتنبين معاصي الله، وتعظمين في نفسكِ الوقوع فيها وارتكابها؛ فإن الذي أمركِ بالطاعة ووعدكِ بالثوابِ عليها، هو الذي نهاكِ عن المعصية ورتب العقاب عليها، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 30 - 33].
ومن تعظيمكِ لأيام الحج وأشهر الحج والأشهر الحرم الامتثال لقول الله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197]، وهذا يعني أنكِ تضبطين تصرفاتكِ وأقوالكِ ومناقشاتكِ بما يرضي الله عز وجل. فخروجكِ للحج على غير الصفة التي أجازها الله لكِ يعد انتهاكًا لحرمة هذه الأيام المباركة، وانتهاكًا لحرمات هذا النسك العظيم؛ كالسفر بدون محرم، ولبس الملابس التي تفصل البدن، والتعطر، ونحو ذلك.
لا نريد أفعال أهل الجاهلية في الحج:
كان العرب في الجاهلية لهم معتقد معين في مناسك الحج، فقد كانوا يحرّمون العمرة في أشهر الحج، ويرونه من أفجر الفجور. قال ابن عباس رضي الله عنه: إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ، كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الفُجُورِ فِي الأَرْضِ، فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْعُمْرَةَ حَتَّى يَنْسَلِخَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَيَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وَعَفَا الأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ.
والصحابة قبل حجة الوداع ما كانوا يعرفون تفاصيل الحج المشروعة في الإسلام، فكانوا على سجيتهم في طريقة حجهم في الجاهلية، فَلَمْ ((يَكُنْ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ فِي شَيْءٍ مِنْ حَجِّ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانُوا عَلَى الْإِفْرَادِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ)) ، لذلك قالت أُمّنا عَائِشَة رَضِي اللَّه عَنْهَا: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلا نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ. وفي رواية أخرى قالت: لا نَنْوِي إِلا الْحَجَّ.
وصلت قافلة الحج إلى ذي الحليفة - ميقات أهل المدينة - قبيل صلاة العصر، وتوقفت ليستعد الناس للإحرام.