عندما تُطِلُّ من نوافذ الميديا الحمير والكلاب
الدكتور عطيّة عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةلم يُهِنْ القرآنُ الكريمُ الحميرَ عندما أورد ذكرها في سياقين، أحدهما يُبَشِّع الجهلَ والغباء، والآخر يُنَفِّرُ من القبح والنشاز؛ لأنّ الذمَّ في السياقين ليس منصبًّا على الحمار الذي يحمل تلك الأوصاف، وإنّما على الإنسان الذي يستعيرها وينتحلها ويكتسي بها بعد أن خلقه الله مكرمًا ومفضلًا على ما حوله من الخلائق،
قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) (الجمعة: 5)، وقال سبحانه: (واغْضُضْ من صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان: 19)، وكذلك الأمر بالنسبة للكلاب؛ لم يُوَجِّهْ القرآنُ الكريم الإهانةَ لها؛ فهذا طبعها وهذه خِلقتها، إنّما وجه الإهانة لذلك الذي آتاه الله الآيات فانقلب عليها، وانتزع أوصاف الكلب في أخسّ حالاته ليكتسي بها، قال عزّ وجلّ: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (الأعراف: 176)، فما على الحمير من عتب إذا نهقت بغباء، ولا على الكلاب إذا لهثت في الأمن والخوف بفظاظة، إنّما العتب واللوم والتقريع والتفظيع من أولئك الذين رفعهم الله فأبوا إلا أن ينخفضوا ويسفلوا: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الأعراف: 179).
وإذا كانت وقاحةُ وبشاعةُ هذه النماذج تعكر الأجواء، وتُثِيرُ في الأثير صورًا شاذَّةً نادَّةً عن الطبيعة الإنسانية؛ مما يجعلها مصدر قلق وإزعاج دائمين، فإنّ هذه المفسدة الهائلة تتضاعف إلى أقصى مدى عندما يتمكن أمثال هؤلاء الذين انحطوا عن مراتب الحمير وسفلوا عن منازل الكلاب من ناصية الميديا، إنّ الحياة عندئد هذا الحدّ تنقلب إلى مستنقع آسنٍ يغرق فيه المجتمع بما فيه ومن فيه، وهذا هو الحاصل الآن في بلدنا العظيم مصر، ما هذه الوجوه التي فُرِض على الناس أن يُصَعِّدوا فيها النظر وهم لها كارهون؟ وما هذه الأصوات التي وَجَبَ على العباد أن يلقوا لها السمع وهم من نشازها وشذوذها منزعجون؟ وما هذه الحالة البائسة البئيسة التي تضطرنا لشرب السمّ ممزوجًا بأنتن الأوراث؟! ولماذا نظلُّ ننظر ونسمع ونَعْبَأ بهؤلاء؟ أهو عقاب أم عذاب أم خليط ممزوج من العقاب والعذاب؟!
بالأمس القريب أذاع الأخ المناضل عبد الله الشريف تسريبًا يفضح مزاعم (عبفتاح) ويؤكد أنّ الصِّوَبَ التي أنفقوا عليها المليارات ما هي إلا (فنكوش)؛ لِيُبَصِّرَ الشعب المصريّ بحجم الفساد الذي يمتصّ ثروات البلاد ويأكل أقوات العباد، فماذا كان ردّ فعل هؤلاء وأولئك؟ أطلَّ أحدهم – يسميه الشعب (… جاموسَى) وأنا أجل الجاموس عن أن ينحط إلى دركه الهابط – أطلّ من إحدى القنوات لينهق ويلقي على رؤوس الخلائق بهذه الأوراث النتنة: “يكفي الرئيس السيسي إنجازان تاريخيَّان الأول قرار 3/7/2013م والثاني قرار الفض في 14/7/2013م، والشعب فوضه بذلك وتحمل المسئولية معه؛ فلا لوم عليه ولا تثريب” هذه الأوراث نثرها وبث حولها ما يناسبها من الغازات المنتنة السامّة.
وبينما الناس في ذهول من هول ما سمعوا وشاهدوا إذا بصوت أحدهم ينبح ويلهث، فالتفتوا فوجدوه على اللايف يقول وهو يلهث: “هذه أموالنا ونحن أحرار فيها، اقتنينا بها قططًا ولعبنا بها، اشترينا بها حمام وطيّرناه، فلو كان لكم في هذا الكون قوة فتعالوا وانتزعوها منّا” ولم ينس بالطبع أن يرغي ويزبد أثناء لهثه هذا بكلمات أشبه ما تكون بلهث الكلاب الضالة، هذان نموذجان فقط، ولست أمتلك القدرة على استقصاء النهيق والنباح؛ فلقد أشرفت على الغثيان مما أصابني من الاشمئزاز والقرف.
ما هذا الذي يجري؟ أهذا هو الإعلام؟ أهذا هو مستوى الكلام الذي يجب علينا أن نتلقاه ونتلقفه ونلقي له السمع والبصر والفؤاد؟! وإذا كان الكلام بضاعة لا تروج إلا في سوق المتابعين له فكيف راج فينا أمثال هؤلاء؟! لَعَمْرِي إنّها لسوأةٌ نحن من يتحمل وسخها، فلولا أنّنا نستمع إليهم ونتابعهم ونمنحهم فرص المشاهدات ما خرجوا من بيوتهم، فضلًا عن أن يطلوا على الخلائق من نوافذ الميديا ويتولوا توجيه الشعوب وتكوين وعيها، أيّ عقول تلك التي ستتربى وتنشأ عل خطاب إعلاميّ منحطّ كهذا الخطاب؟! وأيّ مستقبل ينتظرنا؟! وقد قال تعالى: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47).
كيف يكون من هدم مصر ودمرها، وجوع شعبها وأذلّه، وجرف كل المؤهلات الطبيعية والبشرية لأرض الكنانة، وفرط في نيلها وأرضها وكنوزها، وعكس عنها وعن أهلها صورة مهينة مشينة؛ كيف يكون بطلًا لمجرد أنّه قام بانقلاب عسكريّ وطَّد به لنفسه أركان الحكم خلال عشرية سوداء مظلمة؟! وكيف يكون انقلابُه – الذي وَأَدَ أحلام الأمّة وأَخَّرها عن مسيرة الخلاص والتحرر والتمدين والتحضر عقودًا بل ربما قرونًا – إنجازًا بطوليًّا؟! وكيف تكون المذبحة الإجرامية إنجازًا تاريخيًّا عظيمًا يخول لمن تولى كبرها أن يبقى أبد
الدهر حاكمًا، ولو كان نذلًا ومستبدًا فاشلا؟! وكيف بعد كل هذا لا يكون عليه لوم في شيء من مسيرة النذالة والفشل؟! وأيّ منطق سياسيّ هذا الذي يخول للحاكم ومن حوله أن يقولوا للناس هذه أموالنا نفعل بها ما نشاء وننفقها كما نريد؟!
لا ريب أنّها عملية استعباد للعباد واستحمار للشعوب بلغت أقصى مدى لها، وآن الأوان أن نتحرر من هذه العبودية، على الأقل بأن لا نخدمهم بالاستماع لهم، وألا نخدم أسيادهم بالولاء والانتماء إليهم، يجب أن نعلن البراءة من كل هؤلاء العبيد المناكيد، وأن تسري هذه البراءة في الشعب كله، فتغمره كما يغمر السهل الوديان، فهذه أولى خطوات التحرر من قيود العبودية، فإن لم نفعل وظللنا عمرنا صامتين ساكنين مستسلمين فقد أسلمنا أنفسنا إلى قيود ما أطلق عليه (لابويسي): “العبودية المختارة”.