قوانين القرآن (7) .. قانون الوديعة
الدكتور جمال عبد الستار - الأستاذ بجامعة الأزهر و الأمين العام لرابطة علماء أهل السنّة رابطة علماء أهل السنةأودع الله تعالى في قلوب بني آدم وديعة أسكنها أفئدتهم، وأمانة غرسها فطرتهم، فأنبتهم على الإيمان، وفطرهم على التوحيد، وأخذ عليهم في يوم مشهود عهد الإيمان، فأقرت البشرية لخالقها بالربوية، وسلمت له بالألوهية، وتشرفت بمقام العبودية، فأنزلهم إلى الأرض ليعيشوا فيها حياة اختبار وابتلاء، حياة امتحان وانتقاء، وجعل مهمتهم أن يخرجوا من الاختبارات كلها محافظين على وديعتهم، ويستمسكوا بأمانتهم، حتى يعودوا إلى الله بالإيمان متلألأ في قلوبهم، وبالتوحيد خالصًا في نفوسهم.
لذا فالحرب على الوديعة لم تنقطع منذ أن وطأت أقدام آدم وذريته الأرض، فمهمة الشيطان معلنة واضحة لا غموض فيها، {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، فكل صراع الدنيا بصوره وأشكاله كافة يهدف إلى سرقة وديعتك وحرمانك من شرف حملها، فاحذر من أحابيل الهوى ومكر الشياطين.
بل إن حزب الشيطان وجنوده من الأنس لم يقصروا في السعي الجاد لتحقيق هذا الهدف الخبيث، وقد سطر القرآن هذه الغاية التي يعملون عليها ليل نهار، ليحذّر المؤمنين من خطورتها، وعاقبة التأثر بها، فقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
ولن يكتفي شياطين الإنس والجن بما أخذوه منك مهما عظُم.. حتّى يتمكّنوا من سلب إيمانك ونزع يقينك إن استطاعوا.
لذا فإنه ينبغي على المسلم أن يدرك قيمة الأمانة التي في عنقه، كما عليه أن يستبصر سبيل المجرمين، وأن يحذر مكرهم، ويعي غايتهم، ويبذل الغالي والثمين لإفشال مخططاتهم.
ومن هنا فلا ينبغي أن تستثقل التكاليف الشرعية، ولا تتكاسل في أدائها.. فهي حصون أمانتك، ودروع وقايتك، وأسوار حمايتك، وبدونها تهوي بك الريح في مكان سحيق.
ولا أعلم حصنًا منيعًا يحفظ لك وديعتك ويعينك على حسن أدائها أفضل من ذكر اللَّه تعالى وصدق الاستعانة به.
لذا فإن من قوانين القرآن التي يجب أن يدرك المسلم أهميتها، وأن يتحقق بمطالبها، وأن ينشر في العالمين موادها، وأن يحصن أمته من مخاطر الغفلة عنها: قانون الوديعة.
وهذه بعض مواد القانون في القرآن الكريم:
المادة الأولى: يعود الناس إلى الله فريقين ليس لهما ثالث:
قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 29-30].
فهناك تسقط كل الأسماء والمسميات، والألقاب والمناصب، وتتلاشى كل الألوان التي رسمت المجتمعات بها صورًا متنوعة للبشرية في شتى مجالاتها، وتبقى العبودية لله تعالى أخلد الصفات، وأصدق الانتماءات، وعليها يكون الحشر والميعاد.
فلا أحزاب هنالك ولا تجمعات، ولا أنساب هنالك ولا تكتلات، ولا أعراق هنالك ولا تيارات، قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا} [مريم: 93].
فهناك الفردية على أرضية العبودية في أحد فريقين لا ثالث لما: إما مع أهل الإيمان المفلحين، وإما مع أهل الكفر الضالين، فلينظر العبد موقعه وليختر صحبته وليعرف غايته.
المادة الثانية: من جاء بالوديعة فاز بالدرجات ومن ضيعها تردى في الدركات
قال تعالى: {إِنَّهُۥ مَن يَأۡتِ رَبَّهُۥ مُجۡرِمٗا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ، وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ} [طه: 74ـ75].
لا مجال للتلاعب بالمواقف أو العبارات، بل هي بيضاء واضحة لا غموض فيها ولا التواء، هنالك مآل محتوم لمن تنكب الطريق، ومقام معلوم لمن استقام على صراط الله تعالى.
هناك الدرجات العلا في الجنة لمن عض بنواجذه على أمانته، وحفظ عهد الله وميثاقه، فمآله الإكرام، ومقامه الإنعام، ومستقره جنات الخلد التي وعد الله المتقين، فكل تقصير مع التوحيد مرجو الغفران، وكل صلاح مع الشّرك باطل وخسران.
وهنالك جهنم مآل المضيعين للأمانة، الخائنين للعهد، لا ينالون حياة هانئة، ولا موتًا مفنيًا، ولكنها الحياة التي ليس لها من حقيقتها إلا مسماها، فحياة في جهنم يكون الموت عند أهلها نجاة وأمنية مستحيلة.
المادة الثالثة: من مات مضيعًا لوديعته فلا سبيل لنجاته ولا فدية لفكاكه ولو ملك الأرض بما فيها
قال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٞ فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡ أَحَدِهِم مِّلۡءُ ٱلۡأَرۡضِ ذَهَبٗا وَلَوِ ٱفۡتَدَىٰ بِهِۦٓۗ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ} [آل عمران: 91].
لذا بشّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مات على التوحيد بالجنة، فعن معاذ بن جبل قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» رواه أبو داود.
وأوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلقين الميت شهادة التوحيد ليموت محافظًا على أمانته، مطمئنًا في آخر أنفاسه على وديعة الله قبل لقائه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رواه مسلم.
وهي وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام، قال تعالى: {وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ} [البقرة: 132].
وقال أحد العلماء لابنه: يا بُنيَّ، إن رأيتني متّ على التّوحيد فوزّع الحلوى على الناس، وإن رأيتني متّ على غير ذلك فابك ما شاء لك أن تبكي.
المادة الرابعة: لن يرضى أعداؤك عنك إلا بسلب أمانتك، وإضاعة وديعتك
قال تعالى: {وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ} [البقرة: 120]، وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰاعُواْۚ} [البقرة: 217].
إن شياطين الإنس والجن يتربصون بك على طريق الاستقامة، وقد حشدوا لك كل الإمكانات، وشتى الوسائل والمغريات، وكل الأسلحة والمؤثرات، وكل الحيل والمضلات، لا همّ لهم أعظم من إضلالك، ولا شغل لهم سوى إسقاطك عن مقامك، وحرمانك شرفك وإيمانك!
ولن يقنعوا بالسيطرة على مالك وأرضك، أو على وطنك وقومك، وإنما غايتهم الإضلال، وهدفهم الكفر كما كفروا، والميل كما مالوا، قال تعالى: {وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا} [النساء: 27].
لذا فمن صانعهم صعقوه، ومن هادنهم ضيعوه، ومن مال إليهم خانوه، ومن انتصر بهم خذلوه، ومن ارتكن إليهم أفسدوه، ومن استمع إليهم أضلوه، ومن تشبه بهم صار منهم، فلا نجاح في المحافظة على الوديعة إلا بإعلان العداء، والاستعداد لمقتضياته، قال تعالى: {إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمۡ عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ} [فاطر: 6].
وأخيرًا
ربّما يأخذون أموالك وينهبون ثرواتك، ويشوّهون صورتك، ويحبسون جسدك.. ومع ذلك ستظلّ منتصرًا ما دمت محافظًا على ما أودعه اللَّه فيك من إيمان.
أودع اللَّه في قلبك أمانة التوحيد فلا تفسدها بأضاليل الشرك، ولا تضيّعها في أودية الدنيا فتدخل على اللَّه مضيّعًا وديعته، خائنًا لأمانته، غادرًا بعهده وميثاقه.