الخميس 21 نوفمبر 2024 11:35 مـ 19 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    قوانين القرآن (6) .. قانون النصر

    رابطة علماء أهل السنة

    قد يكون الحديث عن النصرغريبًا في عالم يموج بالصراعات، وتتفاقم فيه الأزمات، وتزداد الأمة كل صباح تنازعًا، وكل مساء تفرُّقًا، وكل ساعة تمر يزداد نزيف الدماء وخسارة الأرواح.

    فالحديث عن النصر غريب في وقت جاوز فيه الظالمون المدى، وفقدت الأمة قبلتها الفكرية، وتشتّتت مساراتها، وتكالب عليها جميع أعدائها!!

    لكنْ للقرآن رأي آخر، ولمفاهيمه قوانين مختلفة، تضمن النصر لمن سلك سبيله، وفق طاقته وإمكاناته.

    ولم تكن الأمة بحاجة إلى استدعاء القرآن ليرسم لها معالم النصر كحالتها الآن، ولا أعلم إغاثة تحتاجها الأمة كالإغاثة القرآنية، فبها تُولَد الأمّة من جديد، وتتخلص من وباء اليأس والإحباط.

    النصر أن تُوفَّق لبذل جهدك في نصرة الحق الذي تؤمن به، وليس مجرد القضاء على عدوك، النصر أن تنجح في التمسك بمعتقداتك رغم حدة الصراع، واحتدام المعارك، حتى ولو مت قبل أن ترى هلاك الأعداء، يقول الله تعالى مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (يونس: 46).

    فالنصر ليس معناه إهلاك العدو فحسب، بل أن تقوم بالحق، وأن تصدع بالحق، وأن تنتصر بالحق، وأن تكون من الذي يعيشون من أجله، ويموتون عليه، حتى تلقى الله تعالى.

    النصر أن تموت شهيدًا حميدًا في سبيل ثباتك على قيمك ودينك، وكرامتك وعِرضك، وحقوقك وإنسانيتك.

    النصر أن يفشل أهل الباطل في إخضاعك، وأن يُخفق أهل الزيغ في إضلالك، وأن ييأس أهل الطغيان من إسكاتك أو شرائك.

    النصر أن تنتشر فكرتك، وأن يتبنى الناس منهجك، وأن تتوارث الأجيال مسيرتك، ويتحققون بقيمك.

    النصر أن يقبل الله سعيك، وأن تلقاه وقد حزت رضاه، وفزت بالنجاة من غضبه وعقوبته، قال تعالى: {فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (آل عمران: 185).

    مواد القانون

    المادة الأولى:

    النصر فعل الله وليس فعل العبد

    لا مصدر للنصر إلا الله تعالى، فهو من يملك نزوله على خلقه، ومن يمسكه عنهم، ومن يقدّمه أو يؤخره، لأنه حصريًّا لا يملكه سواه، ولا يأذن به غيره.

    فهو من يحدد وقت المعركة، ومن يقدّر لكل فريق مكانه، ومن يرمي، ومن يقتل، ومن يُقدر، ومن ينصر.

    قال تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالعُدْوَةِ القُصْوَى والرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفۡتُمْ فِي المِيعادِ وَلِكِن لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولٗا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال: 42).

    ومن هنا، فأفعال العباد أخذ بالأسباب، أما النصر فهو فضل من رب الأرباب، قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ}، وقال سبحانه: {إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعدِهِ} (آل عمران: 160).

    فالنصر نتيجة جهد، وحصاد بذل، ومنحة إجادة، ونتيجة تضحيات لا تضيع عند من قال في كتابه: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30).

    وبعض المسلمين اليوم يتوقعون أن يتغيّر حالهم دون أن يبذلوا أيّ جهد لتغيير أنفسهم، فكيف ينتظر نزول النصر من كان عقبة في طريقه؟ وكيف يتوقع قربه من يسهم في تأخيره؟ فهل يمكن أن ينصرنا الله دون أن يَمِيز الخبيث من الطيِّب، ودون أن ينحاز أهل الباطل الى باطلهم دون مواربة، وأهل الحق إلى حقهم دون مواربة؟ قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42)

    المادة الثانية:

    من لم ينصر الله في اختياراته لا ينصره الله في صراعاته

    أوجب الله للنصر شرطًا لا استثناء فيه ولا مجاملة، وهو أن يسلك العبد في حياته مسار الانتصار لله تعالى وفق ما أعطاه من إمكانات، قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7).

    فمن ينصر الله بالانحياز إلى شرعه، والاستقامة على هديه، واجتناب نواهيه، والتزام أوامره، والعمل على إقامة دينه، ومراعاة سننه في كونه وخلقه، يضمن نصرًا عزيزًا، وأجرًا كبيرًا.

    لذا، فمن لم يستجب لأمر الله بالإعداد، كيف يجثو على ركبتَيه طالبًا من ربّه النصر والإمداد؟!

    ومن لم يستطع إقامة الحق على نفسه، أنّى له أن يقيم الحق مع قومه وأمته؟!

    المادة الثالثة:

    من استعجل النصر لم يدرك الحكمة

    فقد جعل الله للنصر موعدًا لا خير في تقديمه، ولا إمكانية لتأخيره، فقد كلّف الله نبيه ﷺ بالصبر وعدم التعجل، فقال سبحانه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الأحقاف: 35)، وقال تعالى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (مريم: 84).

    وهو ما قصده ابن عطاء في حكمته الناجعة: لا يكنْ تأخُّرُ أمَدِ العطاءِ معَ الإلحاحِ في الدعاءِ مُوجِبًا لِيأسِكَ. فهوَ ضَمِنَ لكَ الإِجابةَ في ما يختارُهُ لكَ لا في ما تختارُهُ لِنفسِكَ. وفي الوقتِ الذي يريدُ لا في الوقتِ الذي تريد.

    وقد تعجّل بعض الصحابة الكرام النصر، فذهبوا إلى رسول الله ﷺ يطلبون الدعاء بالنصر، فكان ردّه عليهم: “قد كانَ مَنْ قبلَكم يؤخَذُ الرجلُ فيُحفَرُ لهُ في الأرضِ فيُجعلُ فيهَا، ثمَّ يُؤتى بالمِنشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فيُجعلُ نصفَين، ويُمشطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ لحمِهِ وعظمِهِ، ما يصدُّهُ ذلكَ عن دينِهِ، واللهِ ليُتِمَنَّ اللهُ هذا الأَمرَ حتّى يسيرَ الراكبُ مِن صنعاءَ إلى حَضرموتَ لا يخافُ إلاَّ اللهَ والذئبَ على غنمِهِ، ولكنَّكم تستعجلونَ” (رواه البخاري).

    لذا، لا بد أن ندرك حتمًا أن سوق البلاء سينفضُّ يومًا ما، وليست العبرة بموعد انفضاضه، إنما العِبرة ماذا ربِحتَ من هذا السوق؟ وكم حصلتَ من أجر الصبرِ إذا صبرتَ، والجهدِ إذا بذلتَ، وأجرِ الجهادِ إذا جاهدتَ؟

    المادة الرابعة:

    نصرك على قدر جهدك

    النصر يتحقق ببذل الطاقة المتاحة، وما دمت وُفّقت لبذل ما لديك من طاقة بدنية ومالية فقد انتصرت على العقبات المادية، وإذا نجحت في مقاومة الإحباط واليأس فقد انتصرت على العقبات المعنوية، وإذا صمدت أمام الشبهات والشهوات فقد انتصرت على العقبات العقدية والإيمانية، وإذا لم ينجح الباطل في استمالتك رغم ما يملكه من بطش وطغيان فقد انتصرت على القوة العسكرية، وإذا أفشلت مخططات تغيير الهوية بالتزامك وانضباطك فقد انتصرت على العقبات الفكرية، لذا فكل بذل في الطريق الصحيح هو انتصار على جند الشيطان وحزبه من الإنس والجن.

    المادة الخامسة:

    ضمان النصر لمن تحقق بالإيمان

    من تحقق بالإيمان اعتقادًا صادقًا، وعبادة صحيحة، وسلوكًا مستقيمًا، وجهادًا في سبيل الله بالمستطاع من الأقوال والأفعال والأفكار والأموال، فقد ضمن الله له النصر والتأييد، حيث تكفّل سبحانه بنصر المؤمنين فقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47).

    لذا، فقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سندًا إلّا الله، ولا مُتوجَّهًا إلّا إليه وحده في الضرّاء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر، عندما يأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به.

    ومن هنا، فإن نصرة الله ورسوله شرف ليس كل الناس يستحقه، فإذا صرفك الله عن هذا الشرف فاعلم أنك محروم.

    وأخيرًا..

    لا ينبغي أن تُعوّل على زوال عدوك لكي تنتصر، فإن قصور عدوك أو فساده أو فشله لا يُحدث لك نهضة ولا تمكينًا، ما لم تأخذ بأسباب النصر ووسائل التمكينِ، فالله تعالى يحاسب المقصّرين المفرّطين كما يحاسب المعتدين الظالمين.

    قوانين القرآن قانون النصر التمكين حكمة جهد

    مقالات