قوانين القرآن (1)
الدكتور جمال عبد الستار - الأمين العام لرابطة علماء أهل السنّة ورئيس الجامعة العالمية للتجديد رابطة علماء أهل السنةبسم الله الرحمن الرحين
القرآن لم ينزل ليكون مجرد عظات وتوجيهات وقصص ومحفوظات، وإنما نزل ذكرى للمؤمنين، وهداية للناس أجمعين، ونوراً لبصائرهم، وشفاءً لعلل نفوسهم وعقولهم ومجتمعاتهم وأمتهم.
فهو الكتاب الذي أنزله الله تعالى ليضبط حياة البشرية، فيحفظ عليها إنسانيتها ودينها وحياتها ودنياها وآخرتها، وما ذلك إلا لكونه أرسى قوانين تتحاكم إليها البشرية في كل شؤونها، فيما يخص الأفراد في نفوسهم، والأسر والمجتمعات في تعاملاتهم، أو الدول والأنظمة في سياستهم، أوعلاقتهم بالكون وعلاقة الكون بهم.
بل وإن حياة البشر جميعاً على كل المستويات إنما هي انعكاس حقيقي للقرب والبعد من معرفة قوانين القرآن والتحقق بها، فما من مهزوم ولا منتصر إلا وقد وكان موقعه وموقفه نتيجة لتركه قانوناً قرأنياً أوتحققه بهذا القانون، بل ولن تجد مطمئناً مسروراً، ولا منزعجاً كئيباً إلا وكان ذلك نتيجة حتمية للبعد أوالقرب من قانون السعادة والطمأنينة في القرآن الكريم.
والحديث عن قوانين القرآن ليس مجرد تخرصات وتوقعات، ولكنها قواعد حدية، ونتائج حتمية، فما أنزل الله الكتاب إلا لتحقيق الاستقامة والسعادة، "فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ".
وما أنزل الله الكتاب إلا للبيان، "وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ".
وما فرط ربي في الكتاب من شيء: "مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ"،
فمن لم يجد في القرآن سبب نكبته،ووسائل نهضته، فقد جهل قوانين القرآن وإن كان حافظاً للآيات، وخبيراً في القراءات.
بل من لم يجد مصداق ذلك في قوانين نهضة الأمة وانحدارها وهلاكها، ومن لم يراع تلك القوانين في صراع الحق والباطل، فلا علاقة له بالقرآن وإن كان يحمله عنوانا، ولم يفهم القرآن ولو أضحت تلاوته لآياته سجية وإدمانا.
فالقرآن صنع أمة من لا شيء، ونقلها في معجزة ناطقة إلى يوم القيامة من أمة لا أثر لها في الحياة، فلا معارف ولا مناهج ولا ريادة ولا حضور، إلى أمة رائدة علماً وعملاً، قوةً ورحمةً، عبادةً وسلوكاً، ديناً ودنياً.
لذا فهذه محاولة جادة لإعادة طرح قوانين القرآن وإشاعتها والتدريب عليها في كل مجال من مجالات الحياة، لنصنع جيلاً وفق مراد الله تعالى وليس وفق مراد الناس، نُعيد أمتنا إلى يوم ميلادها، ومنبع خيريتها، وبركة انطلاقتها، لنكتشف معاً أن القرآن معجزة اليوم يصنع أمة فتية راشدة رائدة كما صنع بالأمس أمماً، وقامت به حضارات، ونهضت به أجيال،
فالقرآن كما كان معجزة القرن الأول والقرون التي تلتها فهو معجزة هذا القرن وكل القرون القادمة.
فزبدة القرآن هي كما هي لم تنته، ولم تضمر ولم تنقص ولم تنقطع، بل هو كماهو بتلألأه وروحه، وسعة عطائه وتوهجه.
فهو كتاب مستقبل وليس كتاب ماض تليد، ليس نصاً تاريخياً عتيقاً، أو قصة في العصور الغابرة يتحاكى بها الناس تسلية وترفيهاً وتعجباً.
يرسم آفاق المستقبل ويصنع له أدواته، ويكشف لنا قوانينه ويعطينا مفاتيح إدارة الكون وريادته، "وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ".
لذا فكل مشروع إسلامي أو نهضة تنتسب إلى دين الله تعالى، وكل عمل يُتقرب به لله لا يُبنى على تلك القوانين ما كان لجذوره أن تمتد في الأرض ثباتاً، ولا لفروعه أن تشق عباب السماء ارتقاءً، ولا لثمره أن يُنتج توفيقاً ورشاداً.
إن القرآن بنك أجنة لأفكار تنقل العالم إلى أرفع المقامات، ولكن أكثر أهل القرآن انشغلوا بحفظ الآيات أو مجرد تلاوتها، وغفلوا عن هداياتها، واستخراج نفحاتها، واستلهام عطائاتها.
وليس بالطبع قصدنا التقليل من مكانة الحفظ أوالتلاوة، وإنما الارتقاء بهما إلى إقامة حدوده، وتطبيق أحكامه.
ولقد استدعت الأمة حيناً من الدهرجميع الفلسفات، وسارت خلف جميع المنهجيات، وجربت شتى التوجهات، ولكنها لم تقف وقفة جادة بعلمائها وروادها ومفكريها لاستدعاء قوانين القرآن، كي تحكم حياة الأفراد قبل أن تحكم حياة الأنظمة، وأن تضبط منهجية المجتمعات قبل أن تضبط منهجية الأمم.
إننا بحاجة الى إغاثة فكرية قرآنية نداوي بها أمراض أمتنا بما أنزله الله لها شفاء، ونضبط سيرها بما أنزله الله لها نوراً هاديا فلم يجعل له عوجا (قيما)، ليقوّم سيرها ويقيّم عملها.
نحن بحاجة ماسة إلى استدعاء القرآن لإدارة حياتنا وإصلاح اعوجاجنا واستقامة سلوكنا، وفلاح سعينا، وتملك أسباب نهضتنا.
وبالفعل هناك جهود رائعة في مجال السنن الإلهية، ولكن السنن الإلهية بمثابة دساتير حاكمة، أما القوانين القرآنية فبمثابة قواعد تفصيلية رادعة أو رافعة، يستطيع الفرد أن يضبط بها سلوكه، والأسرة أن تؤسس عليها انطلاقتها، ويتمكن المجتمع أن يحمي بها ترابطه، والأمة أن ترسم بها سلم أولوياتها، ومعالم ريادتها.
وسأبدأ بإذن الله تعالى نشر سلسلة من تلك القوانين موضحاً أعراض بعض مشاكلنا، والقانون القرآني الذي وضع للوقاية منها، وثمرات من تحقق به، وعاقبة من أعرض عنه، مع اقتراح بعض المعينات على تطبيقه، متطلعاً إلى المشاركة العلمية والفكرية تقييماً وتقويماً، لعلنا نفتح للأمة باب نجاة في زمن الانتكاسات، ونضع يدها على منهجية الارتقاء في زمن الانكسارات، ونساهم معا في بعثة جديدة، وانطلاقة فتية راشدة.
د/ جمال عبد الستار محمد
الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة