كأس العالم في قطر.. وأزمة القيم في الحضارة الغربية
الدكتور حسّان عبدالله حسّان رابطة علماء أهل السنةتشهد النسخة الـــ(22) من كأس العالم لكرة القدم والمقامة في قطر جدلًا ثقافيًا بدأ مبكرًا قبل بدء النشاط الرياضي، تمركز هذا الجدل في جوهره حول فكرة (الحريات الأخلاقية الغربية) و(الخصوصية الحضارية العربية الإسلامية)، حيث أثيرت من جانب ألمانيا تحديدًا تهمًا للبلد المضيف، بسبب دعم المثليين و«شارة الحب» التي ينوي قادة تسع منتخبات أوروبية ارتداءها في مباريات المونديال؛ لأن الألوان لا تتوافق مع علم قوس قزح الذي يستخدمه مجتمع الميم.[2]
الواقع إن الأزمة الأخلاقية المثارة في كأس العالم في قطر، هي إحدى الأزمات التي صدرتها لنا الحضارة الغربية المعاصرة، التي قامت برعاية كافة الانحرافات الأخلاقية ووضعتها في موضع "الحقوق" بدلًا من معالجتها –ومناقشتها في موضوع علم النفس واللاسوية- بل وصدرت لنا "نماذجية الانحراف" الأخلاقي والتي من بينها "المثلية الجنسية" وصنعت لهم مجتمعًا واستحقاقات إنسانية وحقوقية خاصة بهم، مع السماح بترويج أفكارهم بشتى الوسائل يساعدهم في ذلك جهات غير معلومة من حيث التنظيم والترويج لأفكارهم ونماذجيتهم اللاأخلاقية المتعارضة مع التوجه الإنساني العام والتاريخي والديني وما يصدر عن الفطرة الإنسانية في صورتها الأساسية غير المشوهة.
نشأت القيم والأخلاق في الحضارة الغربية المعاصرة في ظل نموذج حضاري مادي، يدور حول مركزية "الإنسان الطبيعي"[3] هذا المفهوم يرد الإنسان إلى النظام الطبيعي المادي والذي يصبح جزءًا لا يتجزأ منه، فالإنسان وفقًا للنموذج الغربي – كائن طبيعي (مادي) موجود في كليته داخل النظام الطبيعي (المادي) يعيش في الطبيعة وبها ومنها وعليها، ولا وجود له خارجها. جزء لا يتجزأ منها، يسري عليه ما يسري على الكائنات الأخرى. والإنسان وفقًا لهذا المرتكز أهدافه مدمجة في الطبيعة وليست له أهداف مستقلة عنها أو فوقها بحسب القانون الطبيعي الذي يسري على كل الكائنات، والذي يفسر الإنسان في ضوئه من خلال القوانين الطبيعية.
إن الحضارة الحديثة تدور حول هذا "الإنسان الطبيعي" الذي يدور حول جسده في إطار المنفعة واللذة.. وفي مرحلة التقشف والثنائية الصلبة والتراكم الرأسمالي والإمبريالي ظهر الإنسان الاقتصادي الباحث عن المنفعة المادية والذي سيحقق سعادته من خلال التراكم، والذي يرشد حياته في الإطار المادي، ثم يبطش بالآخرين من خلال منظومته الإمبريالية، ولذلك فهو إنسان يستخدم حواسه الخمس، جسده هو أساس رؤيته للكون، وإن كان هناك أولوية لشيء فهو لجهازه الهضمي وربما عضلاته.
ولكن في مرحلة السيولة الشاملة والاستهلاك، لم تعد المنفعة هي المعيار الأساسي، وإنما اللذة، وظهر الإنسان الجسماني والجسدي والجنسي الذي يعيش في جسده، وهو مجموعة من الأعضاء والأعصاب والانفعالات القوية المباشرة ولكنها جميعًا موجهة نحو تحقيق اللذة، ولذا فبدلًا من الجسد، أصبح الجنس هو أساس رؤية الإنسان للكون [4].
لقد وقعت القيم - في ضوء الحضارة الغربية - في إشكالية أخرى نتجت بالضرورة عن هذا التباعد بين الاتجاهات المفسرة السابقة، هذه الإشكالية هي "النسبية" و"المطلقية" وهل القيم ذاتية "نسبية" أم موضوعية "مطلقة" وهل القيم تقييم شخصي لا يمكن أن توجد في ذاتها وبذاتها أم أن القيم يمكن أن توجد مستقلة عن الأشخاص "إن نسبية القيم تعني ارتباطها في وجودها بوهم أو ظرف، أو شيء، أو شخص أو وعي، وأما مطلقيتها فإنها تعني عدم ارتباطها في وجودها بسبب من الأسباب التي تجعلها نسبية، وتكتفي بذاتها، وتستغني عن التقويم الإنساني لأن لها الوجود بدونه، فهي موضوعية تبحث عنها لأنها جديرة بذلك، ولأنها تجذبنا إليها وتغمرنا بنورها، وهي من بعد هذا، خارجة ومتعالية، ضرورية ودائمة، لا متناهية وأبدية"[5].
كما ظهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر نزعة تسعى إلى بناء القيم على العلم الوضعي، وزعمت أنه يمكن بناء القيم والأخلاق على العلم الوضعي وأسسه وقواعده التجريبية وأنه يمكن تحليل القيم والأخلاق وتتبعهما ورصدهما مثل أي ظاهرة مادية، ومن رواد هذا الاتجاه الفيلسوف نيتشه (1844-1900م) حيث انطلق في تفكيره من النظر إلى الأخلاق والقيم الأخلاقية بوصفها ظواهر بشرية من صنع البشر أنفسهم "فالناس – كما يقول – هم الذين أعطوا لأنفسهم كل خيرهم وشرهم. إنهم لم يتلقوا ذلك من قوة عليا ولا هبط إليهم من السماء وإنما الحياة، حياتهم اليومية وحاجاتهم الفسيولوجية والاجتماعية هي التي تدفعهم إلى إضفاء قيم معينة على الأشياء. إذن فالقيم الأخلاقية ليست أبدية ولا مطلقة، وإنما هي نسبية تابعة للتغير الذي يلحق دوافعها البيولوجية والاجتماعية، ومن هذا المنطلق العلمي الوضعي المحض ينتشر أخلاق عصره"[6].
كما دخلت العولمة على خط القيم، فإذا كانت الشركات متعدية (متعددة) الجنسيات هي أداة العولمة الاقتصادية، والأمم المتحدة أداة العولمة السياسية، فإن النشاط الرياضي (كرة القدم تحديدًا) وما يجمعه من روافد لوسائط مختلفة قيمية وأخلاقية وثقافية، هو أداة فاعلة للعولمة الثقافية – لاسيما وان الاتحاد الدولي لكرة القدم يمنع أي تدخل حكومي في النشاط الرياضي سواء المحلي أو الدولي لكنه يسمح فقط بتداول نماذجية الانحراف المخالفة للقيم المحلية والحضارية للأمم والشعوب-.
إن الحالة القيمية والأخلاقية الغربية وما تقدمه من نماذجية الانحراف وترعاه، هو إحدى ثمرات التطور الحضاري الغربي المعادي للإنسان فالحضارة الغربية المعاصرة كما يصفها المسيري "حضارة معادية للإنسان" ربما في ذلك الإنسان الغربي نفسه، وهي حضارة لا تهاجم رؤية معينة ولا دينًا معينًا ولا منظومة قيمية معينة، وإنما تهاجم فكرة الرؤية والدين والقيمة، فهي تذهب إلى أن العالم تعددي بشكل مفرط لأنه لا مركز له ولا مطلقات فيه، كل الأمور فيه متساوية، ومن ثم كل الأمور نسبية، وهي حضارة تهاجم المقولات القبلية Apriori التي كانت تضمن وجود الإنسان كائنًا مستقلًا عن الطبيعة (المادة)، لأن المقولات القبلية حتى لو وجدت في عقل الإنسان فإنها تفترض انفصاله عن عالم الطبيعة (المادة)، هذه الحضارة –أيضًا– تدعي أنها تجاوزت الفلسفة والميتافيزيقيا، فهي حضارة إما مؤسسة على الحقائق العلمية والتجارب العلمية، أو لا تحتاج لأساس أصلًا؛ لأن الأساس يفترض المركز.
يمكن القول إن انتصار قطر للخصوصيات الحضارية ورفضها ممارسة الشذوذ الأخلاقي على أرضها بدعوى الحرية الأخلاقية وعدم الاعتبار للدعوي الألمانية وغيرها، لا يتعلق فقط بالتحيز للخصوصيات الحضارية العربية والإسلامية، بل هو انتصار للخصوصيات الحضارية الإنسانية في مقابل الحالة البهيمية التي ترغب الحضارة الغربية وعولمتها في حقنها بجراثيم الانحراف الجنسي والأخلاقي.
______________________________________
[1] أستاذ أصول التربية المساعد- جامعة دمياط.
[2] مصطلح يشير إلى أصحاب التوجه الجنسي المنحرف كالمثليين والمتحولين جنسيا ومزدوجي التوجه الجنسي، وغير ذلك مما يطلق عليه (أحرار الجنس) أي من يخرجون عن الاتفاق الإنساني العام والفطرة الإنسانية العامة في موضوع الجنس.
[3] مصطلح استخدمه الرائد عبد الوهاب المسيري (1938-2008م).
[4] عبد الوهاب المسيري: الحداثة وما بعد الحداثة، حوارات لقرن جديد، دمشق، دار القلم، 2003م، ص37 - 38.
[5] الربيع ميمون: نظرية القيم في الفكر المعاصر بين النسبية والمطلقية، الجزائر، المكتبة الوطنية للنشر والتوزيع، د.ت، ص119.
[6] محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص48.