دعوةٌ لتأطير فَنّ ”الاستغراب”
الدكتور عطيّة عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةبسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
على شاطئ الأصيل رَصَفت حقائبها وآذنت بالرحيل، رُوَيدَكِ أيتها العجوز الشمطاء؛ أَحَسِبْتِ أنَّك ستظفرين بالذهاب قبل وقفةٍ للحساب؟! أم غرَّكِ أنَّني أنسى، كلا لن أنسى وقد كنت من قبل نَسِيًّا، ولن أغفر لك على كثرة ما غفرت للذاهبين قبلك؛ إذْ إنَّك – مِن بين جميع مَن أنزلوا بِيَ الويلات – لا نظير لك ولا مثيل! هكذا تقول الإنسانية المعذبة لهذه الحضارة الذاهبة؛ بعد أن تهيأت للأفول مع قرب مغيب شمس هذه الحياة الدنيا؛ وبرغم يقيننا بأنّ هذا هو حديث النفس الإنسانية، فإنّنا – إذْ نَرُوم تأطير علم الاستغراب – لن ننطلق قطّ من الرغبة في تصفية الحساب؛ ذلك لأنّنا أمّة صاحبة رسالة عالمية إنسانية ربانية، ومن كان هذا شأنه ليس لديه عقدة نقص يجتهد في تجاوزها بردود أفعال مُبْتَسَرَة.
علم الاستغراب
هو – إذن – علم، وليس مجرد هجوم من الشرق على ثقافة الغرب وحضارته؛ ضِدًّا على هجوم الغرب على ثقافة الشرق وحضارته، ليس الاستغراب حركة فكرية ضد الاستشراق؛ لأنّ الاستغراب علم سيكون له أصول وقواعد منهجية ومنطلقات شرعية إنسانية، وأدوات بحثية محايدة ومتجردة، أمّا الاستشراق فقد كان واجهةً فكرية تنظيرية للاستعمار والإمبريالية، حيث لم يكن هناك فرقٌ بين الغارات الفكرية والغارات الجهنمية للآلة العسكرية الغربية، الاستغراب – إذن – علمٌ وفنٌّ يُقصد به: “الدراسة التي تستقصي فكر الغرب وثقافته وأداءه الحضاري في كافّة الميادن، وتُقَيِّمُهُ في ضوء الشريعة وما استقر فيها من الميزان”.
هذا الفنّ لا يزال يحبو، تشتعل جذوته حينًا ثم تخبو، ربما لم يوجد منه – لدى صدمة الأمة بالتفوق الغربيّ – إلا القليل، وعندما ألَّف الأمير “شكيب أرسلان” كتابه “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم” كانت الأمة الإسلامية قد بلغت قمة الانبهار بالغرب وقاع الهزيمة النفسية أمام هيمنته الفكرية، في ذاك الأوان لم يكن للاستغراب صوت إلا كصوت المسكين المتطفل على مواد الأثرياء المترفين، يخفت إذا صخبوا ويصمت إذا هدأوا، وإذا سُمِعَ منه شيء فكلمات مبعثرة يقضم الحياء والتضاؤل أنصافها، فإذا أردت مثالا فلا تجد سوى صفحات كألواح هائمة في لجة اليَمّ من كتاب “تلخيص الإبريز في تلخيص باريز” للأستاذ رفاعة الطهطاوي، وبعض أعمالٍ لفارس الشدياق جاءت تمشي على استحياء في آخر حياته، ومع بزوغ شمس الصحوة جاء كتاب: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” للندوي مع شذرات متفرقة للمودودي وسيد قطب؛ لتعيد شيئا من الثقة لأهل الإسلام.
صقورٌ وغربان
منذ عقود اخْتَتَمَتْ الألفية الثانية وافْتَتَحَتْ الثالثة ظهرت كتابات شرقية وغربية؛ تكشف عوار الحضارة الغربية وزيفها، وتشن الغارة على كثير من النظريات التي تمثل بالنسبة لها أهراما شامخة، فوجدنا من ينتقد الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية، وإن كان أغلب تلك الكتابات يركز على مخالفة الحضارة الغربية للإسلام وعدم إمكان تآلفها معه، ولكنّ بعضها ركز على بيان فساد تلك النظريات في ذاتها وإضرارها بالبشرية، وذلك ككتاب “نقد الليبرالية” للمفكر المغربيّ “الطيب بو عزة”، أمّا الكتّاب الغربيون – من المسلمين وغير مسلمين – فقد تفوقوا في ذلك بصورة لافتة للنظر، فكان من المسلمين: “على عزت بيغوفيتش” و”مراد هوفمان” و”محمد أسد” وغيرهم، وكان من غير المسلمين: “إيدموند . ج . بورن” و”مونتجمري وات” و”نعوم تشومسكي” وغيرهم ممن قالوا كلمة الحق واجتهدوا في كشف سوءات الحضارة الغربية.
بينما نجد في المقابل رجالا من جلدتنا، يتقمصون أدوارًا إصلاحية نهضوية حداثية، يستفرغون وسعهم في استكمال مسيرة الاستشراق، ويمارسون عملية التغريب عن طريق محاولات إخضاع الخطاب الإسلاميّ والعروبيّ للهيمنة الغربية، ويشنّون – بالنيابة عن الاستشراق – الغارة تلو الغارة على التراث الإسلاميّ، حاملين معهم معاول هدم أطلقوا عليها أدوات الحفر المعرفي، كالفليلوجيا والهرمنيوطيقا والمينوفينولوجيا وغيرها مما يناسب تراث الغرب المتهالك، ولا يناسب تراثنا الذي بلغ النهاية في الموثوقية، من أمثال: أركون والجابريّ ومحمد شحرور وعبد المجيد الشرفيّ وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، وهناك آخرون من أبناء التيار الإسلاميّ مضو على أثر أولئك، ودخلوا معهم جحر الضبّ، واتبعوا سَنَنَهم حذو النعل بالنعل، يروجون في هذه الأيام للنموذج الغربيّ ويجلدون التاريخ الإسلاميّ، باسم الفكر النهضويّ!