لماذا هو شهيد؟
رابطة علماء أهل السنةبسم الله الرحمن الرحيم.. والحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد.
لماذا عَدَّهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشهداء؟ ذلك الذي قُتِلَ دفاعا عن ماله؛ لماذا هو شهيد؟ مع أنّ رتبة الشهادة – تلك الرتبة الرفيعة الشريفة – إنّما تُعْطَى لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ثم نال الشهادة وهو على ذلك! سؤال يوقفنا أمام الحديث الشريف موقف التأمل والتدبر؛ فمن الأحاديث المشهورة: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»(1)، وثَمَّ حديث أكثر منه وضوحا وأعمّ منه فائدة وأقرب تصورا للواقع التطبيقي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ»، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ»(2).
ولولا القليل من التأويل المدفوع المرفوض لكان الإجماع منعقدا على ذلك، فقد “قال ابن المنذر:عامّة العلماءِ على قتالِ المحارِبِ على كُلِّ وجهٍ، ومدافعتِهِ عن المالِ والأهلِ والنَّفس”(3)، بل إنّ البعض اقترب من التصريح بالإجماع على ذلك كالإمام الجصاص الذي قال: “ولا نعلم خلافا أن رجلا لو شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله؛ فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله”(4).
وسبب محاولات التأويل المرفوضة المدفوعة تلك هو التداخل الذي حدث في فهم البعض بسبب الأحاديث الناهية عن القتال في الفتنة، التي فيها الأمر بترك القتال، والحقيقة أنّ الموقفين مختلفان جد الاختلاف؛ لذلك فإنّه لا علاقة بين هذا الحديث وأحاديث النهي عن القتال في الفتنة، يقول الإمام البغويّ: “ذهب عامَّةُ أهل العلم إلى أن الرجلَ إذا أريد ماله أو دمه أو أهله فله دفعُ القاصدِ ومُقَاتَلَتُهُ، وينبغي أن يَدْفَعَ بالأحسن فالأحسن، فإن لم يمتنع إلا بالمقاتلة فقاتله فَأَتَى القتلُ عليه فَدَمُهَ هَدَرٌ، ولا شيء على الدافع … وذهب قوم إلى أن الواجب عليه الاستسلام، وكرهوا له أن يقاتل عن نفسه، متمسكين بأحاديث وردت في ترك القتال في الفتن، وليس هذا من ذلك في شيء، إنما هذا في قتال اللصوص، وقطاع الطرق، والساعين في الأرض بالفساد، ففي الانقياد لهم ظهور الفساد في الأرض، واجتراء أهل الطغيان على العدوان، وتلك الأحاديث في قتال القوم على طلب الملك، فعلى المرء المسلم أن يكون في ذلك الزمان جِلْسَ بيته، ويعتزل تلك الفرق كلها ليسلم له دينه”(5).
ويقول الإمام ابن قتيبة: “ونحن نقول: إن لكل حديث موضعا، غير موضع الآخر، فإذا وضعا بموضعيهما، زال الاختلاف؛ لأنه أراد بقوله: (من قتل دون ماله فهو شهيد) مَنْ قاتل اللصوص عن ماله، حتى يُقتل في منزله، وفي أسفاره … وأراد بقوله: “كن جِلْسَ بيتك، فإن دُخِلَ عليك، فادخل مخدعك، فإن دُخِلَ عليك، فقل: بُؤْ بإثمي وإثمك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل” أي: افعل هذا في زمن الفتنة، واختلاف الناس على التأويل، وتنازع سلطانين، كل واحد منهما يطلب الأمر، ويدعيه لنفسه … فكن حلس بيتك في هذا الوقت، ولا تسل سيفا، ولا تقتل أحدا، فإنك لا تدري من المحق من الفريقين، ومن المبطل، واجعل دمك دون دينك”(6).
ولا يقتصر الأمر على المال وحسب، وإنّما يتسع – فيما يبدو – ليشمل كل ما يجب على المرء حمايته والدفاع عنه، ففي حديث آخر عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»”(7)، فالقضية هنا ليست دائرةً حول صنف أو نوع مما يجب حمايته، وإنّما الفكرة تكمن في التحرك الواجب لحماية ما يجب حمايته، وحماية الخلق من تطاول المجرمين واستفحال أمرهم، فكأنّه – بل من المؤكد أنّه – نوع من الجهاد في سبيل الله تعالى، لا يقل أهمية عن جهاد المعركة الذي ينال فيها الشهيد تلك المرتبة بذات النيّة.
إنّ المتطاولين المجرمين يُغْريهم بمزيد من التطاول والإجرام تَخَلُّفُ الناسِ عن مواجهتهم، ولو ظل الناس هكذا في تراجعهم عن مواقع المدافعة لَتَوَسَّع الإجرام وطال التطاول واستفحل الظلم، ولو أنّ كل إنسان اعتُدِيَ على ماله أو عرضه أو نفسه رَدَّ الاعتداء ودفع الظلم لَانْزَوَى الشرُّ وتقلص الإرهابُ الذي يمارسه أهل الإجرام، سواء كانوا أفراد أو منظمات أو أنظمة حاكمة، فالذي يُقتل دون دمه لا يَبْذُلُ نفسه فداءً لماله؛ فهذا لا يستقيم مع ترتيب المقاصد في دين الله وشريعته، وإنّما يبذل نفسه في سبيل دفع الشر والباطل والظلم والإجرام، يبذل نفسه لإحياء المدافعة التي لا حياة للإنسانية إلا بها، ولعل هذا داخل فيما دعانا الله إليه في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24)، بل إنّه من المؤكد أنّه داخل في السنة الإلهية العامة التي كلفنا بالتفاعل معها والتجاوب مع صداها: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251) (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
ولا ريب أنّ ذلك السلوك الإسلاميّ الحضاريّ الإيجابيّ الكبير له قواعد في الشرع تضبطه وتخط سبيله القويم، وليس هاهنا مقام البسط والاسترسال في الضوابط والشروط؛ لأنّ استقرار المبدأ أهم بكثير من الدخول في تلك التفاصيل التي ربما يسهل الوصول إليها لدى استجابة الناس لما يحييهم، والله أعلم.
المصادر:
(1) متفق عليه: البخاري برقم (2480) ومسلم برقم (141) عن عبد الله بن عمرو مرفوعا
(2) رواه مسلم برقم (140) عن أبي هريرة
(3) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 352)
(4) أحكام القرآن للجصاص ط العلمية (2/ 503)
(5) شرح السنة للبغوي (10/ 249-250)
(6) تأويل مختلف الحديث (ص: 233)
(7) سنن أبي داود (4/ 246)