إنقاذ الأمة مقدّم على تكرار الحج والعمرة
الدكتور منير جمعة - عضو رابطة علماء أهل السنّة رابطة علماء أهل السنة ليس الإسلام لمن يحمل اسمه ولا يحمل همّه !
فالإحساس بالمسلمين وهمومهم واجب، فضلا عن كونه نعمة !
ولذلك جاء فى الحديث: "المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره" [متفق عليه]
ومن ترك مسلمًا يجوع أو يعرى- وما أكثر ما يحدث ذلك هذه الأيام - وهو قادرُ على إطعامه وكسوته فقد خذله.
ومن فقه الأولويات فى ترجيح عمل على آخر: أن يكون أكثر نفعًا من غيره، وعلى قدر تعدّى منفعته للآخرين يكون فضله وأجره عند الله، وهذا ما يقرره حديث مبهرٌ جميل: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجل: سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضى عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشى مع أخى المسلم فى حاجة أحبُّ إلىَّ من أن أعتكف فى المسجد شهرًا" [رواه الطبرانىُّ وغيره- عن ابن عمر-وحسنه الألبانى فى صحيح الجامع (176)].
وإذا كان العلماء قد اختلفوا فى الإجابة عن هذا السؤال: أيهما أفضل: التصدق بالمال على الفقراء والمساكين، أم نافلة الحج والعمرة؟
فإننا- مع احترامنا الدائم للمخالفين- نرى أن رأى الإمام أحمد بن حنبل أكثر اتساقًا مع القواعد الكلية للشريعة، حين قرر: "أن التصدق للفقراء أولى إن كان ثمّ رحمٌ محتاجة أو زمن مجاعة"، وهو أيضا رأى الحسن- رضى الله عنه- إذ يقول: "إن صلة الرحم والنفس عن المكروب أفضل من التطوع للحج"، بل يقول: "مشيك فى حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك من حجةٍ بعد حجة" [انظر هذه الأقوال فى لطائف المعارف لابن رجب (324و352)].
وأما الاستدلال الذى ورد في [مجلة التوحيد عدد- شهر شعبان ١٤٢٢ ه] بحديث: "تابعوا بين الحج والعمرة.." [أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذى وقال: حسن صحيح] على فضل تكرار الحج والعمرة فهو استدلال فى غير موضعه، إذ يقول المباركفورى فى شرح كلمة (تابعوا): "أى قاربوا بينهما، إما بالقران، أو بفعل أحدهما بالآخر. قال الطيبى- رحمه الله- أى: إذا اعتمرتم فحجوا، وإذا حججتم فاعتمروا" [تحفة الأحوذى 3/454].
ولو قلنا إن المعنى على ظاهره فإن الأمر لا يخرج عن كون التطوع بالحج أو بالعمرة له فضل، ولكن إنقاذ المسلم الجائع أو المشرد أو العارى أو المريض أو المدين فضله أكبر، وثوابه عند الله أعظم، فقد جاء فى الحديث: "من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" [رواه مسلم].
ولذلك أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإرشاد بالسعودية برئاسة العلامة ابن باز- رحمه الله- بتقديم الصدقة على نافلة العمرة فى رمضان "لأن نفع الصدقة يتعدى لغيرك مع حصولك على الأجر العظيم والثواب الكبير، ولما فى الصدقة من التكافل والتآزر بين المسلمين، وسد حاجة معوزهم وإعانته على أمور دينه ودنياه" [انظر نص الفتوى بمجلة البيان اللندنية عدد 133- رمضان 1419ه].
وصدق عبد الله بن مسعود- وكأنه ينظر من وراء الغيب لزماننا- حين قال: "فى آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر، ويُبسط لهم فى الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسور على جانبه لا يواسيه!!"
[الإحياء، طبعة الحلبى، 3/397].
إن المسلم- لو عرف معنى فقه الأولويات- مطالب بتقديم الأهم على المهم، فليت من يتطوع بالحج أو بالعمرة يبذل ماله فى إنقاذ إخوانه المسلمين في أي مكان، وليته يشعر بسعادة أكبر وروحانية أقوى كلما استطاع أن يقيم بنفقات الحج أوالعمرة مشروعا إسلاميا، يكفل الأيتام، أو يطعم الجائعين أو يعالج المرضى، بدلا من أن يقدم استمتاعه الشخصى على حقوق إخوانه، وبدلا من أن يكتفى بالدعاء، والدعاء سلاحٌ عظيم، لا ننكر ذلك ولكن ينبغى أن يصاحبه بذل وتضحية واستفراغ للوسع فى المساعدة بأقصى الطاقة كما قال رب العزة : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } .
هذا فى الأحوال العادية، أما فى زماننا هذا، فإن أمتنا تواجه حرب استئصال شرسة فى كل مكان .فالجهاد فى هذه الحالة واجبٌ شرعًا، ويكون بحسب الإمكان، فمن عجز عنه بنفسه فالجهاد بالمال من أفضل الأعمال، فلا ينبغى أن يتقاعس عن ذلك أيضا!
فقد جاء فى صحيح الإمام مسلم عن النعمان بن بشير- رضى الله عنه- قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالى ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر: ما أبالى ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد فى سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر- رضى الله عنه- وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو يوم الجمعة- ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين } .
هذه القصة الصحيحة تدل على أن جنس أعمال الجهاد مقدّمٌ على جنس أعمال الحج، سواء قلنا :إن الآية نزلت بسببها، أو قلنا إن النبى صلى الله عليه وسلم قد قرأها واستدل بها فى إجابته لسؤال عمر بن الخطاب، فالحكم فى الحالتين لا يختلف كما ذكر القرطبى فى التفسير (8/92).
وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد فى سبيل الله، ثم حج مبرور".