“كورونا” والسنن الإلهية
الدكتور عطيّة عدلان رابطة علماء أهل السنةالحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
كأنّ الناس على الكوكب الأرضي كله قد أصابهم فيروس “كورونا” بالهوس قبل أن يصيبهم بالحمى؛ ما هذه الحالة من الهلع والفزع؟! أين القوى العملاقة التي أوشكت من غرورها أن تعلن الحرب على سكان السماوات؟! ولماذا لم تسعفها المعامل والمراصد وما أوتيت من علم وتكنلوجيا؟! لقد بدا سكان هذا الكوكب الضئيل السابح في درب التبانة كذبابة حقيرة هائمة في جو السماء؛ لقد بدوا في حالة من الضعف والخور والفقر والعوز، لقد أفلست حيلتهم، كلما تغلبوا على فيروس من تلك التي لا ترى لهم ظهر آخر؛ فخلب لبهم وأسر عقلهم وقد مضاجعهم؛ فما الذي أراده الله بهم؟
ليس لأحد من العباد – ولو كان وَليًّا – سلطانٌ؛ يوجه به فعل الله في خلقه أو يفسر به ما يجريه الله على عباده، إلا أن يقع ذلك منه على وجه الربط بسنة من السنن الإلهية الماضية؛ لذلك كان التفسير الخاطئ لنزول البلاء – عامًّا كان أو خاصًّا – مَرَدُّه إلى أحد أمرين: الغباء أو الادعاء، فالغباء يقود إلى سوء التنزيل؛ فيقع الخلط في الربط بين النازلة وبين السنن والقوانين، والادعاء يقود إلى إسقاط الأسباب على المخالفين في المذهب أو في الدين، وعندما يقع هذا أو ذاك يمر الحدث وتنقشع غمامته دون أن يستفيد منه الناس شيئاً، وقد أنزل الله تعالى هذه الآية العجيبة: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران 128)، وذلك “لمَّا كان يوم أُحدٍ من المشركين ما كان من كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشجِّه؛ فقال: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيِّهم وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟!”([1]) فبرغم أنّهم آذوه وهو رسول الله وخير خلق الله لم يأذن له في التدخل في مصيرهم مآلهم.
نحن الآن نواجه خطراً كبيرا وبلاءً عريضاً، فعلى أيّ سنة يقع هذا البلاء؟ أهو غضب من الله تعالى على بني آدم؟ وقد غرهم ما أوتوا من علم وحضارة ومُكْنَة؛ فقالوا بموت الإله وبسيادة الإنسان على الكون والحياة، وبأنّه قد آن الأوان لأن ترفع السماء وصايتها عن الإنسان؛ ليبلغ كماله، وليحكم بعقله هذه الطبيعة البليدة، ويخضعها لإرادته الحرة المجيدة، أهي نازلة على هذا النحو؟ فتكون السنة الحاكمة هي سنة الأخذ بعد الإملاء، كما أشارت الآيات: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)) (غافر 83-85)، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم 41) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)) (الأنعام 42-45).
وارد أن يكون نزول هذا البلاء على سنة الأخذ بعد الإملاء، لكنّ هذا الاتجاه في التفسير تعترضه مشكلتان، الأولى أنّ الوباء لا يخص الكافرين المعاندين، ولا الظالمين المجرمين، بل ربما كان هؤلاء أكثر احتمالا للنجاة من الشعوب المغلوب على أمرها؛ لما أوتوا من أسباب مادية يتحرزون بها عن الوقوع فيما يقع فيها البسطاء المغلوبون على أمرهم، والذين قد يكون لهم عذر بجهلهم وعدم قيام الحجة الرسالية عليهم، الثانية أنّ هذا البلاء وأمثاله من الأوبئة والكوارث الكونية كالزلازل والبراكين والعواصف وغيرها تنزل بالكافرين والمسلمين على السواء؛ مما يصعب تفسير ما يجري بأنّه العذاب الذي يرسله الله على وجه العقوبة، اللهم إلا إذا قلنا إنّ العذاب يعمّ الكافرين والمسلمين ويشمل الصالحين والطالحين إذا لم يقم المسلمون الصالحون بما يجب عليهم من الدعوة والبلاغ والقدوة الحسنة؛ بما تقوم به الحجة على الناس.
وربما كان التفسير الأقرب قبولاً هو أنّ هذا البلاء يقع على سنّة الابتلاء، وهي سنة تمضي على جميع الخلائق بلا فرق بين مسلم وكافر ولا بين صالح وطالح، الابتلاء والفتنة والامتحان والاختبار؛ لعل الناس يخرجون منه بعبرة وعظة ورشاد وسداد، وقد أشار القرآن إليها في كثير من الآيات: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف 168) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء 35) أي: “ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة والعافية”[2]).
ولا ريب أنّ الفتنة تكون آثارها متنوعة بحسب حال كل فريق، قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) (المدثر 31) وقال عزّ وجل: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)) (الحج 53-54)؛ وبتكرار هذه الابتلاء يُعِدُّ الله الأرض ومن عليها لأمر عظيم؛ تتمايز الخلائق تمهيداً لوقوعه.
ولا مانع أن تعمل جملة من السنن في وقت واحد على نازلة واحدة؛ فتكون النازلة في حق المؤمنين تمحيصا لذنوبهم وتخليصا لهم من أدرانهم، وتكون للمجرمين أخذاً من عزيز مقتدر، وتكون لبعض العباد امتحانا وفتنة لعلهم يرجعون إلى ربهم، وقد يستفاد هذا من الآيات الآنفة، كما يستفاد من قوله تعالى في أعقاب أحد: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران 141).
لكنّ الذي لا ريب فيه أنّ هذا البلاء وأمثاله مما يعمّ الخلق ويحيرهم ويظهر ضعفهم وتهافتهم من أعظم الآيات الدالة على قيومية الخالق وهيمنته على عباده، وهذا من أعظم المعاني الإيمانية التي يُصَرِّفُ القرآن القولَ في ترسيخها وتكريسها، قال تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)) (الأنعام 63-65)، وقال عزّ وجل: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام 61) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)) (القصص 17 – 72) (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)) (الإسراء 68 – 69) (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)) (الملك 16-17) (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)) (النحل 45-47) (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)) (الرعد 11-13) وغيرها من الآيات.
وفي الأخير نسأل الله تعالى أن يدفع البلاء عن العباد، وأن يهدي من ضل منهم إلى صراطه المستقيم، وأن يخرج الناس من هذه المحنة إلى رشد وسداد، والحمد لله على كل حال.
([1]) تفسير الوجيز للواحدي (ص: 231)
([2]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (18/ 439)