وقد جاء الحديث أيضا مطولاً عند الإمام أحمد في المُسندِ ، عن ربيعة بن كعب -- رضي الله عنه -- قال: كنتُ أَخدُم رسولَ -- صلى الله عليه وسلم -- وأقومُ له في حوائِجهِ نهاري أَجمع ، حتى يُصلي رسولُ الله -- صلى الله عليه وسلم -- العِشاء الآخرة ، فأجلسُ ببابهِ ! إذا دخل بيته ، أقول : لعلها أن تَحدثَ لرسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حاجة ، فما أزال أسمعه يقول : سبحان الله ! سبحان الله ! سبحان الله ! وبحمده حتى أمل ، فأرجع أوتَغلِبني عَيْنَي فأرقد ، قال : فقال لي يوماً لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه : " سلني يا ربيعة أعطك " قال : فقلت : أنظرُ في أمري يا رسول الله ، ثم أُعلِمك ذلك؟ قال : ففكرتُ في نفسي فعرفتُ أن الدنيا منقطِعةٌ زائلةٌ ، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني ، قال : فقلت : اسألُ رسولَ الله -- صلى الله عليه وسلم -- لآخرتي فإنّه من الله -- عز وجل – بالمنزِل الذي هو به ، قال : فجئتُ فقال : " ما فعلت يا ربيعة ؟ " قال : فقلت: نعم يا رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أسألُك أن تشفعَ لي إلى ربك ؛ فيعتقني من النار ، قال : فقال : " من أمرك بهذا يا ربيعة ؟ " قال : فقلت : لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحدٌ ولكنّك لمَّا قلتَ : سلني أُعطِك وكنتَ من اللهِ بالمنزلِ الذي أنت به ، نظرتُ في أمري وعرفتُ أن الدنيا منقطعةٌ وزائلة ، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي ، قال : فصَمَتَ رسولُ الله -- صلى الله عليه وسلم -- طويلاً ، ثم قال لي : " إني فاعل ، فأعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ ".
راوي الحديث : الصحابيُ الجليلُ ربيعةُ بن كعبٍ الأسْلَمِي وكُنيتُه أبو فِراس ، وهو أحد خُدَّام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وكان من أهلِ الصُفة ، وهم : مجموعة من فقراءِ المسلمين المهاجرين وغيرهِم ، الذين يأَتُون من القبائلِ المُختلفةِ كغِفَارٍ وجُهَيْنَة وقُريش وغيرها ، فيُهاجرون بدِينهم ، ولم يكن لهم محلٌ ولاسَكنٌ يأْوُون إليه ، ولربما ليس للواحد منهم إلا لباسٌ يستره ، ولايملك شيئا من حطامِ الدنيا ، فجلسوا في المسجد للعبادةِ والتَعلمِ وانتظارِ أمرِ الندبِ للجهادِ والغزوِ ، وكان كلُ من يأْوِّي إلى هذهِ الصُفةِ ، أو تلك المجموعة يُعَدُ من أهلها.
وكان ربيعة -- رضي الله عنه -- أحد هؤلاء ، وكان يحرصُ أيضاً على خدمة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في السفرِ والحَضرِ ، ومعلومٌ أنّ بعض الصحابة الكرام كان : يَختَصُ بنوع من الخدمة لرسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، مثلا كان لسواكه ونعله وطهوره ، يعني : كان يهتمُ بإعدادِ وتهيئةِ هذه الأشياء للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- السواك والنعلُ والماء الذي يتوضأ به النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ومن الصحابة الكرام -- رضوان الله عليهم جميعا -- من كان يحرصُ على خدمةِ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في كلِ مايحتاجُ إليه كأنسٍ وغيرهِ.
ولم يكن ربيعة الأسلمي من المُكْثِرين لروايةِ الحديثِ عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يُعْلَم له على المشهور إلا أربعة أحاديث فقط ، ومن العلماء من عَدَّه فيمن روى عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اثْنَي عشر حديثا ، المهم والمقصود : أنّه كان مُقِلاً من الروايةِ عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --
تُوفِي -- رضي الله عنه -- بعد الحِرّة سنة ثلاث وستين من الهجرة .
يقول -- رضي الله عنه -- : كنتُ أبِيتُ مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فآتيه بوَضُوئِه يعني : يُجَهِزُ الماءَ الذي يَتوضأ به فلفظ الوَضُوء بفتح الواو يعني : الماء الذي يُتَوضأ به ، وبضمها يعني : فعل الوضوء نفسه .
وقوله : أنه كان يَبِيتُ مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا يعني أنّهُ يَبِيتُ معهُ في حُجرته ، إِنّما كان يبِيتُ على بابهِ بحيث يكون قريبا من بيته وحجرته حتى يَسْهُل عليه الأمر ، ويُسرِع في خدمته -- صلى الله عليه وسلم --
يقول : فآتيه بوَضُوئه وحاجتِه فقال : (سَلْنِي) يعني : اطلب مني شيئا أُكافِئك به ، فمعلومٌ أن رسول الله العظيم ونبيه الكريم -- صلى الله عليه وسلم -- أكرم الخلق جميعا ، وأجودَهم وأكثرَهم عطاءً ومُكافأةً على المعروفِ وهذا الرجل ربيعة - رضي الله عنه - يقومُ على خدمتهِ ومُعاونتهِ ، فأراد -- صلى الله عليه وسلم -- أن يَجْزِيه بالإحسانِ إحساناً وأن يُكرِمَه ويُكافِأه ويُحسنَ إليهِ ، أليس هو القائل -- بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم -- : ( من أسدى اليكم معروفا فكافِؤه فإن لم تجدوا ماتكافؤوه فادعو له ) ؟!!!
يقول ربيعة : فقلت : "أسألك مُرافقتَك في الجنةِ " سبحان الله العظيم ! هذا الرجل قويُ الإيمانِ ، ثاقبُ النظرِ ، عميقُ الفكرِ ، عالي الهمة ، حريصٌ على الخيرِ ، مشتاقٌ إلى الجنةِ ، وراغبٌ في الدرجات العلا ورُفقة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وماأعظمها من مَطالب وأماني ورغبات ، وشتانَ بين صاحبِ هذه الهمة العالية العظيمة ، وبين غيرهِ ممن يَتطلعون إلى حُطامِ الدنيا ، ويطلبون متاعها الفاني ، فقد حَدَث : أن سأل النبيُ -- صلى الله عليه وسلم -- غيرَ ربيعة نفس السؤال ، فكانت الإِجابةُ وكان الطلبُ شيئاً تافِهاً من متاع الدنيا -- بعيراً أو مالاً أو بيتاً أو نحوِ ذلك -- ،
إنّهُ التفاوتُ في درجاتِ الإيمانِ وعُلُوِّ الهمّةِ ، وفهمِ الحقيقةِ بين البشر .
وقد حَدَث فيمن قبلنا -- كما جاء في الحديثِ الذي خَرّجه الحاكمُ في المستدركِ وابنُ حِبانٍ في صحيحهِ -- : أخبر النبيُ -- صلى الله عليه وسلم -- عن عجوزِ بني إسرائيل ، وذلك أنّ يوسف -- صلى الله عليه وسلم -- مات بأرضِ مصر ، وكان قد أَوْصَى أن يُنقلَ إلى الأرض المُقدسة -- في فلسطين -- فلما كان زمن موسى -- صلى الله عليه وسلم -- وهي مدة طويلة من الزمن بين يوسف وموسى عليهما السلام -- ومعلومٌ أن أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض ، فسأَل عن موضع قبرِ يوسف -- صلى الله عليه وسلم -- فما وجدوا خَبَرَه إلا عند امرأةٍ عجوزٍ من بني إسرائيل ، فأَبَت أن تُخبر موسى -- صلى الله عليه وسلم -- إلا أن يدعوَ الله لها أن تكونَ رفيقتَه في الجنة ، ثم دلَّتهم بعد ذلك على القبر ، وكان في مكانٍ اجتمع فيه الماءُ فنزحُوه فوجدوا قبرَ يوسف -- صلى الله عليه وسلم --
فهذه أيضا امرأةٌ صاحبةُ همةٍ عاليةٍ ، وهذا الصحابيُ الجليلُ ربيعة لم يقلْ : أريدُ جَمَلاً ولامالاً ولابيتاً أو متاعاً أو نحو ذلك ، وإنّما قال : أريدُ مُرافقتَك في الجَنّة ، وهذا هو الفهم العميقُ والوَعي الكاملُ الصحيحُ للدنيا والآخرة ، وهذه هي قمةُ الإيمانِ وقوةُ الصلةِ باللهِ -- عزوجل -- لأنَّ الجنةَ هي غايةُ مايرجوه المسلمُ ويُؤَمِل فيه ، فهي دار كرامةِ اللهِ -- عزوجل -- لعبادهِ المؤمنين ، وهي دارُ السلام ودارُ النعيمِ ، وهي الحُسنى التي أَعدَّها الله -- عزوجل -- وهَيأَها للمحسنين ، كما قال سبحانه : (وتعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ ) فالحُسنى هي الجنة ، والزيادةُ هي النظرُ إلى وجه الله الكريم .
والنبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (إذا سألتمُ اللهَ الجنة فاسأَلُوه الفردوسَ الأعلى ، فإنّه أعلى الجنة وسقفُها عرشُ الرحمن ، ومنه تُفجَّرُ أنهارُ الجنةِ) . ولذلك ينبغي أن تَعلُوَ همةُ المسلمِ دائماً ولاتَدْنُوا وتَهبِط أبداً ، حتى في الدُعاءِ ، فعطاءُ اللهِ -- عزوجل -- واسعٌ ، وخيرُه كثيرٌ ، وفضلهُ عميمٌ ، فهو يُعطي عطاءً بلا حدودٍ ، فلا تُثقِلهُ المطالبُ ، ولايُتعِبهُ أمرٌ ولايَعجزُ عن شئٍ -- حاشاه -- ، ولذلك نعجبُ لبعض البسطاءِ والعجائزِ -- الذين يحتاجون إلى تعليمٍ وتفهيمٍ -- حينما يَدْعُون اللهَ -- عزوجل -- بدَعَواتٍ عجيبةٍ وبسيطةٍ فيقولُ أحدهم مثلا : اللهم أَدخِلني الجنَّة واجعلني ولو خلفَ البابِ ، وآخرٌ يقول : أَعطني في الجنّة ولو ثقب إبرةٍ ، وطبعا موضِع ثقبَ الإبرةِ في الجنة شئٌ عظيمٌ ، لكن لاينبغي أبداً أن يكونَ طلبُ الجنة من الله -- عزوجل -- هكذا فالله عظيم وعظمته لاتدانيها عظمة ، ولايَتعاظم شئ أمام قدرته وعطائه ، -- سبحانه وتعالى -- ولذلك وجب على المسلمِ أن يسألَ ربَهُ من فضلهِ الواسع ، ويُعْلي الطلب لأن المُعطي غنيٌ قادر وجوادٌ كريمٌ.
ولما طلب ربيعة الأسلمي هذا الطلب -- وهو مرافقةُ النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة -- قال له -- صلى الله عليه وسلم -- : (أو غير ذلك ؟) يعني : ما تطلب شيئا آخر غير هذا المطلب؟ يقول : قلتُ : هو ذاك . يعني : ليس لي مطلوب آخر . فقال له النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (فأَعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ) فأرشده الحبيب المصطفى -- صلى الله عليه وسلم -- إلى أحدِ الأسباب المهمة والقوية لتحقيق هذا المطلب ، وهو كثرةُ السجود ، وهذا يعني : كثرةُ الصلاةِ بالليل والنهار لأن السجودَ إمّا أن يكونَ في الصلاةِ ، أو خارجها مثل سجود التلاوة وسجود الشكر ، ولكن هذا يحدث قليلا ، لأنه إنما يوجد مع وجود سببه ، وأما قصده -- صلى الله عليه وسلم -- بكثرة السجود : فهو أن يكثر الإنسان من الصلاة وخصَ السجودَ بالذكرِ لأنه من أعظم أركان الصلاة ، ويكونُ الإنسان فيه قريباً من ربهِ -- عزوجل--
ولذا اختلف العلماء أيهما أفضل في أركان الصلاة طول القيام أم كثرة السجود؟ فمن أخذ بهذا الحديث قال : كثرة السجود أفضل ، ومعناه : أننا نصلي ركعاتٍ كثيرة في اليوم والليلةِ فنقرأُ قراءةً يسيرةً في القيامِ ونُصَلي مثلا ثلاثين ركعة أو خمسين أو حتى مائة في اليوم والليلة ، وتكون القراءة قصيرةً لكن السجود كثيرٌ ؛ لأنه في كل ركعة بها سجدتان ، فهذا له مزية وعليه دل الحديث.
وكذلك أيضا القيام والركوع هو أنشط للمصلي ويطرد عنه النوم ،
ولكن كثرةَ طولِ القيام فيه معنىً آخر ، وهو أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : أفضل طول القنوت يعني طول القيام أفضل الصلاة طول القيام يعني : فهذا أدعى للتدبرِ في القراءةِ وكان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يطيل القراءة خاصة إذا صلى وحده ، أو صلى خلفه من يتحملون ويعلمون أنه سيطيلُ بهم القراءة فقد ورد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يقرأ في ركعة واحدة البقرة وآل عمران والنساء ، وعلى كلٍ فطول القيام له مِزية ، وكثرة السجود له مِزية كذلك ، ولذلك توسط العلماء في المسألة فقال بعضهم : لكل فضيلة . فإذا أمكن أن يفعل المسلم ما كان يعمله النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فهو الأكملُ فقد كان يصلي إحدى عشرة ركعة لكنها طويلة إلى حد ما ، وليس التطويل قراءة صفحةٍ أو نصف ، وإنما أكثر من ذلك ؛ لأن البعض يعتبرُ التطويل هكذا قراءة ربعٍ أو نصفَ ربعٍ في الركعة الواحدة ، نقول لهؤلاء : هذا تطويل زماننا أما في زمن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والصحابة الكرام فكان تطويلهم أكثر من ذلك ، خاصة في صلاة الليل والقيام نسأل الله -- عزوجل -- أن يغفر لنا عجزنا وضَعفنا وتقصيرنا.
هذا وقد ورد أيضا : حديث آخر في صحيح مسلم في نفس المعنى وهو حديث ثوبان -- رضي الله عنه -- وهو مولى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والذي كان أصلُه من اليمن أو من أرض يقال لها السُراة بين مكة واليمن ، وكان قد سُبِيَ وجِئ به في السبي ، فاشتراه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأعتقه وكان يخدم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وتوفي -- رضي الله عنه -- بالشام زمن معاوية .
يقول : سمعت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة ، وحَطَّ عنك بها خطيئة) .
ودرجاتُ الجنةِ لا يُقادرُ قَدْرُها ، ولا يمكن أن ندرك حدها ، فقد أخبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن تفاوتِ أهل الجنة في عُلوِ الدرجات بأمر لايخطر على بال ، فهم يتراءون في الدرجات العلا كما نتراءى نحن الكوكب الغابر في الأُفق .
فحديث ربيعة وثوبان كلاهما يدل على : أن السجودَ فيه مزيدٌ من القُرب من اللهِ -- عزوجل -- فكلما ازداد الإنسان سجودا ازداد لله قربا قربا ، ومن أراد حَطَّ الخطايا وغفران الذنوب ، فعليه كذلك بكثرةِ الصلاة والسجود ،
وذكر الإمامُ النّوَوِي -- رحمه الله -- في شرحه : أنّ فيه الحث على كثرة السجود والترغيب فيه.
وينبغي أن يُفهم قوله -- صلى الله عليه وسلم -- : كثرة السجود في إطارِ القاعدةِ التي تُبين كثيراً من الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في ترتيب الأجور على الأعمال ، بمعنى : أنّ من زاد في أعماله زاد الله في حسناته ، ومن نقصَ نال من الأجرِ على قَدْرِ الأعمال التي قام بها ، فمن يستكثر فالله -- عزوجل -- يُكثِر له الخير والثواب ، كما قال أحد الصحابة الكرام للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- : إذاً نكثر . فقال صلى الله عليه وسلم : الله أكثر .
يفيدُ الحديثُ كذلك : أنه كلما كثر السجود تكون فرصةَ مرافقة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أكبر وأعظم وآكد ومدتها أطول ،
فكثرة السجود تجلب كرامةَ مرافقة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ومُلازمته في الجنة والتي هي درجات بحسب كثرة العمل وإتقانه وإخلاصه.
يُبين الحديثُ كذلك أنه لا حد للركعات التي يتطوع بها الإنسان من النوافل المطلقة في ليلٍ أو نهارٍ ، فكلما كان السجودُ أكثر كانت المرافقة والإجابة أقرب.
وينبغي على الإنسان أن تكون همته عالية ، وأن يكون همُّهُ هم الآخرة ، بأن تكون رِجْلُه في الثَرى وهِمَّته في الثُريا ، وأن يكونَ ذا عزمٍ أكيدٍ وبأسٍ شديدٍ ، والتزامٍ حميدٍ بدين الله -- عزوجل -- فلا يَخمُل ويتكاسل ولايلين ولايَحيد .
فهذا الصحابي الجليل ربيعة -- رضي الله عنه -- علم أن الدنيا منقطعةٌ زائلةٌ ، وأنها لاتساوي شيئا ، وأن نفساً لن تموت حتى تَستوفِيَ رزقها وأجلها ، فما كان من ربيعة إلا أن سأل رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أن يحققَ له ذلك الهدف النبيل والغاية المحمودة والتي كان يسعى دائما لتحقيقها ، وهي : مرافقة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأنِعم بها من رُفقة وأنعم بهم من رِفاق.
إنه حقا طلبٌ غالٍ وهدفٌ عظيمٌ ، لايسعى إلى تحقيقه إلا أصحاب الهمم العالية ، والنفوس الزكية ، والقلوب الطيبة المطمئنة الذين باعوا أنفسهم لله - عزوجل --
يفيد الحديث أيضا أن السجود سمةٌ من سمات الصالحين ، فالله -- سبحانه وتعالى -- وصفهم بقوله : ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود .
نفهم كذلك أن الجنة تحتاج إلى كثرة العبادة ومجاهدة النفس على شهواتها وملذاتها ، وتَذَكُر الآخرةِ دَوماً ، وأن الإنسان راحلٌ عن الدنيا ومقبلٌ على ربه -- عزوجل --
والسجود يُذَكِر العبدَ بالبدايةِ والنهايةِ ، ففيه التصاق بالأرض وتمريغٌ الوجه في التراب ، فيتذكُر الإنسانُ أصلَ خِلقَتِه ، فهو من التراب وإلى الترابِ يعود .
نسألُ الله -- عزوجل -- أن يُعِيننا على ذكره وشكره ، وحسن عبادته ، وأن يوفقنا لمَرْضاته ، ويرزقنا صحبةَ ومرافقةَ النبيِ الأعظمِ والرسولِ الأكرم ، في جناته جنات النعيم .