الأحد 22 ديسمبر 2024 07:25 مـ 20 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    أصحاب الأخدود عبر العصور والحدود

    رابطة علماء أهل السنة

    أصحاب الأخدود عبر العصور والحدود

    بقلم الشيخ عبدالعزيز رجب

     

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه؛ وبعد:

    ما أشبه الليلة بالبارحة، بالأمس اجتمع الطغاة على المسلمين المؤمنين الموحدين ليستأصلوا شأفتهم، وهاهم اليوم يجتمعون على المؤمنين المتمسكين بعقيدهم ودينهم، كما هو الحال الآن في ميانمار وفلسطين ومصر وسوريا.. الخ، وقد  ضرب الله بذلك مثلا في كتابه العزيز بأصحاب الأخدود: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) ﴾ [البروج]

    فهذه الآيات في سورة البروج تحكى لنا قصة أصحاب الأخدود، تلك الفئة المؤمنة التى آمنت بربها وأعلنت حقيقة إيمانها، ثم تعرضت للفتنة والتعذيب من الطغاة والمستبدين الذين لا يقدرون حق الإنسان في حرية العقيدة والعبادة والفكر والحياة، كما هو الحال في كثير من العصور على مدار الزمان.

    وما يمر به المسلمون اليوم من محن وابتلاءات، خاصة الفئة المتمسكة بالحق والصادعة به، وما يواجهونه من شدائد ومن غلبة الشر وقهره وسطوته، وتلذذ الطغاة بتعذيبهم وآلامهم، أشبه بما مر في قصة أصحاب الأخدود، لأن المعركة معركة عقيدة وإيمان؛ وهذا هو السبب الرئيسي لما لاقوه أصحاب الأخدود وما يلاقيه اليوم المسلمون المعذبون، هو بسبب العقيدة والإيمان، كما قال تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) }[البروج]

    فعنْ صُهَيْبٍ- رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ-  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ[يسمى ذو نواس وكان يحكم اليمن] ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ [ص:2300] حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ». أخرجه: مسلم وأحمد والترمذي بسند صحيح.

    وهكذا انتهت القصة، قصة أصحاب الأخدود، الذين تحرروا من عبودية الحياة، وعبودية الدنيا، وعبودية الناس، وعبدوا الله الواحد الأحد رب الناس، ووقفوا أمام جبلات جاحدة شريرة مجرمة، أذاقوهم أنواع العذاب، ولكن كلما زاد الطغاة في عذابهم ازداد المؤمنون تمسكا بدينهم، وانتصروا على عدوهم.

    فلابد لأصحاب الدعوة الصحيحة والعقيدة السليمة والإيمان الراسخ أن يبتلوا في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ليتم التمحيص، وتتربى القلوب على هذا التحمل والصبر والصلابة والقوة والتجرد، لأننا نريد رضا الله والجنة، وسلعة الله غالية.

    وهذا ما لاقاه النبي وأصحابه، كما حدث لياسر وسمية وعمار وبلال وخباب وغيرهم، وما حدث للتابعين وتابعيهم والمجاهدين والدعاة الربانيين إلى يومنا هذا، فعن جابر – رضي الله عنه -  قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأبى عمار وأم عمار وعمار: «اصبروا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة". أخرجه: الطبراني في الأوسط، والحاكم، والبيهقي.

    وعن خباب- رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «كانَ الرَّجُلُ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رأسه فيشق باثنتين ما يصده ذلك عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصُدُّهُ ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلا الله وَالذِّئْبَ عَلَى غنمه ولكنكم تَسْتَعْجِلُونَ». أخرجه: البخاري، وأحمد، و، وأبو داود، والنسائي.

    والنصر مهما طال فهو قريب بإذن الله، فقد يظن بعض الناس أن انتفاش الباطل وانتصاره في بعض الأحيان على الحق، أن هذا نهاية الزمان، وليس للحق وأهله قائمة بعد اليوم، كما حدث في قصة أصحاب الأخدود وواقع اليوم، ولكن الناظر بنظرة متعمقة ودقيقة يجد في قصة أصحاب الأخدود كثير من علامات النصر والتمكين.

    فقد انتصرت عقيدة الإيمان والإسلام على عقيدة الكفر الضلال، فلم يغيروا عقيدتهم ولم يرتدوا عن دينهم رغم المغريات ورغم التعذيب الذي لاقوه؛ وفازوا بموت كريم، فكل الناس ستموت، ولكن الخاتمة تختلف، فهذا يموت وهو يعصى الله، وذلك يموت وهو يعيش في الباطل ويظلم، والفائز من يموت وهو يدافع عن الحق وأهله، وتلك والله هي الموتة الشريفة، حيث يعيش شريفا ويموت شهيدا ويفوز برضوان الله والجنة.

    وسينال الطغاة والظالمين عقابهم من الله في الدنيا والآخرة، كما حدث للملك [ذو نواس] صاحب قصة أصحاب الأخدود الذي مات غرقا في البحر بعد هزيمة جيشه، وكما حدث لفرعون وهامان وكل الطغاة المستبدين قديما وحديثا، ناهيك عما ينتظرهم في قبورهم ويوم القيامة من عذاب الله المنتقم الجبار، الذي لا يغفل ولا ينام، وصدق الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) ﴾ [ البروح]، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾ [ إبراهيم] ، ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) ﴾ [ الإسراء].

    والواجب على المسلمين في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها أمتنا الآن: أن نبدأ بتغير أنفسنا أولا، وذلك بتربية أنفسنا وأهلنا وأولادنا تربية إسلامية صحيحة مبنية على العقيدة السلمية والعبادة الصحيحة، والتخلق بأخلاق الإسلام وحسن المعاملة مع الناس، كما قال سبحانه:﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]؛ والتصدي للظالمين وأعوانهم وفضح فسادهم وإجرامهم ومقارعتهم الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، والتصدي لهم بكل الوسائل المشروعة، ففرعون لم يستفحل أمره وجبروته إلا عندما سكت عنه شعبه ، كما قال سبحانه: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) ﴾ [الزخرف]؛ وكذلك مناصرة إخواننا المستضعفين والمجاهدين بمعالجة الجرحى والمصابين وإيواء المشردين واللاجئين وتقديم كل ما يحتاجونه من أدوية ومستلزمات، ودعمهم ماديا وسياسيا ومعنويا؛ والدعاء بأن ينصر الله الحق وأهله، وأن ينتقم من الظالمين وأعوانهم أجمعين.

    وأخيرا: مهما طال الليل فلابد من بزوغ الفجر، ومهما طال الظلم فلا بد أن ينتصر الحق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

    وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    أصحاب الأخدود عبر العصور والحدود

    بقلم الشيخ عبدالعزيز رجب

     

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه؛ وبعد:

    ما أشبه الليلة بالبارحة، بالأمس اجتمع الطغاة على المسلمين المؤمنين الموحدين ليستأصلوا شأفتهم، وهاهم اليوم يجتمعون على المؤمنين المتمسكين بعقيدهم ودينهم، كما هو الحال الآن في ميانمار وفلسطين ومصر وسوريا.. الخ، وقد  ضرب الله بذلك مثلا في كتابه العزيز بأصحاب الأخدود: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) ﴾ [البروج]

    فهذه الآيات في سورة البروج تحكى لنا قصة أصحاب الأخدود، تلك الفئة المؤمنة التى آمنت بربها وأعلنت حقيقة إيمانها، ثم تعرضت للفتنة والتعذيب من الطغاة والمستبدين الذين لا يقدرون حق الإنسان في حرية العقيدة والعبادة والفكر والحياة، كما هو الحال في كثير من العصور على مدار الزمان.

    وما يمر به المسلمون اليوم من محن وابتلاءات، خاصة الفئة المتمسكة بالحق والصادعة به، وما يواجهونه من شدائد ومن غلبة الشر وقهره وسطوته، وتلذذ الطغاة بتعذيبهم وآلامهم، أشبه بما مر في قصة أصحاب الأخدود، لأن المعركة معركة عقيدة وإيمان؛ وهذا هو السبب الرئيسي لما لاقوه أصحاب الأخدود وما يلاقيه اليوم المسلمون المعذبون، هو بسبب العقيدة والإيمان، كما قال تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) }[البروج]

    فعنْ صُهَيْبٍ- رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ-  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ[يسمى ذو نواس وكان يحكم اليمن] ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ [ص:2300] حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ». أخرجه: مسلم وأحمد والترمذي بسند صحيح.

    وهكذا انتهت القصة، قصة أصحاب الأخدود، الذين تحرروا من عبودية الحياة، وعبودية الدنيا، وعبودية الناس، وعبدوا الله الواحد الأحد رب الناس، ووقفوا أمام جبلات جاحدة شريرة مجرمة، أذاقوهم أنواع العذاب، ولكن كلما زاد الطغاة في عذابهم ازداد المؤمنون تمسكا بدينهم، وانتصروا على عدوهم.

    فلابد لأصحاب الدعوة الصحيحة والعقيدة السليمة والإيمان الراسخ أن يبتلوا في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ليتم التمحيص، وتتربى القلوب على هذا التحمل والصبر والصلابة والقوة والتجرد، لأننا نريد رضا الله والجنة، وسلعة الله غالية.

    وهذا ما لاقاه النبي وأصحابه، كما حدث لياسر وسمية وعمار وبلال وخباب وغيرهم، وما حدث للتابعين وتابعيهم والمجاهدين والدعاة الربانيين إلى يومنا هذا، فعن جابر – رضي الله عنه -  قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأبى عمار وأم عمار وعمار: «اصبروا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة". أخرجه: الطبراني في الأوسط، والحاكم، والبيهقي.

    وعن خباب- رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «كانَ الرَّجُلُ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رأسه فيشق باثنتين ما يصده ذلك عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصُدُّهُ ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلا الله وَالذِّئْبَ عَلَى غنمه ولكنكم تَسْتَعْجِلُونَ». أخرجه: البخاري، وأحمد، و، وأبو داود، والنسائي.

    والنصر مهما طال فهو قريب بإذن الله، فقد يظن بعض الناس أن انتفاش الباطل وانتصاره في بعض الأحيان على الحق، أن هذا نهاية الزمان، وليس للحق وأهله قائمة بعد اليوم، كما حدث في قصة أصحاب الأخدود وواقع اليوم، ولكن الناظر بنظرة متعمقة ودقيقة يجد في قصة أصحاب الأخدود كثير من علامات النصر والتمكين.

    فقد انتصرت عقيدة الإيمان والإسلام على عقيدة الكفر الضلال، فلم يغيروا عقيدتهم ولم يرتدوا عن دينهم رغم المغريات ورغم التعذيب الذي لاقوه؛ وفازوا بموت كريم، فكل الناس ستموت، ولكن الخاتمة تختلف، فهذا يموت وهو يعصى الله، وذلك يموت وهو يعيش في الباطل ويظلم، والفائز من يموت وهو يدافع عن الحق وأهله، وتلك والله هي الموتة الشريفة، حيث يعيش شريفا ويموت شهيدا ويفوز برضوان الله والجنة.

    وسينال الطغاة والظالمين عقابهم من الله في الدنيا والآخرة، كما حدث للملك [ذو نواس] صاحب قصة أصحاب الأخدود الذي مات غرقا في البحر بعد هزيمة جيشه، وكما حدث لفرعون وهامان وكل الطغاة المستبدين قديما وحديثا، ناهيك عما ينتظرهم في قبورهم ويوم القيامة من عذاب الله المنتقم الجبار، الذي لا يغفل ولا ينام، وصدق الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) ﴾ [ البروح]، ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ﴾ [ إبراهيم] ، ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) ﴾ [ الإسراء].

    والواجب على المسلمين في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها أمتنا الآن: أن نبدأ بتغير أنفسنا أولا، وذلك بتربية أنفسنا وأهلنا وأولادنا تربية إسلامية صحيحة مبنية على العقيدة السلمية والعبادة الصحيحة، والتخلق بأخلاق الإسلام وحسن المعاملة مع الناس، كما قال سبحانه:﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]؛ والتصدي للظالمين وأعوانهم وفضح فسادهم وإجرامهم ومقارعتهم الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، والتصدي لهم بكل الوسائل المشروعة، ففرعون لم يستفحل أمره وجبروته إلا عندما سكت عنه شعبه ، كما قال سبحانه: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) ﴾ [الزخرف]؛ وكذلك مناصرة إخواننا المستضعفين والمجاهدين بمعالجة الجرحى والمصابين وإيواء المشردين واللاجئين وتقديم كل ما يحتاجونه من أدوية ومستلزمات، ودعمهم ماديا وسياسيا ومعنويا؛ والدعاء بأن ينصر الله الحق وأهله، وأن ينتقم من الظالمين وأعوانهم أجمعين.

    وأخيرا: مهما طال الليل فلابد من بزوغ الفجر، ومهما طال الظلم فلا بد أن ينتصر الحق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

    وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

     

    أصحاب الأخدود اليمن سوريا الفتنة التعذيب الابتلاء

    مقالات