القادم على مصر وعلى منطقتنا العربية وعلى العالم الإسلاميّ.. شرٌّ هو أم خير؟ موت هو أم حياة؟ تغييرٌ وتثويرٌ ونهضة أم مزيدٌ من الانتكاس والارتكاس؟ ميلادُ فجر جديد وبزوغُ عهد رشيد أم إيغالٌ في ظلمة ليل سرمديّ لا يُعْرَف له آخر؟
أسئلة تنطلق مع طلقات الاحتفال بالعام الجديد، وتدوي في الآفاق المشحونة بالهواجس والوساوس، وتفرض نفسها بقوة الواقع على العقول والقلوب والمشاعر والضمائر، ويزيد من حرارتها ومرارتها افتقاد القدرة على إنتاج إجابة شافية وافية.
لذلك لا يوجد في هذه اللحظة التي تستعر فيها الحرب ويحتدم فيها الصراع بين مشاعر الأمل وهواتف اليأس حديث أهم من حديث الأمل واليأس، وبواعث الأمل ودوافع اليأس، لكن أخطر ما قد يصيب هذا الحديث هو افتقاد الموضوعية والانسياق مع العواطف والمشاعر سواء ما كان منها منحازاً إلى دعوات بعث الأمل وما كان منها منضمَّاً إلى حملات بث اليأس، فكلا الاتجاهين يخدر الجيل ويفقده النظرة الواقعية.
إنَّنا بحق نعيش حالة من الضياع غير مسبوقة، فلا قيادة ولا رؤية ولا وحدة ولا مشروع، شبابنا بين أسير وشهيد ومطارد، علماؤنا – إلا من رحم الله وقليل ما هم – تساقطوا في الفتنة كتساقط الفراش في وهج النار، حكامنا تحكموا في رقابنا، وتحكمت في رقابهم قبضة المحتل الغاصب الذي تبين لنا بيقين أنَّه لم يخرج بعد من بلادنا.
ومن ثمَّ فلا عُدَّة لدينا تقوى على إيقاف الاستبداد والظلم والقهر، ولا حيلة بأيدينا للخلاص من الأسر والفكاك من القيد، ولا طاقة ولا استطاعة للوقوف في وجه حملات الأسر والمطاردة والإبادة والتصفية، وصارت الحريات والحقوق أحلاماً واهنة وخيالات واجمة لا تعن للرائي إلا على حين غفلة من البصيرة بالواقع المرير، ولم يبق للشعوب ما تعوذ به من الفقر الذي يطاردها والقهر الذي يلاحقها إلا الاستسلام التام لليأس والإحباط والقنوط.
هذه هي صورة الواقع؛ مجردةً من الرؤية الثاقبة لما وراء هذا الواقع من معطيات و تدافعات، وسنن ونواميس، ودوائر من التعاطي أوسع، وآماد من التأثيرات أعمق، هذا هو الواقع الذي نراه ونحن أسرى الحدث، لا نرى ما وراءه إلا بقدر ما يرى الأسير مما وراء جدران زنزانته الضيقة المظلمة، ولو أننا تحررنا من أسر الحدث، وانطلقنا من عقاله، وحلقنا خارج صندوقه الضيق المظلم لتراءت لنا دوائر فلكية هائلة لا يمثل الحدث بالنسبة لها إلا بقدر ما تمثله رعشة في قشرة الأرض في زاوية من زواياها الصغيرة بالنسبة إلى حركة الأفلاك العظمى داخل مجرتنا العملاقة.
إنَّ أخطر ما نواجهه هو ذلك الخطاب الذي يتقزم ويتقبض ويتضاءل ويتصاغر ليحتبس بنا داخل هذه المرحلة الحرجة في تاريخ أمتنا وفي مسيرة جهادها؛ فلا نرى دورة الزمان إلا في تلك الفقرة التي تبدأ في الخامس والعشرين من يناير 2011م وتنتهي في الثالث من يوليه 2013م، كالطفل الصغير أو البدويّ الساذج الذي لا يرى من كون الله إلا في حدود ما ينتهي إليه طرفه.
ومن ثَمَّ نشأت ونمت في ثقافتنا مفردات ضئيلة بضآلة دائرة الإدراك للمشهد الكليّ، فالثورة هي الخامس والعشرين من يناير، والنظام الذي قامت عليه الثورة هو نظام مبارك، وقد سقط هذا النظام وقامت على أنقاضه دولة جديدة، هذه الدولة وقع عليها انقلاب أطاح بها، ونحن في حالة كسر هذا الانقلاب ودحره؛ لاستعادة المسار الديمقراطي، وكل هذه المفردات ما هي إلا تعبيرات ساذجة كالتي تعطى للأطفال لضعف إدراكهم وعدم قدرتهم على التعامل مع المدركات الكبيرة.
فالخامس والعشرون من يناير وما تلاه من ثورات في بقاع عربية شتى لم يكن سوى موجة من موجات الثورة التي بدأت مع بداية المقاومة العربية والإسلامية للاستعمار ومع بداية الصحوة الإسلامية المعاصرة، والتي لن تنتهي حتى تنال الأمَّة استقلالها وحريتها وتتخلص من ربقة الاحتلال، والنظام الذي قامت عليه موجة يناير ليس هو نظام مبارك؛ فلم يكن نظام مبارك استثناء في سلسلة من الحكم الرشيد، ولو كان كذلك لكانت موجة يناير كافية لغمر أطرافه وإغراقه كله في لجة الغضب الشعبيّ الهادر، وإنَّما الذي قامت عليه الثورة نظام قديم بقدم الغارة الصليبية الاستعمارية على العالم الإسلاميّ، عتيق بالقدر الذي يمكنه من مدّ جذوره في أعماق التربة ومدّ أذرعه الإخطابوتية في أنحاء الحياة، وليس صحيحاً الاعتقاد بأنَّ هذا النظام سقط، وأنَّنا حكمنا وصارت لنا دولة، وأنَّ ما وقع في الثالث من يوليه كان انقلاباً على دولة أقمناها وشيدناها، لكن الصحيح هو أن النظام لم يسقط، بل تحور وعدل أوضاعه، وأنَّ الموجة الثورية لم تقطع من الثعبان سوى ذيله، وأنّ الفترة التي حكمنا فيها لم تكن سوى إلهاء وإغراق، وأنَّ النظام العتيق استعاد مساره الطبيعيّ من جديد.
هذا القدر هو الحدّ الأدنى للإدراك الذي يمكننا من رؤية المشهد على وضعه الصحيح داخل الخريطة الكلية للأحداث التاريخية، ورؤية المشهد على هذا النحو تمكننا من وزن الأمور وزنا عادلاً لا يميل مع أي حركة من حركات التخدير والإسكار سواء ببعث آمال خيالية لا رصيد لها أو ببث اليأس لمجرد تقديرات للواقع قصيرة المدى.
ومن هذا المنطلق نقول إننا خسرنا جولة في الصراع، لكنَّنا لم نخسر المعركة كلها، ولم نخسر أنفسنا ولم نخسر قضيتنا العادلة، فلو أنَّنا تحت مطارق الفتنة تخلينا عن قضيتنا لخسرنا أنفسنا، ولو أنَّ قضيتنا تراجعت في معتقدنا وفهمنا أو في همتنا وعزمنا لخسرناها ولم نعد لائقين بها، ولو أنَّ شيئاً من ذلك وقع لخسرنا المعركة كلها، ولكنَّ شيئاً من ذلك لم يقع؛ لذلك فنحن في المعركة التي لم تنته بعد، وفي ميدان الصراع الذي لم يحسم إلى الآن، ولا زلنا باقين مستمسكين لم نستسلم، ولا زالت قضيتنا حيَّة فينا لم تذبل ولم تمت، وإذا كان البعض تحت رحى الفتنة قد وقع منه ما يشوش على هذه الصورة فإنَّ جيل الصحابة قد وجد فيهم من عاتبه القرآن عقب أُحُد بهذه الكلمات التي تفيض رأفة وحناناً وتقريباً برغم شدة وقعها: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).
ولو أنَّ الصحابة رضوان الله عليهم نظروا إلى أحد على أنَّه نهاية الدنيا لما نعم واحد منَّا بالإسلام اليوم، وإنَّ القرآن الكريم الذي تعهدهم بعد الوقعة بنفض الوهن ورفع الوعي لا يزال يهتف في الأجيال المسلمة: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).
إنَّ المعايير التي تقاس بها المغانم والمغارم في رحى الصراع أوسع بكثير من تلك المقاييس الآنية التي نقايس بها نتائج الأحداث القريبة، ونحن وإن كنَّا على مستوى الأحداث القريبة قد خسرنا الكثير، وإن كانت المؤاخذات على الاداء في جميع تجاربنا صارخة ومزعجة فإنَّ وراء ذلك معايير أخرى تعاير بها الأمور على وجه العموم، فدائرة الإسلام تتسع على حساب غيره، ودائرة الفاهمين لحقيقة “لا إله إلا الله” والعاملين لها تزداد على حساب غيرها، ودائرة المجاهدين الباذلين مهجهم لنصرة هذه القضية تزداد على حساب غيرها، والفكرة التي تعد مركزاً لكل هذه الدوائر التي تتسع يوما بعد يوم تزداد عمقا ورسوخا وجلاءً ووضوحاً، وفي المقابل كل المشاريع تتراجع – وإن ببطء نسبيّ – لصالح المشروع الإسلاميّ القادم، وجميع ما تتعلق به البشرية من خيوط النجاة والفلاح تذبل وتضمر وتتهتك.
إننا منذ ما يزيد على قرن من الزمان نعاني الميلاد الكبير والتحول الهائل، وهذا في عمر التحولات الحضارية ليس كبيراً، فكم استغرق التحول الهائل في أوربا من لدن الثورة الفكرية في المدن الإيطالية على يد الإنسانيين إلى أن استقر مع استقرار موجات الثورة الفرنسية؟
ولا تحسب النصر منحصراً في تحقيق المكاسب العسكرية الوقتية، ففي تاريخ الرسل انتصارات في صور شتى، وقد قرر الله تعالى القاعدة الدائمة: (إنَّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) ومع ذلك فكثير من الأنبياء لم يحققوا الصورة المعهودة للانتصار في حياتهم، بل إنَّ بعضهم قتل على يد أعداء دعوته، ولكن كان انتصارهم في صور أخرى لسنا – في مجموعنا- بأقل منهم في تحصيلها، فالثبات على المنهج رغم المحن نصر، والصبر على المحنة دون استسلام لها نصر، والاستمرار في المقاومة ورفع الراية رغم ضراوة الباطل نصر، ناهيك عن كشف الباطل وتعريته وعن كسب جولات في معركة الوعي وغير ذلك.
فلنكن على يقظة وروية ورشد؛ فلا نقع في براسن الأمل الزائف ولا في فخاخ اليأس القاتل، ولنكن في طريق دعوتنا وثورتنا ونضالنا وجهادنا بين البشارة والنذارة، بين البشائر والمحاذير، بين الوعد والوعيد، بين الخوف والرجاء؛ ولنصبر ولنحتسب، وليكن يقيننا في الله كبيراً، وإن غداً لناظره قريب، (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).