أولويات المرأة الغزاوية بين ويلات الدمار
الأستاذة إحسان الفقيه رابطة علماء أهل السنةقطعًا لم تكن المرأة الغزاوية قبل «طوفان الأقصى» في رغد من العيش مقارنة بغيرها من نساء الأرض، فقد عانت كغيرها من سكان القطاع كثيرًا من طول أمد الحصار، ونقص ضرورات المعيشة، وضعف البنى التحتية ومشكلات المرافق التي لا تنتهي، والعدوان «الإسرائيلي» الذي يداهم القطاع من حين لآخر ويخلّف القتلى والمنشآت المدمرة.
قبل «طوفان الأقصى»
وعلى الرغم من أشكال المعاناة التي عاشتها الغزاوية من قبل، فإنها كانت تضع في أولوياتها استكمال النواقص في حياتها، والوصول بحياتها المعيشية إلى مستوى مثيلاتها من النساء في الدول العربية على الأقل، فقد تطمح إلى بناء بيت جديد، أو الحصول على شهادة جامعية مرموقة، أو تعلّم إحدى المهن والمهارات لتجد لها موطئ قدم في عالم الوظائف والأعمال بقطاع بغزة الذي يعاني من نقص فرص العمل وانتشار البطالة، أو التركيز على تجاوز هذه المصاعب وتأمين حياة مستقبلية كريمة لأولادها بكل ما لديها من إمكانات.
وفي سبيل التغلب على مشاق الحياة في غزة، رفعت المرأة شعار محاربة الغلاء بالاستغناء، والتركيز على الضرورات وتخفيف الاتجاه إلى الكماليات، تقاسم الرجل أعباءه وهمومه لا تتركه لمواجهة الشدائد وحده.
بعد «طوفان الأقصى»
انطلقت عملية «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، لأخذ زمام المبادرة صوب قضية تحرير الأرض والمقدسات، واستباقاً لوضع الصهيونية لمساتها الأخيرة لتهويد المسجد الأقصى، وبعد اليأس من استجابة العالم للصرخات الفلسطينية.
ترتب على هذه العملية تخبط العدو الصهيوني والاتجاه لإلحاق الدمار الشامل بقطاع غزة، رغبة منه في تحقيق نصر صوري على إثر فشله في القضاء على المقاومة، واستهدافاً لتصفية القضية الفلسطينية بدفع أهل غزة لمغادرة القطاع.
وكان من الطبيعي في ظل القصف الوحشي الذي خلّف عشرات الآلاف من القتلى والجرحى وتدمير البنى التحتية في القطاع وتجويع أهله، أن تختلف الأولويات لدى المرأة الغزاوية التي ضربت مثلاً فريداً في الصمود والصبر تتغنى به الأجيال القادمة.
الاستعداد للرحيل
تجهز كل امرأة في غزة ممن بقين في بيوتهن الأوراق الثبوتية لها ولأسرتها وبعض الملابس والأشياء الخفيفة الضرورية، ووضعها قرب باب البيت، تحسبًا للرحيل المفاجئ حال حدوث قصف تضطر معه الأسرة للمغادرة.
وأما الرحيل الأكبر ومفارقة الحياة، فما من امرأة في غزة إلا وترتدي «الإسدال» في أي ساعة من ليل أو نهار، فهي التي ترى الموت يحصد أمامها القريب والبعيد، الصغير والكبير، فمن ثم قصر أملها في أن تعيش لساعة قادمة من قسوة وتتابع العدوان الوحشي، فهي تحب أن تلقى الله على هيئتها المحتشمة، لتعيش في ستر وتموت في ستر.
المرأة في غزة صارت أكثر تعلقاً بكتاب الله، وبذكر الله، بعد أن أدركت أنه لا يفصلها عن الحياة الآخرة سوى صاروخ قد يصيب مسكنها في أي لحظة ليلاً أو نهاراً.
غدت المرأة الغزاوية تجسيداً حيًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (صحيح البخاري، 6416)، فوعى ابن عمر النصيحة، ودندن حولها بقوله: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ».
جناح الأمان
انصرفت أولويات الغزاوية لأن تكون مصدر أمان لأبنائها الذين شابوا صغاراً من هول الحرب، تجمعهم حولها، وتظللهم بجناحيها وتبث في نفوسهم الأمان، هي تعلم يقيناً أنه لم يعد في قطاع غزة مكان آمن، لكنها بثباتها وصمودها أمام أطفالها، وبكتمانها أوجاع فقد الأحبة، وبإخفائها مخاوفها الفطرية من القصف الوحشي، تطمئن الصغار وتُعلِّقُهم بتلاوة القرآن والأذكار، وتُسلّيهم بأن الملتقى بالأحبة الجنة، وأنه عما قريب ستنتهي الحرب ومن جديد يشيدون الدار ويعودون من بعد النزوح إلى أماكنهم.
وضع عالم النفس النمساوي ماسلو احتياجات الإنسان على شكل هرم فيما عرف بهرم ماسلو، يرتب فيه هذه الاحتياجات وفقاً لأهميتها، تقع الحاجة إلى الأمان مباشرة خلف الحاجات البيولوجية المتعلقة بغريزة حب البقاء كالطعام والشراب، لكن العجيب هنا، كيف تمنح المرأة الغزاوية لأبنائها هذا الشعور بالأمان وهي تفتقده تمامًا!
صانعة الخبز
أولويات المرأة الغزاوية انصرفت إلى صراعها من أجل بقائها وأهلها وذويها، فبينما يقف الرجل في طابور طويل من أجل حفان من الطحين، تبني المرأة الغزاوية فرنًا من الطين وسط الأنقاض أو في مخيمات النزوح، تجمع له الحطب وقطع الأخشاب وتبذل جهداً مضنياً في إشعال وقوده والمحافظة على استمرار وهجه، ويدخل إلى صدرها الدخان الأسود الذي يكاد يكتم أنفاسها، كل ذلك لكي تنضج لعائلة قد تتخطى الأربعين أو الخمسين أرغفة من الخبز.
وفي ظل انعدام الدخل ونفاد البضائع من الأسواق، تقتصد المرأة الغزاوية في أي مواد أو مستلزمات، تحسباً لإطالة أمد الحرب.
تشير منظمة «كير» الدولية إلى أن بعض الأمهات في غزة لا يأكلن سوى مرة واحدة في اليوم، لأنهن يضعن أطفالهن وصحتهم في المقام الأول، في الوقت الذي يحذر برنامج الأغذية العالمي من ارتفاع حالات الجفاف وسوء التغذية.
معارك أنثى مع الحياة
من أولويات المرأة الغزاوية مواجهة صعوبة معيشتها كأنثى، فمعظم النساء قد نزحن إلى مخيمات الإيواء، وهنالك لا مجال للخصوصية، ففجأة تجد المرأة نفسها مع ثلاثين رجلاً وامرأة وطفلاً من العائلة في حجرة واحدة، فلك أن تتخيل كيف تكون معيشتها.
تواجه الغزاوية لوناً آخر من المعاناة يحتل مساحة شاسعة من تفكيرها واهتمامها، هي انعدام الفوط الصحية التي تستخدمها كل امرأة للحيض الشهري، من كان يتخيل أن تكون هذه أزمة تشغل أي امرأة في العالم؟!
لكنها باتت بالفعل أزمة كبيرة في حياة المرأة الغزاوية، وهي التي يبحث زوجها أو ولدها عن بعض قطرات من الماء بغرض الشرب، فماذا عن الحاجة إلى النظافة والاستحمام؟!
ووفقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن الحرب قد حرمت قرابة 700 ألف امرأة وفتاة فترة الحيض من الحصول على منتجات النظافة المتعلقة بالدورة الشهرية.
لذلك، انتشرت بينهن الأمراض المعدية، فبحسب بيان المركز الإعلامي الحكومي في غزة، فإن 355 ألف حالة بين 1.8 مليون نازح داخل مراكز النزوح تم توثيق إصاباتها بأمراض معدية.
حتى قضاء الحاجة، تكابد المرأة الغزاوية أوضاعاً بائسة بهذا الشأن، فهي تقف بالساعات في طابور طويل للحمامات، وبعضهن يدفعهن الحرج للامتناع يوماً أو يومين عن قضاء الحاجة حتى يُصبن بآلام مبرحة في البطن والكلى.
أم وأب
مئات من نساء غزة ترمّلن باستشهاد أزواجهن بالقصف المدمر، وصارت كل واحدة منهن هي الأب والأم معًا، وللقارئ أن يتخيل كيف لامرأة في ظل هذه الظروف الرهيبة من الخوف والجوع يموت عنها زوجها ويترك لها أهلاً وأطفالاً.
إن هذه المهمة عندما تقوم بها امرأة في وقت السلم والرخاء، يتناقل الجميع مناقبها وسيرتها وقوة بأسها، وتصير مثلاً سائراً بين الناس، فكيف ومن يقوم بها امرأة من غزة تعيش مثل هذا الوضع تحت وطأة الحرب المدمرة؟!
سيظل التاريخ فاغرًا فاه تعجبًا من شأن هذه المرأة الغزّاوية الصامدة الصابرة، فبمثلها تحيا الأمم، وتنهض الشعوب.