البُعْد الدينيّ للموقف الأمريكيّ الداعم للصهاينة
رابطة علماء أهل السنةلا ينقضي العجب من الموقف الأمريكيّ الداعم للكيان الصهيونيّ! لكنْ -وكما يقال- إذا عُرف السبب بطل العجب، فعلى الرغم من بروز الأسباب الأكثر ذكرًا في التحليلات السياسية، كأوراق الضغط التي يملكها اللوبي الصهيونيّ واليهوديّ داخل أروقة السياسة الأمريكية بما في ذلك الكونغرس والبيت الأبيض، ونَظْرَة الغرب الإمبرياليّ -ولا سيما أمريكا- إلى الكيان الصهيونيّ على أنّه خط الدفاع الأول عن المصالح الاستعمارية في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من ذلك توجد أسباب عميقة لا يمنعها الاجتهاد في التخفّي من الظهور والاستعلان من وقت لآخر، يأتي على رأسها البُعد الدينيّ، فلا تعجب إذا علمت أنّ علمانية أمريكا ليست سوى طلاء مُمَوَّه، تحته بناية إنجيلية صهيونية عريقة!
الموقف الآنيّ ودلالاته
والموقف الحاليّ متغير جذريًّا عن المواقف السابقة؛ بما يعني أنّ ما وراءه من العوامل ليس كتلك التي نعتاد تفسير المواقف في ضوئها، فالمعتاد أن تشجب أمريكا -ومعها الدول الغربية الإمبريالية- وتدين العدوان الإسرائيليّ، وإنْ جاءت المواقف على أرض الواقع على نقيض تصريحات الإدانة، بما في ذلك استخدام حقّ الفيتو ضد أيّ قرار لمجلس الأمن يصدر ضد إسرائيل، لكنّ الأمر اليوم مختلفٌ اختلافًا كليًّا، فالتوتر يسود المشهد، والتشنج لا ينجح أيُّ حِلْمٍ مصطنع في كبح جماحه، إلى حدّ أنّ رئيس أكبر دولة في العالم يخرج على الناس بكلام عار عن الصحة، لم يستطع البيت الأبيض نفسه أن يتجانف عن نفيه؛ ذلك لأنّ الأمر في “طوفان الأقصى” اختلف جذريًّا عن كل ما مضى من عمليات المقاومة؛ إلى حدّ أنّ العملية هذه التي جاءت على نحو مختلف وغير متوقع هدَّدتْ فكرة استمرار الكيان الصهيونيّ، ووضعت بِسِنِّ الرمح زوالَ إسرائيل على قائمة الاحتمالات، وألقت بجدوى اتفاقيات التطبيع في سلة المهملات؛ عندئذ انقلب المشهد فهربت الحكمة من صدور السياسيين وانفرط عِقْدُ الحلم المصطنع.
تحالف إنجيليّ توراتيّ
إنّ الأمر الذي لا يشغل بالنا برغم خطورته هو أنّ الصهيونية التي أقامت دولتها على أنقاض فلسطين العربية الإسلامية، والبروستانتية التي تدين بها بريطانيا التي أتت بالصهاينة وأمريكا التي خلفتها على رعاية الكيان الصهيونيّ، إنّ هاتين الديانتين تلتقيان في نقطة غائيَّةٍ واحدة، هي عودة المسيح ونزوله بالقدس، وعلى الرغم من اختلافهما في طبيعته وفي مبعثه فإنّهما تتفقان في الغاية وتصطلحان عليها، وكما يقول مترجم كتاب “النبوءة والسياسة”: “إنّ الإيمان بعودة المسيح وبأنّ هذه العودة مشروطة بقيام دولة صهيون وبالتالي بتجميع اليهود في أرض فلسطين لعب في الماضي ويلعب اليوم دورًا سياسيًّا… ذلك لأنّ منطق الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية معًا يقول: إن شريعة الله يجب أن تطبق على شعب الله، وإنّ شريعة الله تقول بمنح اليهود الأرض المقدسة في عهد مقطوع لإبراهيم وذريته حتى قيام الساعة”.
وليته تحالف طقوسيٌّ لاهوتيّ يخوض فيه القساوسةُ مع الحاخامات بأقدامهم رافعين رؤوسهم فوق هلوسته، ولكنّه تحالفٌ غرق فيه السياسيون وتَلَبَّطوا في لُجَجِهِ إلى الأذقان، ولا تعجب إذا علمتَ من تصريحات بعضهم أنّ سبعةً من زعماء أمريكا يعظمون النبوءات التوراتية أكثر من تعظيم حاخامات اليهود لها، فهذا كارتر “الديمقراطي” يقول أمام الكنيست: “لقد آمن سبعة رؤساء أمريكيين، وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة؛ لأنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، لقد شكَّلَ إسرائيلَ والولاياتِ المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون ونحن نتقاسم تراث التوراة”.
وهذا ريغان “الجمهوريّ” -حسبما نقله كتاب “البُعد الديني في السياسة الأمريكية”- يقول لمنظمة الإيباك: “حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلاقات المنبئة بهرمجدون أجد نفسي متسائلا عمّا إذا كنّا نحن الجيل الذي سيرى ذلك واقعًا، ولا أدري إذا كنت قد لاحظت مؤخرًا أيًّا من هذه النبوءات، لكن صدقني إنها قَطْعًا تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه”.
أرض الميعاد والبديل التوراتي
وطلائعُ المهاجرين الأوائل الذين أشادَ بهم كارتر ونَسَبَ إليهم صناعةَ العقل الأمريكي وعقيدة الشعب الأمريكيّ، هم الإنجيليون البروتستانت، ولاسيما البيوريتانيون الأكثر تطرفًا، وقد تحدث عنهم “فرانك لامبرت” وعمّا جرى بينهم وبين الآباء المؤسسين، ولاسيما توماس جفرسون الذي تولى صياغة الدستور الأمريكيّ، وكيف أنّهم بذلوا قصارى جهدهم لجعل أمريكا مملكة الربّ التي تحكم بشريعة التوراة، لكنّ القادة المؤسسين -وكانوا شديدي التأثر بفكر الأنوار- رفضوا ذلك وأصروا على أن يبقى دستور الدولة علمانيًّا يقف على مسافة واحدة من جميع المعتقدات.
فلمّا لم يظفروا بأرض الميعاد ومملكة الربّ في رحاب القارة الجديدة راحوا يفتشون في نصوص التوراة ويبعثون الأمل من ثنايا نبوءاتها، ولمّا لم ينجحوا في التأثير في الآباء الأوائل انثنوا إلى من وراءهم وإلى الحاضنة الشعبية التي تلد الزعماء والعظماء، فترسخ الفكر الإنجيليّ البيوريتاني في الإنغلوسكسون، ترسخ بمسحة إرهابية متطرفة، وقد حكت “غريس هالسل” عن تطرفهم أنّها وفي أثناء رحلتها إلى القدس مع أحد المنظرين لهرمجدون سألته: كيف أنّ الله الرحيم يأمرنا بتدمير العالم، فأجاب بِرَكَاكَةٍ: إنّ الله هو من علم الإنسان كيف يصنع القنبلة النووية؛ فهل أخذ الإنسان هذا العلم بغير إذن الله؟!
وعندما سُئِلَ البروفيسور (غوردون وَالْتِي) عالم الاجتماع: هل من الأخلاق إعطاء المال لإسرائيل لإبادة الفلسطينيين؛ أجاب: “إنّ الإنجيليين الأصوليين الذين يجمعون الأموال لتدمير المسجد يمارسون نفس العقيدة التي مارسها أجدادهم من قبل… وكما أنّ بعض المستوطنين المسيحيين وجدوا أنه من الصواب قتل الهنود الحمر فإنّ بعض المسيحيين يجدون الآن أنّه من الصواب تقديم المال إلى الصهاينة الذين يقتلون الفلسطينيين”!
ولقد انتشر هذا الفكر إلى حدّ أنّ تأثير الكنيسة المسيحية الأصولية في الرأي العام الأمريكي أدى إلى خلق صورة خيالية عن الصراع العربي الإسرائلي، أنه امتداد للصراع بين داود وجالوت، هكذا يجب أن نفهم توتر أمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا حتى ضد التظاهرات السلمية.