نشأة علم الحديث بالمغرب
الشيخ مفتاح لجهر رابطة علماء أهل السنةنشأة علم الحديث بالمغرب
توطئة..
مع بداية فتح الصحابة المغرب دخل سنة 27 هـ الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري إفريقية، وقد كانت ظلا واحدا من طرابلس الغرب إلى طنجة[1] قبل تأسيس مدينة القيروان، ودخلها الصحابي عقبة بن نافع الفهري سنة 50هـ، وشهد معه تأسيس القيروان، ثمانية عشر صحابيا، مكثوا خمس سنوات يحدثون الناس، ورجع عقبة مرة أخرى سنة 62 هـ، رفقة خمسة وعشرين صحابيا وقيل: أكثر من ذلك[2]، وعرف الفتح طريقه إلى المغرب الأقصى تلك السنة[3]، وكان آخر من دخلها من الصحابة سفيان بن وهب الخولاني سنة 78هـ، وأما التابعون فخلق لايحصون[4].
وأما الأندلس ففتحها طارق بن زياد سنة 92هـ[5] وتممه موسى بن نصير سنة 93هـ[6] ولم تحضَ من الصحابة بنصيب طرابلس وإفريقية والمغرب، ذلك أن فتحها تأخر إلى العقد الأخير من القرن الأول، ولم أجد أثرا إلا لصحابي واحد وهو المنيذر اليماني الأسلمي اتفقوا على سكناه بإفريقية واختلفوا في نزوله الأندلس[7] زيادة على أنه لم يروَ عنه إلا حديث واحد[8]، أما التابعون فقد ذكر ابن حبيب في تاريخه[9] أنه ما دخل من التابعون سوى عشرون رجلا.
علم الحديث في المغرب الإسلامي:
كانت بذور علم الحديث الأولى في عدوة المغرب الأقصى على يد التابعيِّ صعصعة بن سلَّام الدمشقي (92هـ) وكان أول من أدخل الحديث بها[10] وفتحت عينيها على فقه الأوزاعي[11] قبل انتشار مذهب مالك، وأما الأندلس فمعاوية بن صالح الحضرمي ( 158هـ) رَاوِيَةُ الشاميين[12] الذي دخلها سنة 123هـ، واقتصرت هذه الحقبة على التحديث وتدوين السماعات كصنيع خالد بن أبي عمران أبي عمر التونسي رحل سنة 94هـ تقريبا، إلى القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار، وألف ديوانا جمع فيه مروياته تناقله علماء إفريقيَّةَ ومحدثوها[13].
* وزياد بن أنعم الشعباني المعافري أبو عبد الرحمن (ت100هـ) مرضيٌّ عند جل المحدثين وثقه ابن حبان، دَوَّن سماعاته عن ابن عباس رضي الله عنه في رسالة[14] زعم ابن تَغْرِي في النجوم الزاهرة[15] أن بُهلول بن صالح التجيبي(ت233هـ) رواها عنه، والذي ترجح للباحث أنه لم يثبت له سماع عن زياد، لعله يقصد بهلول بن راشد (183هـ)، ومع هذا فابن راشد أيضا روى عن الابن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ولم يثبت أنه روى عن زياد نفسه[16]. فقد ولد سنة (128هـ) وبين ولادته ووفاة الأول قرابة ثلاثة عقود، إلا أن تكون هناك واسطة.
وفوق هذا كله فسماع ابن أنعم من ابن عباس فيه نظر كذلك، فلم يثبت له سماع إلا عن أبي أيوب الأنصاري وحده[17].
ثم حمل إلى الأندلس أعظم كتاب بعد كتاب الله وقتها وهو موطأ مالك، فكان أبو الحسن علي ابن زياد العبسي التونسي أول من أدخل الموطأ إلى إفريقية[18]، وأول من أدخله إلى الأندلس زياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون[19]، مما حذا بالإمام يحيى بن يحيى الليثي الطنجي[20] البربري إلى الرحلة صوب المدينة طلبا لعلو السند بعد أن سمعه من ابن شَبْطون، فروى عن الإمام موطأه خلا ثلاثة أبواب من آخر كتاب الاعتكاف وهي: "باب خروج المعتكف إلى العيد، وباب قضاء الاعتكاف، وباب النكاح في الاعتكاف" شك يحيى في سماعها من مالك فأبقى روايته لها عن زياد عن مالك[21] احتياطا، فذاعت روايته في المشرق والمغرب أكثر من غيرها، ولم ينس يحيى فضل شيخه فقال: "زياد أول من أدخل إلى الأندلس علم السنن"[22].
فصار بذلك أهل المغرب هم أصحاب أشهر رواية للموطإ وهي رواية يحيى بن يحيى الليثي، كما تفردوا أيضا برواية أبي محمد أحمد بن علي القلانسي، لصحيح مسلم، قال ابن الصلاح: "وقعت روايته عند أهل المغرب ولم أجد له ذكرا عند غيرهم"[23]، وقال القاضي عياض: "لم يصل إلى هذه البلاد كتاب مسلم إلا من طريقَي: القلانسي وابن سفيان"[24].
ومع تقدم العلوم ووفرة العلماء، لم يكتفِ أهل المغرب بتحصيل العلم المشرق وحسب، بل تفننوا في عرض دقائقه، وتدبيج رقائقه، ولم يستبح عالِمُهُم غمار التأليف حتى يصير كامل الألة، ناصع البيان، غريزيَّ الفصاحة، تباري رشاقة لفظه، رشاقة قلمه.
ولما كانوا يبالغون في التنقيح والتصحيح والتحرر والتحبير والتهذيب، تطورت إثر ذلك الملامح الحديثية، وانفتقت القريحة النقدية، حتى صارت لهم مدرستهم الحديثية الفريدة، وهذا ما سنقف عليه في مقالات قادمة بإذن الله.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] البيان المُغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب (1/63)، أبو العباس بن عذاري، تحقيق: بشار عواد وابنه محمود، ط1 دار الغرب الإسلامي، تونس، سنة 1434هـ.
[2] انظر طبقات علماء إفريقية(ص 73-78) أبو العرب، وانظر رياض النفوس(1/10) المالكي، وانظر معالم الإيمان في معرفة أهل قيروان(1/71) الدباغ،وانظر شجرة النور الزكية في طبقات المالكية (2/97-100) مخلوف. راجع تاريخ الحديث في تونس(ص19)د. هادي روشو.
[3] النهضة الحديثية المعاصر في المغرب الأقصى (ص23) عبد اللطيف الراحل، ط1:الأمة، سنة 1437هـ، جدة.
[4] تاريخ الحديث في تونس(ص22) د. هادي روشو.
[5] تاريخ علوم الحديث الشريف في المشرق والمغرب(567)، د. محمد المختار ولد ابّاه. منشورات المنظمة الإسلامية، إيسيسكو، سنة1431هـ.
[6] شذرات الذهب في أخبار من ذهب (1/362) لابن العماد، تحقيق: عبد القادر ومحمود أرناؤوط، ط1، دار ابن كثير، بيروت، سنة 1406هـ.
[7] التكملة لكتاب الصلة (2/203) لابن الأبار، تحقيق: عبد السلام الهراس، ط دار الفكر، لبنان، سنة 1415هـ، قال ابن حجر: " دخل الأندلس من الصحابة المنيذر الإفريقي ولم يتابع عبد الملك على ذلك فإنه لم يتجاوز إفريقية" الإصابة (6/227).
[8] الإصابة (6/227)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/468) ابن عبد البر.
[9] كتاب التاريخ (ص144) عبد الملك بن حبيب، تحقيق:عبد الغني مستو، ط المكتبة العصرية، بيروت، سنة 1429هـ.
[10] تاريخ دمشق(24/78) لابن عساكر، تحقيق: عمر بن غرامة، ط دار الفكر، بيروت، سنة 1415هـ.، الأعلام (3/204)، خير الدين للزركلي، ط15 دار العلم للملايين، بيروت، سنة 2002م.
[11] ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/26)، القاضي عياض، تحقيق محمد الطنجي، ط3 الأوقاف المغربية، سنة 1403هـ.
[12] تاريخ علوم الحديث الشريف في المشرق والمغرب(567)، د. محمد المختار ولد ابّاه
[13] تاريخ الحدبث في تونس (ص76).
[14] الأعلام(3/54) للزركلي.
[15] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (2/327)، ابن تَغْرِي بَرْدي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ. الأعلام(3/54) للزركلي.
[16] ترتيب المدارك (3/87) القاضي عياض. لسان الميزان(2/66) الذهبي.
[17] التاريخ الكبير(3/344) للبخاري، مجموعة محققين، ط دار الكتب العلمية، بيروت، الجرح والتعديل للرازي، ط1 الهندية، سنة 1371هـ، ميزان الاعتدال (2/87) شمس الدين الذهبي، تحقيق: علي البجاوي، ط دار المعرفة، بيروت، الإكمال (3/382)لابن ماكولا.
[18] الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب (1/524)، ابن ماكولا. مدرسة الحديث في الأندلس(1/94) د. مصطفى حميداتو، صلة المدرسة الحديثية بالشام بالمدرسة الحديثية بالمغرب (ص224) د. محمدعزوز، منشورات مجلة دار الحديث الحسينية.
[19] ترتيب المدارك (3/117) القاضي عياض ط الأوقاف المغربية. مدسة الحديث في الأندلس (1/94)د. مصطفى حميداتو، النهضة الحديثية المعاصرة في المغرب الأقصى (ص25).
[20] قال لسان الدين الخطيب في معيار الاختبار في ذكر المعاهد والديار (ص147): " إليها -أي طنجة- بالأندلس نسبة المغاربة".
[21] النهضة الحديثية المعاصرة في المغرب الأقصى (ص25).
[22]ترتيب المدارك (3/117) القاضي عياض ط الأوقاف المغربية.
[23] صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط ص(111) لابن الصلاح، تحقيق: موفق عبدالله عبدالقادر،ط2 دار الغرب الإسلامي، سنة 1408هـ، بيروت.
[24] الغنية فهرست شيوخ القاضي عياض(1/37)، للقاضي عياض، تحقيق: ماهر زهير جرار، ط1 دار الغرب الإسلامي، سنة1402هـ، بيروت.