الجمعة 27 ديسمبر 2024 01:04 صـ 24 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    فوضى الفتوى

    رابطة علماء أهل السنة

    فوضى الفتوى

    بقلم د. مجدي شلش
    أستاذ أصول الفقه المساعد بجامعة الأزهر الشريف

    المعلوم من ديننا أنه نظام شامل لكل نواحي الحياة، فهو عقيدة وخلق وعبادة ومعاملة وسياسة.

     القول على الله بغير علم من أكبر الجرائم، جعلها ابن القيم أعظم من الشرك بالله استدلالا بقوله تعالى: " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ".

    الآية في فقه ابن القيم رحمه الله جعلت رتب المحرمات أعلاها القول على الله بغير علم، وأدناها تحريم الفواحش، فالقول على الله بغير علم أفحش الأنواع؛ لأنه قد يؤدي إلى كل الجرائم المذكورة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال للذين افتوا بغير علم: " قتلوه قتلهم الله ".

    الفتوى أقرب معانيها الإخبار عن الله تعالي بحكم المسألة أو النازلة، ومن هنا تأتي خطورتها، فالإخبار عن مراد الزعماء والرؤساء له محاذيره وعقوباته إن كان على غير الحقيقة، والله أجل وأعظم.

    من هنا رسم العلماء للفتوى عموما شروطا وضوابط لابد من تحققها في المفتي، أهمها: أن يكون على دراية بالنص من حيث الثبوت والحجية والمرتبة والدلالة والمقصد، وتحت كل عنصر عشرات المسائل إن لم تكن المئات لابد من دراستها والتعمق في إدراكها حتى لا تقع الكارثة، وهي القول على الله بغير علم.

    الساحة العلمية الآن في نظري القاصر  ليس فيها من تحقق فيه مثل هذه الضوابط إلا القليل، في نظري وحسب اطلاعي لا يزيدون في جميع الأقطار العربية والإسلامية على أصابع اليدين والقدمين.

    الخلط بين الداعية والمفتي أدى إلى تصدر  بعض الدعاة بما لهم من جماهير عريضة على أنهم من أهل الفتوى، وقد صدق بعضهم نفسه، فأصبح يفتي في أجل المسائل وأعظمها دون علم لمجرد أنه أحسن الوعظ والإرشاد على ضرورته وأهميته.

    مجرد الدراسة الشرعية في بعض كليات الأزهر أو المعاهد الشرعية ليس كافيا أبدا للإخبار عن مراد الله في المسائل والنوازل، إنما درجة الإفتاء أكبر من ذلك بكثير، وأكبر مظاهرها هو تلقي العلوم الشرعية والمتخصصة في مجال الفتوي وعلى رأسها علم أصول الفقه.

    نعم يجوز نقل الأحكام الشرعية للناس بما سطره السادة العلماء من الحنفية أو المالكية أو الشافعية أو الحنابلة أو أي مجتهد آخر في مسائل الفروع المتعلقة بالعبادات والمعاملات، شرط الأمانة ودقة النقل، حتى ولو لم يصل الشخص إلى درجة الإفتاء بدون تعصب أو تحزب.

    أما النوازل والمستجدات والقضايا ذات الشأن العام فلها شأن آخر، تحتاج إلى اجتهاد المفتي المتضلع بعلوم الشرع والمتخصص بفرع العلم من سياسة أو اقتصاد أو اجتماع أو طب أو هندسة وغير ذلك، فعلم الجبر ألفه الخوارزمي لحل بعض مسائل الميراث.

    البداية  من عالم الشرع، يبين الحكم في النازلة من حيث المشروعية أو عدمها، فإن كانت مشروعة من حيث الأصل اجتهد وبين درجة المشروعية من وجوب أو ندب أو إباحة، وإن كانت الأخرى بينها أيضا هل هي على سبيل الحرمة أو الكراهة.

    ثم يأتي دور المتخصص في النازلة وينظر فيها من حيث التحليل وكيفية التطبيق الأمثل لهذا المشروعية، ومن يكون تكامل الفتوى، فالنظر في الفتوى ليس خاصا بعالم الشرع وحده إنما بجمع المتخصصين معه في طبيعة النازلة حتى يحصل التكامل المطلوب.

    نحن الآن نعيش عصر الفوضى في الفتوى، بعض الدعاة الذين لم تتحقق فيهم شروط الفتوي يفتون في كل صغيرة وكبيرة، ما يتعلق بالعقائد وعلي رأسها الولاء والبراء فيكفر هذا أو يفسقه أو يبدعه حسب رؤيته القاصرة المحدودة، وأخطار ذلك لا تخفي علي عاقل.

    حفظ القرآن وبعض الأحاديث والآثار وبعض مواقف التاريخ لا يشفع لهؤلاء بالفتوى، أو التكلم في المسائل التي تحتاج إلى نوع عناية ودراية بالنص فقها ودلالة ومقصدا.

    قضايا الأمة الكبرى والمتعلقة بصعودها والتحديات التي تواجهها الفتوى فيها ليست نزهة  أو شهوة من بعض الشباب أو الدعاة، وإنما قراءة ذلك والتعمق فيه للخروج من الأزمات ومواجهة التحديات تحتاج إلى مراكز متخصصة للفتوى ومجامع علمية كبرى.

    هذا دأب الصحابة الكرام كانوا يتهيبون من أمر الفتوى بداية، وإذا كانت متعلقة بأمر عام في السلم أو الحرب اجتمعوا لذلك وتشاورا فيه حتى يخرجوا برأي أقرب للصواب، فالأمة لاتجتمع على ضلالة باجتماع علمائها.

    عشرات المسائل من هذا النوع اجتمعوا لها أو حصل لها القبول من المجموع كجمع القرآن والزيادة على الحد في شرب المسكر، وقتل الجماعة بالواحد، والمسألة المشتركة في الميراث، وسهم المؤلفة قلوبهم، وتضمين الصناع هذا في شأن السلم، أما الحرب فأخطر من ذلك في تحري القبول من المجموع.

    الأمة الآن تواجه صعوبات كبرى وتحديات عظمي فتوي الفرد فيها مهما بلغ علمه تكون قاصرة، لتشابك المصالح والمفاسد في طبيعة المسائل المتعلقة بالشأن العام، فما يهم الأمة ينهض له علماء الأمة.

    سبقنا الغرب قديما في تنظيم العقل الجمعي للأمة، واجتماع علمائها على رأي في النوازل والمستجدات فتقدمنا وسدنا العالم، وسبقنا الغرب الآن بمراكز بحثه المتخصصة في صغائر الأمور وكبيرها، وعلى رأسها الشأن السياسي والاقتصادي فأصبحنا في ذيل الأمم.

    أبشع الجرائم التي ترتكب الآن تسيس المجامع العلمية لمصلحة الدولة الممولة فتخرج الفتوى غالبا قاصرة، وغير معبرة عن غايات الأمة وأهدافها، وهذا شكل من أشكال الفوضى في الفتوى.

    علماء الأمة كثر بحمد الله تعالى وفضله في كل التخصصات، فالبعد عن التسيس في تصوري يكون بالآتي: 

    إنشاء كيانات علمية متخصصة في كل مجال من العلماء الأحرار لدراسة ما يستجد من نوازل، كل بحسب تخصصه ومهمته، ثم إنشاء كيان جامع يمثل فيه كل التخصصات الشرعية والسياسية والاقتصادية وغيرها لوضع الرؤى العامة والاسترتيجيات الجامعة، وتكون المرجعية للفتوي والإلزام.

    بعض الدعاة وحدثاء الأسنان يتعصبون لآرائهم ووجهة نظرهم في كبري المسائل التي يجمع لها السادة من العلماء المتخصصين، لكن طاغوت الأنا، والزعامات التي أنشأها طبل الإعلام تأبى إلا رأيها أن يكون أولى بالاتباع.

    الثورات العربية والإسلامية الآن تحتاج لمشاركة أهل العلم والشأن في الإقدام أو الإحجام، وفقه القوة واستخدامها بعد العلم بمشروعتها أصبح من ضروري فقه النوازل والمستجدات.

    ما بعد نجاح الثورات هناك عشرات المسائل المتعلقة بشكل الدولة وفقه التعامل مع الجماعة الوطنية، وتحقيق التنمية والعدالة في أمتنا تحتاج إلى جهد كبير وعظيم من أهل الفكر والتنظير.

    فوضى الفتوى العلم الداعية الفقيه

    مقالات