الشورى في السياسة النبوية
الدكتور فهد بن صالح العجلان رابطة علماء أهل السنةعبد العزيز شخص كريم، شجاع، ذكي… لا يكشف لك مثل هذا الثناء عن حقيقة كرم عبد العزيز وشجاعته وذكائه، أما حين يصل الثناء عليه إلى أن يقال هو أشجع الناس وأذكاهم وأكرمهم فإنك سترسم في ذهنك صورة كبيرة من تفرد عبد العزيز في هذه الصفات، وأما حين تعرف أن من يفضلهم بهذه الصفات هم أهل تميز في هذه الصفات فإن تميزه حينئذ يكون قد بلغ الذروة.
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه فقط، بل كان أفضل الناس في إعمالها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “ما رأيتُ أحداً قطُّ كان أكثرَ مشورةً لأصحابِه من رسول الله” [1].
وهذا وصف كافٍ في إبراز مكانة الشورى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أكثر الناس مشورة، ومعرفة هذا ظاهرة لا تستند في الحقيقة إلى هذه الرواية فقط، فقد كانت الشورى حاضرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وسيرته، فكان يستشير عامة الصحابة في القضايا المهمة من سياسته.
فحين خرج يوم بدر لإدراك قافلة أبي سفيان ثم آل الأمر لمواجهة جمْعِ قريش، وقف النبي صلى الله عليه وسلم يستشير الصحابة ويقول: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد رضي الله عنهم، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «أشيروا علي أيها القوم»، فقال سعد بن معاذ: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟” قال: «أجل» [2].
ويلفت نظرك هنا هذا التعبير الجميل «أشيروا علي»، تجد فيه إقبال القائد على مشورة الناس وحثهم على إبداء آرائهم، وقد تكرر منه صلى الله عليه وسلم حث الناس بـ«أشيروا علي» في أكثر من موطن [3].
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بعزم مشركي قريش على غزو المدينة استشار أصحابه في الخروج إليهم أو التحصن في المدينة فاختلفوا بين رأيين، ثم أخذ برأي من يرى الخروج. قال البخاري: “شاور النبي أصحابه يوم أحد في المقام أو الخروج فرأوا الخروج، فلما لبس لأْمَتَه وعزم قالوا: أقم، فلم يمِل إليهم بعد العزم فقال: «لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله» [4].
كما استشارهم عليه الصلاة والسلام في غيرها من الغزوات. وفي بعض المواضع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص بالشورى فئة خاصة من أصحابه، كما في غزوة بدر حين استشار أبا بكر وعمر في شأن الأسرى، ففي صحيح مسلم -لما أسروا الأسارى- قال رسول الله لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر: “يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام”، فقال رسول الله: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قلت: “لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تُمَكّنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان [نسيبٍ لعمر] فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها” [5].
كما خص بالشورى السعدين (سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة) يوم الخندق، حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي قادة غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا ويتركوا الحصار: “فلمَّا أراد رسول الله أن يفعل، بعثَ إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه… فقال سعد بن معاذ: “يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرةً إلاَّ قِرًى أو بيعاً، أفحين أكرمَنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزَّنا بك وبه، نعطيهم أموالَنا؟! والله، لا نعطيهم إلا السيفَ حتى يحكم الله بيننا وبينهم”، قال رسول الله: «فأنت وذاك»، فتناول سعد بن معاذ الصحيفةَ فمحا ما فيها من الكتاب” [6].
ولظهور هذه الصفة في سياسة النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة يبادرون النبي صلى الله عليه وسلم بالرأي في ما يرونه أفضل ولو لم يطلب ذلك منهم، وكان يقبل ذلك ويأخذ به، فبادر سعد بن معاذ وأشار عليه ببناء العريش يوم بدر فقال: “ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله خيراً، ودعا له بخير. ثم بُني لرسول الله عريش، فكان فيه” [7].
وأشار الحباب بن المنذر عليه يوم بدر: “قال يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة». قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس، حتى نأتي أدنى ماء من القوم فتنزله، ثم نعوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله: «لقد أشرت بالرأي»” [8].
وفي صلح الحديبية لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا ويحلقوا، فلم يقم أحد: “دخل على أمِّ سلمة فذكر لها ما لَقِي من الناسِ، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ أُخرُج، لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا” [9].
ولم تكن شورى النبي صلى الله عليه وسلم متعلقة بالجانب السياسي فقط، بل كان يستشير في غيره، كما استشار علياً وأسامة بن زيد في حادثة الإفك، فــ”دعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد يسألهما وهو يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله، وأما علي فقال: لم يُضَيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. فقال: «هل رأيتِ من شيء يريبك؟» قالت: ما رأيت أمراً أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. فقام على المنبر فقال: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيراً»” [10].
الشورى في القرآن
ولمكانة الشورى وشرفها، فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالشورى فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ} [آل عمران من الآية:159].
وقد اختلفت أنظار العلماء في معنى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يستشير إلى تفسيرين:
التفسير الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم مستغنٍ بالوحي وبتدبير الله له عن شورى أي أحد، وفائدة الشورى عندهم تكمن في أحد قولين: الأول: تطييب خواطر أصحابه وإرضاء نفوسهم لما عُلم من أثر الشورى في ذلك. الثاني: إن الأمر بذلك لما في الشورى من شرف وفضل ودلالة على الأحسن من الأمور مع ما للرسول صلى الله عليه وسلم من رأي وعقل وتدبير.
التفسير الثاني: أنه ليقتدي به من بعده وتكون سنة للمؤمنين بأن تكون أمورهم قائمة على التشاور [11]. ولهذا نص كثير من الفقهاء على وجوب الشورى في حقه عليه الصلاة والسلام [12].
سمات الشورى في السياسة النبوية
يمكننا إذن أن نستخلص سمات الشورى في سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في الجوانب التالية:
- لم تكن الشورى قاصرة على الجانب السياسي، بل كانت الشورى حاضرة في غيره.
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير في كل حال بحسبه، فمرة يخص فئة من خاصة أصحابه، ومرة يوسع دائرة الشورى لعموم أصحابه.
- كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل شورى الناس وآراءهم ابتداءً، لاقتراح أمرٍ ما أو الاعتراض على فعل معين.
- كانت الشورى محصورة في جانب المباح من الأمور، وأما ما كان محرماً في الشريعة فليس ثَمّ شورى فيه، ولهذا أنكر على أسامة بن زيد رضي الله عنهما لما شفع في المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده، فقال له: «أتشفع في حدٍ من حدود الله؟» [13].
- لم يكن ثَمّ طريقة معينة محددة لإجراء الشورى، وإنما يبحث من خلالها عن الوصول إلى الرأي السديد.
بين الشورى والديمقراطية
لعل هذا أول سؤال يتبادر إلى القارئ وهو يقرأ مثل هذه المقالة، وليس هذا بغريب، فالشورى ارتبطت في وعينا المعاصر بالديمقراطية نظراً للحضور الكثيف للديمقراطية ومفاهيمها في زماننا المعاصر بما جعل المجيء بها ضرورياً في أي بحث في النظام السياسي، فمن يكتب في الشورى لا بد أن يأتي بالديمقراطية في سياق إثبات تميز الشورى. وبِغضّ النظر عن الموقف من الديمقراطية، فأصل مقارنة الشورى بالديمقراطية يوقعنا في إشكال منهجي ظاهر، وهو أن الشورى ليست نظاماً سياسياً حتى يقارن بالديمقراطية، فإبداء الفروق بين النظامين، وإبراز ما في نظام الشورى من مميزات، وما في الديمقراطية من عيوب، كما تسير عليه كثير من الأبحاث المعاصرة، هو أمر ينطلق من التسليم بكون الشورى نظاماً سياسياً،
وهذه مقدمة لا يُسَلّم بها، فالشورى في الحقيقة ليست كذلك، وكون النظام السياسي في الإسلام يعمل بالشورى لا يعني أن الشورى في الحكم الشرعي تعني نظاماً سياسياً. ولهذا فحقيقة المقارنة الصحيحة يجب أن تكون بين النظام السياسي في الإسلام، والنظام الديمقراطي، فتأتي المقارنة باستحضار الأصول والقواعد والفروع الشرعية المؤسِّسة للنظام السياسي في الإسلام ثم تقارن بالديمقراطية، لا أن تكون المقارنة مع الشورى.
فالشورى وردت في القرآن في ثلاثة مواضع: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى من الآية:38]، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران من الآية:159]، {فَإنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة من الآية:233]. فكما ترى، فواحد من هذه المواضع هو في العلاقة الزوجية، فالشورى لا تختص بالجانب السياسي المتعلق بعلاقة الإمام بالناس، بل تشمل حتى الجوانب الأسرية.
وأما قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} فهو متعلق بالشورى في مُهِمّات الأمة ومصالحها [14]، فظاهرٌ أنه في شأنٍ من شؤون الولاية. وقريب من ذلك قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى من الآية:38]، فأمورهم الكبيرة التي تهمهم تكون شورى، وهو قريب من الموضوعات المتعلقة بالولاية، ويمكن أن يدخل فيها ما ليس من شؤون الولاية فهو مما تشمله الآية.
فالشورى إذن عامة، تكون في: “الأمر المهم المشكل من شؤون المرء في نفسه أو شؤون القبيلة أو شؤون الأمة” [15].
فتحويل الشورى إلى جعلها نظاماً سياسياً فرض على بعض المعاصرين أن يضيف عليها أموراً ليست منها بالضرورة، وترتب عليه نتائج غير علمية سيأتي ذكر بعضها، بينما لو مُيز بوضوح بين الشورى كما جاءت في النصوص، وحدودها في الشرع، واستعمالها عند الفقهاء، وبين النظام السياسي وقواعده وأصوله، لاستقام الأمر.
الشورى بين الوجوب والندب، والإعلام والإلزام
ارتباط الشورى بالنظام السياسي المكتمل أوقع بعض المعاصرين في إشكالٍ ظاهر مع بعض الأحكام المتعلقة بالشورى، يأتي في مقدمها: مبحث حكم الشورى وهل هي واجبة أم مندوبة؟ وهو من المسائل التي حظيت بعناية واسعة جداً في البحث المعاصر، وحتى يستقيم بناء النظام السياسي المعاصر على الشورى فلا بد أن تكون الشورى واجبة.
وهنا سنقع في مشكلة عميقة مع البحث الفقهي المتعلق بالمسألة، حيث إننا نجد أن جمهور الفقهاء يرون أن شورى الحاكم -المتعلقة بتسيير أمور الحكم- مندوبة وليست واجبة.
ومن هذه الإشكالية سندخل إلى إشكالية أخرى، وهي عن نتيجة الشورى وهل هي ملزمة أم معلمة؟ وبطبيعة الحال: إنك حين تريد تأسيس نظامٍ سياسي على مفهوم الشورى فلا بد أن تقول إن نتيجتها ملزمة، وإلا فكيف يقوم نظام سياسي على قاعدة غير ملزمة؟ لكن هذه الغاية ستواجه بأن التقرير الفقهي لا يخدم هذه النتيجة.
هذه الطريقة في البحث تسببت في وقوع عدة إشكالات: شعور نفسي بأن موقف هؤلاء الفقهاء أصبح عائقاً أمام قيام نظام سياسي شوري عادل يحفظ الحقوق ويمنع المظالم، فأول عقبة تجب إزاحتها -كما يشيعه الكثير- هي تصحيح المشكلة الفقهية. وربما تجاوز بعضهم هذا الشعور إلى اتهام صريح للفقهاء بأنهم كانوا سبباً لما حل من مفاسد ومظالم في التاريخ الإسلامي نظراً لأنهم كانوا يقررون استحباب الشورى لا وجوبها، وبكونها معلمة لا ملزمة.