الخميس 26 ديسمبر 2024 02:12 مـ 24 جمادى آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    بحوث ودراسات الدعوة

    منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير بجانبيه التربوي والدعوي

    د.السيد محمد نوح
    د.السيد محمد نوح

    بسم الله الرحمن الرحيم

    بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، والسالكين سبيله، والداعين بدعوته إلى يوم الدين.

    وبعد:     

    فإن من يمعن النظر في واقعنا ـ نحن المسلمين ـ اليوم، يجد أننا نحوز كثيرًا من عناصر ومقومات التقدم والنهوض والرقي والإمامة والقيادة:

    *حسبنا أن لدينا وفرة في العدد البشري، إذ عدد المسلمين على مستوى العالم كله ـ كما دلت الإحصاءات القريبة ـ يقارب ألف مليون نسمة، وعدد العالم كله يصل إلى خمسة آلاف مليون نسمة، وهذا يعني أن بين كل خمسة من البشر يعيش مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا فضلاً عن النمو البشري بين المسلمين الذي يتزايد باستمرار، إذ بعملية إحصائية بسيطة عن الزيادة السكانية في مصر وحدها، ظهر أن هذا البلد ـ كما يقول باول شمتز ـ سيصبح في مدى 968 سنة ـ أى أقل من ألف عام بقليل ـ أمة تعدادها 973 مليارًا من البشر، أي أنها سوف تنمو بشريًّا إلى درجة لا تمكنها من استعمار الكرة الأرضية، بل من استعمار أعداد من الكواكب السيارة الأخرى([1]).

    *وحسبنا أننا نقطن منطقة الشرق الإسلامي، وهي منطقة ذات موقع جغرافي ممتاز، نتحكم في طرق المواصلات العالمية، البحرية والبرية والجوية، ونتحكم كذلك في الأسعار عن طريق رسوم المرور والجمارك.

    *وحسبنا أن لدينا من الثروات والمواد الخام اللازمة للصناعة والإنتاج ما نستطيع به بناء قوة صناعية تضارع أرقى الصناعات العالمية إن لم تَفُقْها؛ إذ لدينا النفط (البترول) والحديد والمنجنيز، والذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، والقطن طويل التيلة، والفحم، والكبريت، وغير ذلك من المواد الخام، وهي جميعها مما تعتمد عليه الصناعة والإنتاج في الكتلتين الشرقية والغربية.

    *وحسبنا أن لدينا منهاجًا شاملاً للحياتين جميعًا الدنيا، والآخرة، ومعصومًا من أي تحريف أو تبديل، إنه كتاب الله عز وجل، وسنة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهما يعالجان أمر

    الدنيا والآخرة، ومعصومان بعصمة الله لهما، إذ يقول سبحانه عن هذا الكتاب: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...) [سورة الإسراء: 9].

    (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [سورة فصلت: 42،41].

    (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة الحجر: 9].

    ويقول عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [سورة المائدة: 76]. (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [سورة النجم:4،3]، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة المائدة: 16،15]، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [سورة الشورى:  52، 53].

    وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد كان يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد حفظه فنهته قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر يتكلم في الرضا والغضب؟ فأمسك عن الكتابة، وذكر ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأومأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى فِيهِ، أي أشار إلى فمه، فقال: "اكتب، فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق"([2]).

    نحوز نحن المسلمين اليوم كل هذه العناصر، وتلك المقومات، ومع ذلك فنحن نعاني من كثير من العلل والأمراض: من الفقر والجوع، من الجهل والمرض، من الخوف والقلق، من الكبت والقهر، وعلل وأمراض أخرى كثيرة، لا حصر لها ولا نهاية، بيد أن أبرز هذه العلل، وتلك الأمراض إنما يتمثل في:

    *الخراب الذي خَيَّم على الشخصية المسلمة من كل النواحي الفكرية، والروحية، والبدنية والسلوكية، حتى باتت تعاني من الجبن والضعف والخور، ومن الشح والبخل، ومن الأثرة والأنانية، من الفوضى والهمجية... وهلم جرًّا، أو على الأقل الخلل الذي أصاب بنيان هذه الشخصية، حيث صارت تبرز في جانب على حساب الجوانب الأخرى، فكانت العزلة والتصفية الروحية على حساب العقل والبدن، أو كانت القوة البدنية على حساب الروح والعقل، أو كان الترف الفكري على حساب الروح والبدن، وهذا بدوره أدى إلى قعود هذه الشخصية عن أداء دورها وواجبها على ظهر هذه الأرض، أو حملها على الأداء، ولكنه أداء هزيل ضعيف، لا يُسْمِن ولا يغني من جوع، فصارت تعتمد على عدوها في طعامها وكسائها، وقد قيل: (الأمة التي لا تزرع ما تأكل، ولا تصنع ما تلبس، أمة محكوم عليها بالموت).

    *كما أدَّى إلى الفرقة والتمزق على كل المستويات الداخلية والخارجية، الحكومية والشعبية، وتلك هي العلة الثانية أو المرض الثاني الذي يعد من أبرز ما أصاب أمتنا من علل وأمراض، وحسبنا أن مسلمًا يعيش إلى جنب أخيه المسلم في بناية واحدة، فلا يطرق بابه ولا يعرفه إلا يوم وفاته، وتشييعه إلى مثواه الأخير، إن ذلك أدى إلى وقوع بلادنا في قبضة العدو الغاصب، وتحكمه في أعناقنا ورقابنا.

    * كما أدى إلى تعطيل شرع الله في الأرض، بإصرار وعن قصد، فصار المسلمون ـ بعد ثلاثة عشر قرنًا من الزمان ـ يحكمون بغير القرآن، وبغير هدى محمد، صلى الله عليه وسلم، وشاعت فيهم البدع والخرافات، وعَمَّهم الجهل والفوضى والعمى.

    ولعمري إن ذلك لمن أشد هذه العلل وتلك الآفات خطرًا، وأعظمها ضررًا، إذ لم يجرؤ واحد من الناس طوال هذه الفترة الزمنية الطويلة التي حكم فيها القرآن، وطَبَّق فيها هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حاكمًا ولا محكومًا، أن يتطاول على هذا المنهج حتى التَّتَر أنفسهم الذين كانوا يهزمون الناس بسمعتهم، والذين فعلوا بالمسلمين في بغداد وغيرها الأفاعيل، لم يُمَكَّنُوا من ذلك.. لقد أظهروا كتابًا لهم يسمى "الياسق أو الياسا"([3])، يُحِلُّون فيه الحرام، ويُحَرِّمون الحلال، فلم يقبل المسلمون ذلك منهم، وجاهدوهم حتى ألجاوهم إلى الدخول في الإسلام، ونبذ هذا الكتاب، والتحاكم إلى القرآن وهدي النبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم([4]).

    أما اليوم.. فقد عُطِّلَ شرع الله في الأرض بإصرار وعن قصد، وعلى مرأى ومسمع مِنَّا، وسكتنا عن ذلك، حتى صارت هذه البدعة، ألا وهي تعطيل شرع الله في الأرض واقعًا مفروضًا، وبذلك عرَّضنا أنفسنا لغضب الله وسخطه في الدنيا والآخرة.

    ثم كان الداء الرابع، وهو تبلد الحس، وموت العاطفة، والغفلة التامة عن كل ما نزل بنا من علل وأمراض، وهذه أشد وأنكى؛ لأنها إن دامت، فسيكون العذاب الأليم في الدنيا، والنار في الآخرة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى). [سورة طه 124 ـ 127].

    ذلك أن الواقع ينطق بأن في الناس من يصيبه مرض عضال لكنه يشعر به مبكرًا، فيسعى إلى نِطاسِيّ (طبيب) بارع ماهر، فسرعان ما يشخص له الداء، ويكتب الدواء، ثم يأخذ في تعاطي العلاج، ويصبر على مرارته زمانًا، فإذا العافية تدبُّ في أوصاله شيئًا فشيئًا، حتى يصير سليمًا معافى، بينما يكون هناك آخر به مرض يسير، ثم هو لا يشعر به، ولكن يلازمه الإهمال، ويسيطر عليه داء الاستهانة والاستهتار، ويظل هكذا حتى يستفحل الداء، ويستعصي العلاج، ويكون الموت.

    هذا هو واقع أمتنا، تملك الكثير، ولكنها لا تنتفع بما تملك، فصارت كأنها لا تملك شيئًا أبدًا، لا بد إذن من العمل، والعمل الدائب المستمر، حتى تنقشع هذه الظلمة، وتزول تلك الغمة، ونعود إلى ما أراده الله لنا ومنا، يوم أن أخرجنا إلى الناس، لقد أراد منا أن نكون شهداء على الناس: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [سورة البقرة: 134]. (.... هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...) [سورة الحج:78].

    إننا إذا حققنا هذا المراد كنا كما قال الله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران:110]. وظفرنا بالحياة الطيبة في الدنيا، والفوز والنجاة غدًا يوم نرد إلى الله مولانا الحق، الذي له الحكم وهو أسرع الحاسبين: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النحل:97]. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) [سورة الأنبياء: 94]، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...) [سورة النور:55].

    أجل.. لو حققنا مراد ربنا لكنا خير أمة، ولظفرنا بعز الدنيا وسعادة الآخرة، بل لحفظنا على البشرية التائهة الجاحدة من حولنا حقَّ الحياة، وحينئذٍ تنقشع هذه الظلمة، وتزول تلك الغمة، وتفسح الطريق أمام الناس، فيَهْلِك مَنْ هَلَكَ عن بَيِّنَة، ويحيا من حيَّ عن بَيِّنَة.. ولا سبيل لذلك كله إلا بالتغيير الذي يبدأ من داخل النفس؛ إذ بصلاحها يصلح الإنسان وتسعد الحياة، وبفسادها يفسد الإنسان وتشقى الحياة، يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [سورة الرعد:11]، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [سورة الأعلى: 14-15]، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [سورة الشمس: 9-10]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "... ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"([5]).

    لا شك أن النجاح في هذا التغيير يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمور كثيرة، وعوامل عدة، من بينها أن يكون قائمًا على المشروع المسنون، دونما إحداث أو ابتداع، إذ يقول سبحانه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...) [سورة آل عمران:31]. (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [سورة الأنعام: 153]. ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ"([6])، وفي رواية: "مَنْ عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ"([7]).

    من هذا المنطلق كانت هذه الدراسة تحت عنوان:

    منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير بجانبيه التربوي والدعوي

    وحتى يصبح لدينا تصور واضح، أو قريب من الواضج عن أبعاد ومعالم هذا الموضوع، فإننا سنتناوله ـ بحمد الله تعالى ـ في الفصول التالية.

    والله من وراء القصد.

    أبو عمير

    د/ السيد محمد السيد نوح

    التربية الدعوة منهج الإسلام السيد محمد نوح

    بحوث ودراسات