قوانين الأسرة في القرآن (4) .. الحافظيّة
الأستاذ الدكتور جمال عبد الستار - الأستاذ بجامعة الأزهر والأمين العام لرابطة علماء أهل السنة رابطة علماء أهل السنةإذا كان الرجل قد اصطفاه الله ليكون ربان سفينة الأسرة، يقودها بحكمة ومسؤولية، ويجتهد في صونها بالعناية والحماية والإنفاق، ليعبر بها أمواج الحياة المتلاطمة، متجاوزًا العواصف ومتخطّيًا العقبات، حتى ترسو بأمان على شاطئ الطمأنينة والاستقرار، فإن المرأة لم تكن في قوانين الأسرة هامشًا لا معنى له، ولا كيانًا مُهمَلًا بلا دور، ولا هي في صراع متنازع على قيادة هذه السفينة.
بل هي روح السفينة وقلبها النابض، وواحة السكينة التي تظلل رحلتها، شريكة في البناء، مكلّفة بميدان لا يستقيم إلا بها، ولا يليق إلا لها، ميدانٌ لا يقل شأنًا عن القوامة، بل يكمله ويعضده، لتتكامل الأدوار، وتتحقق السعادة، وفق ناموس الله الحكيم
بل إن الله، الذي أبدع خلقها من العدم، وأحسن صورتها، وكرّمها بنعمة الوجود، لم يتركها بلا رسالة، ولم يجعل دورها هامشًا في مسيرة الحياة، بل أودع فيها سرًّا لا يستقيم بدونه بيت، ولا تزدهر من دونه أسرة، ولا تستقر حياة.
لقد كلفها الله بمحراب الحافظية، ذلك الميدان العظيم الذي اصطفاها له، وجعل منه تكليفًا ساميًا يليق بعطائها، ويمتزج بفطرتها، فهو ميدان عبادة، ومحراب تنسك، ومضمار سباق، وساحة طاعة، تتنافس فيه المرأة الصالحة مع بنات جنسها، لا لمجد زائل، ولا لهدف دنيوي، بل لتفوز برضوان ربها، وتبلغ بذلك أسمى مراتب النجاح
فهذه الحافظية ليست تكليفًا ثقيلًا، بل وسام شرف وميثاق أمان، تحمل المرأة أمانته بحب وإيمان، فتحفظ نفسها وزوجها وبيتها، ليبقى المجتمع نقيًا من الانحراف، مصونًا من التصدع، متماسكًا أمام رياح الفتن.
وللحافظية ميادين خمسة، تتجلى فيها عظمة المسؤولية التي حملتها المرأة، فليست وظيفتها هامشية ولا دورها ثانويًا، بل هي ركن أساس في بناء الأسرة وصلاح المجتمع.
أولاً: حافظية النفس
إنَّ أول ما يُناط بالمرأة في ميدان الحافظية هو حفظ نفسها، وهو حفظ لا يقف عند حدود الجسد، بل يتجاوزها إلى الروح والفكر والقلب، إذ لا يتحقق لها الفلاح إلا بمراقبة الله تعالى في السر والعلن، وتهذيب ذاتها بالتحصين الإيماني والفكري والأخلاقي، حتى تكون أمةً لله بحق، صالحةً للاستخدام في ميادين الفتح والرشاد، قال تعالى : ( قد أفلح من زكاها).الشمس.:
وهذا الميدان، وإن كان مشتركًا بين المرأة والرجل، إلا أنه يتطلب منها جهدًا خاصًا واحترازًا شديدًا، نظرًا للمخاطر التي تتعرض لها بسبب طبيعة تكوينها النفسي والعاطفي، وما قد يحيط بها من تحديات تمس دينها وكرامتها واستقامتها. ولهذا، خاطب النبي ﷺ النساء مباشرة، محذرًا إياهن من مزالق الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم: يامعشر النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ. متفق عليه.:
وهذا التحذير النبوي ليس إدانةً أو تقليلًا من شأنها، وإنما هو دافعٌ للمسارعة في الطاعات، ومجاهدة النفس على الاستقامة، وبذل الوسع في طلب النجاة..
فلا عذر لها، إن أرادت رضا الله، أن تتهاون في حفظ نفسها، سواء بالانسياق وراء الشبهات التي تملأ الآفاق، أو بالاستسلام للشهوات التي تحاصرها من كل اتجاه، فحافظية النفس مفتاح الفلاح، ومدخل النجاة وباب الرضوان الأوسع..
ثانيا: حافظية الزوج
إن لم تكن المرأة مكلفة بالقوامة، إلا أن ميدان الحافظية لزوجها يعد من أعظم محاريب التكليف وميادين الاستعمال، فهو ميدان عظيم، وواجب جليل، لا يستقيم بيت إلا به، ولا تنعم أسرة إلا بتحققه. ومن أبرز مهام الزوجة في الحافظية الزوجية مايلي:
١ـ حفظ زوجها
المرأة الصالحة ليست مجرد ركن ثابت في البيت، بل هي حصن متين لزوجها، تقيه الفتن، وتملأ قلبه استقرارًا، وتُضيء روحه حبًا، حتى يكون بيتها موطنًا للسكينة، وسببًا لطاعة الله، وبابًا للفوز بجناته فهو باب اختبارها، وميدان جزائها، بل هو جنتها ونارها، كما قال النبي ﷺ مخاطبًا عمة حصين بن محصن:
أَيُّ هَذِهِ! أَذَاتُ بَعْلٍ؟" فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "كَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟" قُلْتُ: مَا آلُوهُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ، قَالَ: "فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ" (رواه أحمد
الحفظ يبدأ بالتحصين، فلا يكفي أن تحافظ المرأة على بيتها، إنما عليها أن تحصّن زوجها نفسيًا وعاطفيًا وجسديًا، حتى تعينه على إغلاق نوافذ الفتنة التي تتربص به في كل طريق، وتسعى لإسقاطه في حبائل المعصية. وقد قال النبي ﷺ محذرًا له ولك: ما تركت بعدي أضر على الرجال من النساء. متفق عليه
٢ـ التحصين العاطفي والجسدي
التحصين العاطفي والجسدي للزوج ليس مجرد واجب اجتماعي، بل هو تكليف شرعي ومحراب تعبدي، تحفظ به المرأة نقاء بيتها، واستقامة أسرتها، وطمأنينة زوجها. فإن امتنعت عن أداء هذا الواجب بغير عذر شرعي، فقد عرّضت نفسها لسخط الله، كما جاء في تحذير النبي ﷺ
"إِذَا دَعا الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ" (متفق عليه).
وبعض النساء يُهمِلن هذا الجانب الخطير، فيكن سببًا في فتح باب الفتنة على أزواجهن، بدلًا من أن يكنَّ حصنًا لهم وسندًا لاستقامتهم، فتتحول الزوجة من وسيلة تحصين وصلاح، إلى سببٍ في انحراف زوجها ووقوعه في المعصية.
إن حافظية الزوج تسبق مهام كثيرة قد تنشغل بها الزوجة، وربما تتجاهل أولويات تكليفها الشرعي، مما يؤدي إلى خلل في بنيان الأسرة، واضطراب في علاقتها بزوجها، وضعف ارتباطه بدينه وبيته.
٣ـ حفظ العرض
إن حافظية المرأة تمتد لتشمل عرضها، ومال زوجها، وأولادها، فليست الأمانة في الحياة الزوجية محصورةً في المودة والرحمة فقط، بل هي عقد مسؤولية يُلزم المرأة بحفظ أسرار بيتها، وصون كرامته، وحماية أركانه. وقد أكد النبي ﷺ ذلك في خطبة الوداع بقوله: أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقٌّ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ. رواه الترمذي .
٤ـ حفظ الأسرار والمال
ومن أوسع ميادين التكليف للمرأة حفظ أسرار زوجها، فلا تفشيها، فتلك خيانة للأمانة، إذ لا يُؤتمن البيت إذا تسربت أسراره، ولا يستقيم الزواج إذا غابت الثقة بين الزوجين. كما أن حفظ مال الزوج من صور الحافظية العظيمة، فلا يجوز لها أن تتسلط عليه، أو تهدره، أو تتصرف فيه بغير علمه أو بغير حق، فهي راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن استقرار معيشتهما. قال النبي ﷺ : وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِه. متفق عليه.
واخيراً أقول:
لَيْسَتْ مَهَمَّةُ الْمَرْأَةِ أَنْ تُنَافِسَ الرَّجُلَ فِي دَوْرِهِ؛ بَلْ أَنْ تُؤَدِّيَ دَوْرَهَا بِإِتْقَانٍ وَاعْتِزَازٍ، فَتَنْبَثِقَ مِنْ سَكِينَتِهَا نُورًا يُضِيءُ الدَّارَ، وَيَمُدُّ الْأُسْرَةَ بِالْقُوَّةِ وَالْإِيمَانِ.
الْحَافِظِيَّةُ لَيْسَتْ حَبْسًا لِلْمَرْأَةِ، بَلْ حِفْظٌ لِكَرَامَتِهَا وَرِعَايَةٌ لِأَمَانَةٍ اسْتُودِعَتْ عَلَيْهَا، فَهِيَ سَارِيَةُ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وبالطبع
وهناك بالطبع مجالات أخرى للحافظية نستكملها في مقال أخر بإذن الله تعالى.