الجمعة 22 نوفمبر 2024 04:10 مـ 20 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    لماذا يختلف المسلمون في تحديد أعيادهم الدينية؟ (1)

    رابطة علماء أهل السنة

    كلما ظننا أننا تجاوزنا الاختلاف والافتراق في عيدي الفطر والأضحى عُدنا إليه مرة أخرى كالذي حدث في عيد الفطر المبارك لهذا العام 1444 للهجرة، وأكثر من تأذي وتضرر بسببه هم المسلمون في ليبيا وأستراليا؛ حيث وصل الانقسام إلى الأسرة الواحدة، والحي الواحد، والمسجد الواحد، ثم الخلاف بين الدول المتجاورة كمصر وليبيا حيث عيَّدت الأولى الجمعة والثانية السبت رغم القرب والجوار، ثم الخلاف بين البلدان العربية التي يُفترض ألا يقع بينها خلاف كالمغرب وعمان اللذين عيدا السبت بالمخالفة لبقية الدول العربية التي بدأت عيدها الجمعة، وفي العراق انقسام بين مرجعيات السنة والشيعة كذلك.

    والخلاف بشأن الهلال ومعرفة بداية الأشهر الهجرية قديم جديد، وقد عُقدت لأجله المؤتمرات والندوات، وصدرت بشأنه القرارات والبيانات؛ فلماذا يستمر الاختلاف بشأن بداية رمضان والعيد؟ وهل الإشكال فقهي أم فلكي؟ وهل هناك أمل في القضاء على هذا الاختلاف أم علينا أن نتكيف معه ولا حرج أن تختلف الدول والأقطار في أعيادها الدينية؟

    يعود سبب الاختلاف وجوهر الإشكال إلى مرتكزات ثلاثة: الأول فقهي؛ وهو هل نأخذ بوحدة أم اختلاف المطالع؟ والثاني فقهي فلكي؛ هل نأخذ بالحسابات الفلكية أم الرؤية البصرية؟ والثالث سلطاني سياسي.

    حديثا، قررت جميع المجامع الفقهية المعاصرة القول بوحدة المطالع، ولم تنظر إلى اختلافها، ولم يخالفها سوى المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي الذي ذهب إلى القول باختلاف المطالع

    وحدة المطالع أم اختلافها؟

    وحدة المطالع (تعني إذا ثبت الهلال في بلد لزم البلدان الأخرى الصوم أو الفطر) أم اختلاف المطالع (يعني أن لكل بلد رؤيته ويمكن أن يخالف البلد الآخر وإن اقترب منه). ووحدة المطالع هو قول جمهور الفقهاء كما نقل النووي عن ابن المنذر أن القول بوحدة المطالع وعدم اعتبار اختلافها هو قول الأئمة الأربعة، والليث بن سعد وأكثر الفقهاء، وهو اختيار ابن تيمية والشوكاني، وخالف الجمهور في القول بوحدة المطالع فقال باختلافها الشافعية في وجه، والقرافي، وابن عابدين، ومن وافقهم، واستدل الجمهور بعموم الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"؛ فقد أوجب الحديث الصوم بمطلق الرؤية لجميع المسلمين من دون تقييدها بمكان، وأجابوا عن حديث كُريب بأنه من اجتهاد ابن عباس الموقوف عليه، وليس من المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا حجة فيه على اختلاف المطالع.

    أما حديثا، فقد قررت جميع المجامع الفقهية المعاصرة القول بوحدة المطالع ولم تنظر إلى اختلافها ولم يخالفها سوى المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي، الذي ذهب إلى القول باختلاف المطالع، كما قررت كل المؤتمرات والندوات التي ناقشت اعتماد الحسابات الفلكية في الأعياد الدينية اعتماد مبدأ وحدة المطالع، خاصة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف 1966م، ومؤتمر إسطنبول الشهير 1978م، ومؤتمر إسطنبول 2016م، ومؤتمر الكويت 1973م، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عام 2009، ومؤتمر رابطة العالم الإسلامي عام 2012م.

    تستقل كل دولة في إعلانها ولا تتبع الأخرى حتى وإن وافقتها في النتيجة، لكنها تقول إنها تتحرى الهلال بلجانها المختصة وتعلن عيدها دون نظر إلى غيرها، ويتأثر إعلان بعض الدول بالخلافات السياسية أحيانا.

    القول باختلاف المطالع لا يناسب زماننا

    رغم أن القول بوحدة المطالع هو رأى جمهور الفقهاء قديما وحديثا، فإن كل الدول العربية والإسلامية اليوم تخالفه وتعتمد مبدأ اختلاف المطالع، حتى الدول التي تتمسك بالمذهب المالكي القائل بوحدة المطالع كالمغرب وليبيا، والمذهب الحنبلي كذلك يتجه إلى وحدة المطالع وتخالفه السعودية فتقول باختلاف المطالع ولا تلتزم برؤية غيرها من الدول، ويرجع أخذ هذه الدول باختلاف المطالع رغم ضعف دليله فقهيا إلى سببين:

    الأول: سياسي بأن تستقل كل دولة في إعلانها ولا تتبع الأخرى حتى وإن وافقتها في النتيجة، لكنها تقول إنها تتحرى الهلال بلجانها المختصة وتعلن عيدها دون نظر إلى غيرها، ويتأثر إعلان بعض الدول بالخلافات السياسية أحيانا.

    الثاني: عدم إلزام تلك الدول نفسها بالإعلانات الخاطئة لغيرها من الدول والأقطار؛ لأنها إن أخذت بوحدة المطالع كانت مضطرة للأخذ بما أعلنته الدول الأخرى من رؤية الهلال، وقد تكون الرؤية مستحيلة فيها لكن يتعين عليها الأخذ بها انطلاقا من مبدأ وحدة المطالع.

    والقول باختلاف المطالع لا يناسب عصرنا لأسباب؛ منها: أنه قولٌ مبني على عدم إمكان بلوغ الخبر من الدولة التي رُئي فيها الهلال إلى الدول الأخرى قبل طلوع الفجر، لهذا فرَّق كثير من الفقهاء المتقدمين القائلين باختلاف المطالع بين تباعد البلدان وتقاربها فقالوا إذا تقاربت أخذنا بوحدة المطالع وإذا تباعدت أخذنا باختلافها، وبه قال الشيرازي، والزيلعي من الحنفية، وقيل هو معتمد الشافعية، وهذه العلة لم تعد موجودة في زماننا وفي عالمنا الذي أصبح غرفة صغرى تنقل الأخبار فيه في اللحظة ذاتها إلى العالم كله. ومنها أن القول باختلاف المطالع يؤدي إلى تقسيم الأمة وتعميق الفوارق بين أبنائها في أعيادها وفيما يجب أن تظهر فيه وحدتها. ومنها: أن ذلك يؤدي إلى تقسيم المسلمين في البلد الواحد؛ فقد يُرى الهلال في جنوب البلاد ولا يرى في شمالها مثلا فيصوم هؤلاء ويفطر أولئك! وأمتنا المتفرقة المتشرذمة بفعل السياسة والمذاهب والأيديولوجيا والجماعات يجب أن تغتنم كل فرصة للاجتماع والوحدة خاصة في أعيادها، ولا تبحث في التراث الفقهي عما يفرقها ويشتت شملها، ولئن قبلنا الأخذ باختلاف المطالع في البلدان البعيدة جدا عن العالم العربي كإندونيسيا وماليزيا، فأي منطق فقهي وعقلي يقول بصحة اختلاف الدول المتجاورة في أعيادها والهلال الذي نصوم ونفطر عند رؤيته واحدٌ منصوبٌ في كبد السماء لكل الناس؟!

    وإنني لا أشك أنه لو عاش فقيه ممن قال باختلاف المطالع في زماننا ورأى تقارب البلدان ونقل المعلومات، وطالع ما نتج عن القول باختلاف المطالع من تفريقٍ للأمة وإخلالٍ بشهادتها على الناس لما تردد في العدول عن قوله والعودة إلى رأي الجمهور والقول بوحدة المطالع.

    إن أمتنا اليوم من شرقها إلى غربها لا يمكنها التعامل بالتاريخ الهجري الذي يعبّر عن هويتها وتاريخها وانتمائها، ولا أبالغ إذا قلتُ إن أغلب المسلمين لا يعرفون في أي شهر وعام هجري نحن؛ لأن التاريخ الهجري مختلف ومتعدد باختلاف كل بلد، فنحن أمام تقويمين هجريين وربما ثلاثة، ولا يستطيع أي مسلم أن يحجز مواعيده وعطله وأسفاره على التاريخ الهجري لهذا، ولا يمكننا إيجاد تقويم هجري واحد معادل للتقويم الميلادي مع القول باختلاف المطالع!

    المدخل الأصولي لفهم الإشكال وتفكيكه هو العودة إلى الحكم التكليفي والوضعي عند الأصوليين، فالله تعالى إذا كلفنا بتكليف شرعي كالصوم والصلاة والزكاة لا بد من معرفة الحكم الوضعي لكل حكم تكليفي، حتى يقع التكليف صحيحا وفق مراد الله تعالى

    الرؤية البصرية ليست أمرا تعبديا

    يتمسك الفقهاء المعاصرون الرافضون للحسابات الفلكية بالرؤية البصرية للهلال سبيلًا واحدًا لمعرفة دخول الشهر أو انتهائه، ويرون أن الحسابات الفلكية تعارض السنة النبوية الآمرة بالرؤية البصرية نفيًا وإثباتًا والمتمثلة في الحديثين الصحيحين، وهما:

    • الأول حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا". (البخاري)
    • الثاني: حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا حتى تَرَوُا الهلالَ، ولا تُفْطِروا حتى تَرَوْهُ، فإن غُمَّ عليكم فاقْدُروا له". (البخاري)

    والمدخل الأصولي لفهم الإشكال وتفكيكه هو العودة إلى الحكم التكليفي والوضعي عند الأصوليين، فالله تعالى إذا كلفنا بتكليف شرعي كالصوم والصلاة والزكاة لا بد من معرفة الحكم الوضعي لكل حكم تكليفي، حتى يقع التكليف صحيحا وفق مراد الله تعالى؛ فالتكليف هو "آتوا الزكاة" وحتى يقع صحيحا لا بد من وجود سببه، وتحقق شرطه، وانتفاء مانعه، وهو بلوغ النصاب، وحولان الحول، وعدم وجود الديْن.

    السبب، والشرط، والمانع.. هي أقسام الحكم الوضعي، وتطبيق هذا النظام على الصيام أن نقول: الحكم التكليفي هو الأمر بالصيام في قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام). وحتى يقع الصيام صحيحا كما أمر الله لا بد لخطاب التكليف من خطاب الوضع بأن يتحقق الشرط، وهو أن يكون الصائم صحيحا مقيما بالغا (…) إلخ، وأن ينتفي المانع كالحيض المانع من الصيام عند النساء، وأن يوجد سبب الصيام وهو دخول الشهر وليس رؤية الهلال، فإذا علمنا أن السبب الشرعي لصيام رمضان هو دخول الشهر أدركنا أن الرؤية البصرية لا تدخل في خطاب التكليف ولا خطاب الوضع، وأنها فقط وسيلة لمعرفة أن الشهر قد دخل فنصوم أو انتهى فنفطر، ومتى ظهرت لنا وسيلة أدق منها انتقلنا إليها، وأهم دليلين على أن الرؤية البصرية لا تصلح أن تكون سببا شرعيا للصيام هما:

    • الأول: أن السبب لا يُعلَّل والرؤية معللة بنص الحديث النبوي وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ". (البخاري)
    • الثاني: أن السبب لا تخيير فيه، وقد ورد التخيير حال عدم الرؤية وذلك بإكمال العدة. وقد أفرد الشيخ العلامة فيصل مولوي المسألة ببحث نفيس نوقش في دورة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث وعنوانه: السبب الشرعي للصيام.. هل هو رؤية الهلال أم دخول الشهر؟ وقد حشد جملة هائلة من الأدلة على أن السبب هو دخول الشهر وليس رؤية الهلال، وناقش أدلة القائلين بخلاف ترجيحه مناقشة علمية رصينة.
    لماذا يختلف المسلمون أعيادهم الفطر الأضحى رؤية هلال فلك

    مقالات