مونديال قطر وأزمة الهوية الغربية
رابطة علماء أهل السنةأليس من حقنا -إذْ استضافنا الخلق من أقطار المعمورة كافّة على اختلاف هوياتهم الثقافية- أن نحافظ نحن على هويتنا وهوية بلادنا؟! أَيُفْرَضُ على صاحب الدار أن يتخلى عن قِيَمِهِ إكرامًا لضيفه؟! أم إنّ هوية الغرب صارت هويةَ الكرةِ الأرضيةِ وساكنيها فلا يَنِدُّ عنها إلا من سَفِهَ نَفْسَه؟! هكذا يتساءل الضمير الإنسانيّ عندما يشهد حالة التشنج التي يبديها بعضهم تجاه “قَطَر”؛ بسبب الموقف من الاستعلان بشارة “المثلية” فوق أرض عربية إسلامية، ويتساءل العقل: أليست هذه حالة مَرَضِيّة تنتاب الكينونة الغربيّة التي ترى نفسها مرادفة للعالم وللإنسانية وللعمران البشريّ؟!
أزمة الهوية في الحضارة الغربية
إنّها أزمة هوية، فالغرب الذي لم يحدد بَعْدُ هُوِيَّتَهُ: أهو صليبيٌّ أوغسطينيّ أم علمانيٌّ حداثيّ؛ يريد أن يفرض على الدنيا ثقافته، وأن يكسو الأرض بصبغته، وأن يُتَوِّجَها بهويته! ويكمن الخطر في نظرته إلى نفسه على أنّه المعيار الأوحد الذي انتهى التاريخ عنده. يقول الباحث السنغالي دودو ديان في مقال له بمجلة الاستغراب: “لقد طرح الغرب نفسه عبر التاريخ مفهومًا عالميًّا أو نموذجًا معياريًّا أو تعبيرًا نهائيًّا عن التطور البشريّ، إنّ أوربا -في نطاقها الجغرافيّ الغربيّ- قد أعطت لنفسها رسالةً تحضيرية في علاقتها مع الشعوب الأخرى.. مُنْذُ ذاك الحين فصاعدًا، فإن العالم -الخاضع للحضارة عبر السيف والصليب والتجارة- وجد نفسه ضمن خطر داهم”.
ويضيف الكاتب في موضع آخر؛ مشيرًا إلى سريان العطب إلى مفهوم حقوق الإنسان: “في إطار ديناميكية المركزية التاريخية التي نصبها نموذج الحضارة الغربيّ لنفسه، تكتسب عالمية حقوق الإنسان -بفعل عالمية مصدرها الأنطلوجي (الحضارة الغربية)- المكانَ الوحيدَ والمتميز والحصريّ الذي تنبثق منه القيم التي تحدد وتعبّر عن المرحلة النهائية في التطور البشريّ والدرجة الأعلى من الإنسانية، فالرسالة التحضيرية هي إِذَنْ التعبير الطبيعي عن هذه الشرعية الأنطلوجية، وقد تُتَرْجَم هذه الأيديولوجية الجديدة عبر مُسَلَّمَتَيْن، هما: الإيمانُ بعالمية القيم الغربية، والْمُمَاثَلَةُ القطعية بين حقوق الإنسان والقيم الغربية.
الجذور العميقة لأزمة الهوية في الغرب
لكنّ الأزمة لها جذور ضاربة في أعماق التربة التي أنبتت ذلك التناقض الفجّ، فأوربا خرجت من “القُمْقُم” الذي أطبق على صدرها على مدى عشرة قرون، مذعورة تلتمس هويتها الجديدة، فإذا بها تطلق ساقيها لرياح الحرب الدينية التي دارت رحاها بين البروتستانتية الجديدة والكاثوليكية الكلاسيكية، فكان الحل العبقريّ الذي تَفَتَّقَتْ عنه العقلية الغربية هو أن يتوجه “المؤمنون!” بحربهم خارج أوربا، فإذا بحرب الهوية الداخلية تنقلب إلى حرب هوية على الآخرين، وسكن الغضب الداخليّ لِيَنْدَاحَ في البشرية خارج دائرة الأمة المسيحية!
يصور لنا بول هازار في كتابه “أزمة الوعي الأوربيّ” هذا التحول؛ فيقول: “ما هي أوربا؟ إنّها استبسالُ جيرانٍ يتقاتلون.. إنها حربٌ عامّة.. لا تؤدي الاتفاقيات غالبًا إلا إلى مهادنات قصيرة، وليس السلام إلا حنينًا، والشعوب متعبة والحرب تتواصل.. عندما رأى (ليبنتز) أنّه من غير الممكن مَنْعُ الأوربيين من التقاتل؛ اقترح بأن يوجهوا غضبهم الحربيّ نحو الخارج.. وهكذا سَيُسْتَعْمَلُ -على الأقل- جميع هؤلاء الجنود وكل تلك البندقيات ذوات الفتيلة، وكل تلك المدافع، سَتُسْتَعْمَلُ ضد غير (المؤمنين!)، ولكن الطموحات ستتباعد إلى مدى بعيد على الكوكب، ولن تعود إلى الالتقاء أبدًا”، فكان الغزو الأوربيّ المبكر الذي سُمِّيَ الكشوفَ الجغرافية، والذي حمل الرسالة التحضيرية التي أعطت الغرب فرصة ليدفن تناقضه الداخليّ ويفرض على العالم هويته المتناقضة.
وما نقله بول هازار أقَرَّه برتراند رسل في كتابه “حكمة الغرب” الذي شهد للفيلسوف ليبنتز بالعبقرية، كما شهد عليه بأنّه كان في حاجة إلى أن يكون إنسانًا، غير أنّ المشكلة لم تكن في شخص إنّما في حالة عامّة؛ فعندما انتقلت أوربا بعد ذلك إلى مرحلة جديدة مع الوثبة الحداثية ومع موجات الثورات التحررية انتقلت بالازدواجية النكدة ذاتها، مع تعديلات طفيفة، فلم يكن غريبًا أن تنطلق فرنسا بعد ثورتها -حسب المؤرخ فِشَر- تحمل رسالتين: رسالة تبشير بالحريات، ورسالة ابتزاز للثروات، ومن بعدها يمضي الاستعمار حاملًا مشعل الحرية بيد والصليب بالأخرى، ويظل الغرب يمضي بين هذه الازدواجيات متناقضًا، إلى يومنا هذا الذي يؤصل فيه “فوكوياما” لنهاية التاريخ على شاطئ الليبرالية الغربية؛ ليفرض هوية الغرب على الدنيا فرضًا، فواعجبًا!
حالة مَرَضية تعتاص على المعالجة
وليس هناك وصف لهذه الأزمة إلا أنّها حالة مَرَضية، ينقل جيرموندر بامبرا عن تشارلز ليمرت قوله: “إنّ اكتشاف الغرب وبقاءه تأسَّسا على الإنكار الكبير لحقيقة عدوانه وشره”، ثم يعلّق: “ويكون الموقف الحاليّ بتجاهل هذه الأحداث وتجنبها وحظرها وعدم التأمل فيها كجزء من تاريخ الغرب في تصور الغرب لذاته؛ إنّهم يحتاجون إلى اهتمام عاجل!”، فهم في نظره يحتاجون إلى اهتمام خاص، ومصحة نفسية؛ ليخرجوا من هذ الحالة المَرَضية، ويدركوا ذواتهم على النحو الصحيح، قبل أن يحاولوا فرض ثقافتهم على الآخرين، وقبل أن يفكروا في طمس هويات العالمين لتسود هويتهم.
وليت أنّ ما يَفْرِضُ هذه الحالة من الادعاء عمقٌ في الرؤية وقوةٌ في الفكرة، وإنّما الواقع المشهود هو أنّ الرؤية والفكرة ومعهما الهوية الثقافية مجرد سلع تروجها الرأسمالية القابعة وراء كل هذه الحركات بما فيها ذلك الشذوذ المسمى بالمثلية، وعَمَّ التسليع كل شيء حتى صار الإنسانُ نفسُهُ وما يحمله من مبادئ وقيم سلعًا يتم تداولها عبر العولمة الرأسمالية المهيمنة، وبحسب الكتاب الغربيّ الشهير (الأناركية) فإنّ “هذا التسليع يتخلل ليس فقط ما نأكله أو نلبسه أو نفعله للتسلية، بل كذلك لغتنا وعلاقاتنا، وحتى ذات تركيبنا البيولوجي وعقولنا، لقد فقدنا ليس فقط مجتمعاتنا المحلية وفضاءاتنا العامّة، بل كذلك السيطرة على حيواتنا الخاصة، فقدنا القدرة على تعريف أنفسنا خارج قبضة الرأسمالية”.
هذا كلامهم هم عن أنفسهم؛ فهل جاوزنا حدّنا بموقفنا هذا؟ كلا والله ما جاوزنا حَدَّنا عندما اجتهدنا في صيانة هويتنا وفي السعي لإبرازها وإظهار تميزها، وإنّما تَجَاوَزَ الغيرُ حَدَّهُ عندما أرادنا أن نركع على أرضنا لصنم العجوة الذي اجتلبه في حقيبته، وإنّ أمتنا لفي حاجة إلى استلهام هذا الدرس؛ لئلا تنسى هذه الحقيقة الباعثة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.