اللغطُ حول الزوجة.. سَحابَةُ صيفٍ عاقر
الدكتور عطيّة عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةكأنّها عادةٌ جارية مطَّرِدة! أو قانونٌ صارم لا يتسامح! كلما ضاق الأمر وحَلَّت الأزماتُ انطلقت الأبواقُ والأشداق تنفخُ في “بالونات” مختلفةِ الألوان؛ لتَلْوِيَ أعناقَ الخلقِ وتصرفَ أنظار العباد عن مواطن الشكوى الحقيقية، فَلَمْ يَعُدْ خافيا أنّ مصر تعاني من أزمة اقتصادية بلغت أوْجَهَا مع تفاقم العجز عن الوفاء بالالتزامات الدولارية، إلى حدّ أنّ فجوة الاحتياجات التمويلية المطلوبة حتى مارس القادم تبلغ 65 مليار دولار، وبينما تسير الأمور في الباطن على هذا النحو يبدو الأمر في تصريحات الأبواق الموظفة والأشداق الْمُكَلَّفَة وكأنّ معاناة مصر تكمن في الإرضاع والطبخ والكنس!
شكوى الأسرة المصرية
منذ زمن بعيد والأسرة المصرية تقدم أنموذجًا يُحْتَذَى في التعاون والانسجام بين الزوجين، ففيما عدا الحالات الاستثنائية -ضريبة كل مجتمع- لا توجد شكوى حقيقية من الزوج تجاه الزوجة ولا من الزوجة تجاه الزوج، كلاهما يتفانى في إنماء الأسرة وتربية النشء، وفي مغالبة التحديات التي تطل على الخلق من فوق، كأنّها غيم عقيم.
فأمّا الزوج فهو كالفلك الدوّار، لا يكفّ عن السعي بالليل والنهار، من أجل لقمة العيش التي ينتزعها من مخالب المصاعب والمتاعب، وأمّا الزوجة فهي دولاب دؤوب وبقرة حلوب وشجرة وارفة الظلال، هو يكدح في الخارج وهي تَكِدُّ في الداخل، فإذا كانت عاملةً تعاونا معًا في البيت كلٌّ بحسب ما يُتقن ويحسن، فربما اختصّ بالتَّسوق وما شابهه واختصتْ بالغسل وما شاكله، ثم تشاركا في كثير مما يصلح لكليهما، ونادرا ما يَقْصُرُ التسامح عن تغطية مواضع النزاع، أمّا الشكوى الحقيقية للأسرة المصرية فليست سوى ذلك العبء الذي تَنُوءُ به الجبال الرواسي، أعني العبءَ الاقتصاديّ الذي ليس له في أرض الكنانة من سبب إلا “الفساد”، الذي يمارسه “أوليجارشية” لا يتقنون في الحياة إلا فنون الغصب والنهب والسلب، تلك هي الشكوى التي تصرخ بها الأسرة المصرية في صحوها ومنامها؛ فلا وجه لكل تلك الشكاوى التي تُوضع زورًا على لسانِ المرأة المصرية؛ لشغل الناس عن الكوارث التي تحلّ بالبلاد على مستويات تهدد الأمن القوميّ في الصميم.
زوبعةٌ في قَعْر فنجان
وقد أثيرت في الفترة الأخيرة زوبعة جديدة في قاع الأسرة المصرية، وتعالت أصوات المنادين بإنصاف المرأة من الرجل؛ فمن قائل بأنّ الزوجة ليس عليها خدمة في بيت زوجها، وزاعمٍ بأنّها لا يجب عليها حتى إرضاع أولادها، ومُتَهَجِّمٍ على طبيبة تنصح الأمهات بألا يُهْمِلْنَ بيوتهن، وانبرى للمناكفة في هذا الطريق النَّكِدِ المشؤوم رجالٌ ونساء؛ اتسع المجال لانسلالهم من كل صوب، بدءًا من المجلس القومي للمرأة ومرورا بدعاة النسوية وانتهاء بأساتذة في (الفقه المقارن!).
الحكم بين التأصيل والتنزيل
والحكم الشرعيّ في المسألة غاية في الوضوح، غير أنّ القوم استثمروا خلافا فقهيا في التَّنْزيل لإرباك الرؤية في التأصيل، فأمّا التأصيل فقد قَرَّرَتْه -في مادة دستورية معيارية- هذه الجملة القرآنية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: “بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس”، هذا هو الميزان والمعيار الذي يُعَدُّ الْمُحْكَمَ الوحيدَ في هذه المساحة، وهو ميزان قائم على قواعد العدل الذي تواترت نصوص الشرع على إقراره وتثبيته، والمراد بالمماثلة -حسب الألوسى- “المماثلة في الوجوب لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غَسَلَتْ ثيابَهُ أو خَبَزَتْ له أن يفعلَ لها مثلَ ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال”، فمقتضى العدل أنّ عليها من الواجبات تجاهه مثل ما عليه من الواجبات تجاهها، والذي يحدد نوع هذه الواجبات هو العرف الجاري والعادَةُ المطَّرِدة، بعض هذه الواجبات تترتب طبيعيا بمقتضى العقد، وبعضها وردت به نصوص قرآنية ونبوية، بينما سكت الشرع عن كثير منها لِتُرَدَّ إلى تلك القاعدة.
ومن الطبيعيّ ألا تدخل النصوص في جميع التفاصيل، فما حَسَمَتْهُ النُّصوصُ أو حُسِمَ بمقتضى العقد وجب الالتزام به، أمّا مالم يرد به نصٌّ من الشرع وليس من مقتضى العقد فإنّه يُرَدُّ إلى القاعدة القرآنية الآنفة، ويتم إعمال القاعدة وفق عرف الناس وعادتهم؛ فـ”العادةُ مُحَكَّمَةٌ والعُرفُ مُعْتَبَرٌ” و”المعروف عُرْفًا كالمشروط شرطًا”، وعليه فإنّه بعقد النكاح يتقرر حق الاستمتاع بين الزوجين، وبالنصوص القرآنية والنبوية تقررت حقوق وواجبات متقابلة وعادلة، كالمهر والنفقة من جهته والطاعة والانتقال إلى بيته من جهتها، وبقيت أمور كالإرضاع والخدمة والتربية، تُرَدُّ كلها إلى القاعدة العامّة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وهذا ما اعتمد عليه الأئمة المحققون.
وخدمةُ المرأة لزوجها وإرضاعُها وتربيتُها لأولادها أمورٌ جرى بها عرف المسلمين في صدر الإسلام قبل الاستكثار من الخدم، يقول ابن خويز منداد: “ألا ترى أن أزواج النبي وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع”، وفي “الواضحة”: “حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين عليٍّ وفاطمة حين اشتكيا إليه الخدمة، فحكم على فاطمةَ بالخدمة الباطنة خدمة البيت وحكم على عليٍّ بالخدمة الظاهرة”، كما جرى بذلك العرف في ديار المسلمين كافّة في الأزمنة الأخيرة.
خلاف في التنزيل لا يضر بالتأصيل
ما أسلفناه هو التأصيل الذي لا يخالف فيه أحد من الفقهاء، أمّا الخلاف الحاصل بينهم فهو في التنزيل، ففي زمانهم -بسبب الفتوح- استكثر الناس من العبيد والخدم؛ فكان لأغلب الحرائر خادمات، وكان هذا عُرْفًا جاريا لفترة، فأقروه حقًّا للزوجة؛ إعمالا للعدل في الآية، ولمّا تغير الزمان بعد ذلك تغيرت الفتوى، وكان للفقهاء في إقامة العدل وفق القاعدة القرآنية منهج آخر؛ فليس مع المثيرين للزوابع مستندٌ ولا ظهير، والحمد لله الذي أحكم شريعته ولم يترك للمتلاعبين ثقبا ينفذون منه إلى ما يريدون، وبقيت الحقيقة الشاخصة أنّ الأسرة المصرية أكبر من ألاعيبهم، وبقيت معها شكواها من تدهور الأحوال.