مستقبل تركيا بين شورى متخافتة ومعارضة متهافتة
الدكتور عطيّة عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةالحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليس مستبدًا .. كلا، ولا دكتاتورا؛ كيف والجميع - في عهده دون غيره من العهود - يملأ رئتيه من نسيم الحرية؟ كيف وهو الرئيس الذي يخشى شعبَه ويصارع الزمن والتحديات ليمر من عنق الانتخابات؟! كيف ووسائل إعلام الفتنة تعوي وتنبح في جنبات البلاد دون أن يمسّها أحد بسوء؟! كلا ورَبِّي لا يكون مثل هذا مستبدًا ولا دكتاتورا؛ فقد خَبَرْنا الاستبداد والدكتاتورية في بلاد العُرْبِ كافّة، حيث تُزَوَّر الانتخابات لتخرج النتيجة "ثلاث تسعات"؛ للطاغية الجاثم فوق صدور العباد، وحيث السجون والمعتقلات لكل حر ولكل شريف ولكل عارف بالله وخادم لشريعته، وحيث تُصادَر الأقلام والحناجر والأحبار والدفاتر؛ فلْنَعْتَدِلْ إِذَنْ في تقييمنا للظواهر، ولْنخرجْ من حالةِ كيلِ الاتهامات بضربة لازب.
ومع ذلك فإنّ الشورى في تركيا متخافتةٌ ضعيفةُ الأثر؛ ليس لأنّ "الطيب أردوغان" يمارس الاستبداد، وإنّما لأسباب أخرى موضوعية وواقعية، برغم كونها استثنائية لا تتكرر في تاريخ الأمم إلا قليلا؛ فإنّ الرجل عظيمٌ حقًا، وعبقريٌّ صدقًا، وصانع نهضة لا يُنْكِر ذلك إلا جاحدٌ معاند، وصاحب رؤية سياسية ومشروع حضاريّ لا يُبارَى ولا يُجَارَى، مع صدقٍ وإخلاصٍ وعلوِّ همّة ونفاذِ بصيرة؛ ومثل هذا غالبًا ما يُسَلِّمُ له الجميع، ولا يجرؤ أحد على مخالفته، ولاسيما مع توافر الهيبة وتسامي "الكاريزما".
لكن الأمر الذي يجب أن يُذكر ولا يُنكر هو أنّ أخطاءًا تقع - ولاسيما فيما يتعلق بالاقتصاد - كان من الممكن ألا تقع، ولست خبيرا اقتصاديا، إلا أنّ العديد من خبراء الاقتصاد لهم في هذه المسألة مقالٌ لا أحسبه يجاوز الحقيقة؛ بدليل ما يجري اليوم للعملة التركية، والانفراد بالرأي في كثير من القرارات الاقتصادية ظاهر؛ ليس أَدَلَّ على ذلك من عزل ثلاثة من مديري البنك المركزيّ في وقت قصير جدا، ومن الْمُسَلَّم به أنّ إدارة الاقتصاد لا تكفي فيها الرؤية الاقتصادية الرشيدة المنبثقة من مشروع سياسيّ حضاريّ كبير، وإنّما الاقتصاد له رجالٌ ذوو علم وخبرة يتقنون فنون إدارته؛ فلابد من تنفيذ الرؤية الرشيدة من خلالهم هم لا من خلال صاحب الرؤية مهما كان فذًّا وعملاقًا.
إنّ الشورى لم تُشْرع لجبر ضعف صانعي القرار حتى يتجاوزها الأقوياء؛ فلم يكن رسول الله صلى الله ضعيف الرأي ولا خلفاؤه الراشدون، وقد أمرهم الله تعالى في آية تشمل بحكمها الأمة كلها إلى يوم الدين: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: 159)، والعجيب أنَّ هذه الآية نزلت في أعقاب أحد، التي كان أحد أسباب الهزيمة فيها الرأي الذي أبداه الشباب بالخروج للقاء قريش بعيدا عن المدينة، إلا أنّ الأعجب هو أنّ هذه الهزيمة كانت ولا تزال مصدر خير للأمة بما فيها من دروس؛ ولعل هذا ببركة الشورى.
إنّما شرعت الشورى وجُعِلت هكذا طابعًا مستمرا مستقرا ملتصقًا بحركة الأمة: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)؛ لأنّها الضمانة الكبرى لإحراز الصواب، والطريق الأمثل لاختيار أحسن الآراء؛ لذلك سماها القرآن - ومن ثَمَّ شريعةُ الرحمن - بهذا الاسم العبقريّ المتميز (شورى)؛ لأنّ الشورى راجعة إلى أصلين، الأول: الاستخلاص والإظهار بعد العرض والنظر، الثاني: الجمال والحسن والروعة وعظمة الهيئة، تقول العرب: شار العسل: استخرجه من الخلية، والشارة: الجمال الرائع، والشوار: الزينة.
نحن نوافقك يا سيادة الرئيس في أنّ الربا أصل الشرور في هذا العالم، ونعلم أنّ مواجهة الشرّ فريضة لا يسع المؤمنَ الصالحَ تجاهُلُها، ونوافقك تماما في ضرورة التَّوجُّه بالبلاد بعيدا عن الهيمنة الرأسمالية العالمية، وعن النظام الربويّ البالغ القسوة، لكنَّ الذي نخالفك فيه ونشير عليك فيه هو المنهج والطريقة، فالخروج من أسر المنظومة العالمية فنّ كبير قد أحسنتم - إلى حدّ الامتياز - إدارته في الجانب السياسيّ، أمّا في الجانب الاقتصاديّ - وهو أكثر تعقيدا وخطرا - فأنتم سيدي بحاجة إلى خطة يشارككم فيها ذوو الاختصاص الكبار، وليس في هذا أدنى انتقاص لكم بل هو الكمال والجمال.
سيادةُ الرئيس ليس معصومًا، ورجالُه ليسوا بلهاء متخلفين، ولاسيما الذين عُرِفَ عنهم الصدقُ مع الخبرة، فلْيُدْنِ الرئيس منه هؤلاء ولْيُقْصِ عنه أصحاب المنافع؛ فإنّه لا ريب أنّ الكثيرين من أصحاب المنافع هؤلاء قد ملأوا جيوبهم وكروشهم من تقلبات الليرة في تلك الأزمة، وما تضرر منهم أحد، الذي تضرر فقط هو الشعب الذي يحبه بحق ويعشقه بصدق سيادةُ الرئيس، ولْيَقْتَرِبْ المخلصون من الرئيس، ولْيكسروا حاجز الوحشة بينهم وبينه؛ فإنّ ما تربَّوا عليه في مدرسة العظيم "أربكان" ييسر لهم تبديد تلك الوحشة، فهذا نداء ورجاء، ليس منّي وإنّما من هذا الشعب الذي يؤمل الخير في اجتماع أهل الخير.
أمّا المعارضة المتهافتة فليست من الشورى في قليل ولا كثير؛ لأنّها متهافتة على غاية ليست - بأيّ منطق - نبيلةً ولا شريفةً، فغايتهم هي إسقاط أردوغان ومشروعِهِ قبل أن يكتمل نضجه واستواؤه، وليت شعري أيّ غاية هذه؟ ليست من الشورى وإنْ كثير صياحها باسم المعارضة، بل إنّ أداءها ليس - بمقاييس الديمقراطية - من المعارضة في شيء؛ لأنّ المطالبة بانتخابات مبكرة بهذا الإلحاح وهذا الشبق للإطاحة برئيس جاء بانتخابات صحيحة ونزيهة، ولم يصدر ضده حكم قضائيّ من المحاكم العليا في البلاد يقضي بإبطال ولايته، هذه المطالبة اللاهثة اللاهجة هي في حقيقتها وجوهرها مخالفة لروح الديمقراطية وفلسفتها، مع تحفظي على كثير من أسس الديمقراطية وآليتها ولاسيما ديمقراطية الغوغاء.
إنّ ما تمارسه المعارضة في تركيا "فتنة" بكل ما تحويه الكلمة من معاني؛ لأنّ ممارسة الضغط على الرأي العام بأدوات إعلام الفتنة، في ظروف قد أحاطت بالبلاد فيها مخاطر جمّة في الداخل والخارج، هو بمثابة سكب الزيت في أرجاء البيت ليشب فيه الحريق من موقده، فإنّ ما يتجاهله هؤلاء ويحاولون صرف انتباه الشعب عنه هو أنّ حدود البلاد الجغرافية من كافّة نواحيها ملتهبة، أمّا الحدود الجيوسياسية فالصراع عليها صراع نمور لا تعرف الرحمة وضباع لا ترعى لأحد حرمة، هذا في لحظة تمثل عنق الزجاجة.
هذه المعارضة التي تُهَوِّنُ من شأن الإنجازات العظمى، وتُهَوِّلُ في المقابل من شأن الأزمات؛ ليست أمينة، وليست قادرة على تحمل المسئولية، لأنّ صاحب المسئولية هو من يزن الأمور ويقدرها حقّ التقدير؛ ولذلك لا ترى لهم رؤية للخروج من أزمة الليرة إلا "الانتخابات المبكرة!" فكأنّها كيانات انتخابية وحسب، بل هي بالتأكيد كيانات انتخابية ليس إلا؛ والعهد ليس بعيدا ب"أكرم إمام أوغلو" عندما اعتبر هو ومن صفقوا لنجاحه أنّ فوزه ببلدية اسطنبول فتحٌ في حد ذاته، بينما لم يقدم قبل الانتخابات ولا بعدها ما يثبت أنّه من الفاتحين، ولم نر له من الإنجازات إلا صورا له معلقة في الشوارع وهو يرسم بأصابع يديه (قلبا)! فيا لها من إنجازات عظيمة!!
والمشكلة لدى العقلاء المعترضين على الطيب أردوغان هي الإجابة على هذا السؤال: من البديل إنْ ذهب أردوغان - على ما يُؤْخَذ عليه - وذهبت العدالة والتنمية - على ما فيها من أخطاء بل وفساد أحيانا - من البديل؟ إنّه سؤال يصدع الرؤوس؛ ليس لأنّ البديل معدوم، فإنّ رَحِمَ هذه الأمّة وَلَّادٌ لا يصيبه العقم، ولكنّ البديل الذي سيأتي ليس ألا هذا الذي لا يُتْقِنُ إلا "الفتنة"! فإن استطعتم أن توفروا للبلاد البديل، بلا دوران ولا تأويل ولا تمطيط ولا تطويل؛ فالشعب معكم ولن يَتِرَكُمْ حقكم من الدعم والتأييد، ولكنّكم للأسف الشديد ترون الظلمة التي سَتُقْبِلُ عليها البلاد فتنغضون رؤوسكم!
إنّ تركيا الجديدة لم تبلغ ما بلغته بكنوز تتدفق من آبار البترول والغاز ومناجم الذهب، ولا من طبيعة زراعية تكثر فيها الأنهار؛ فتزهو الأرض المنبسطة وتهتز بالزروع والثمار، ولا من تَرِكَةٍ من الإنجازات حباها لأردوغان من سبقوه فهو يبني عليها في مجالات الصناعة والتجارة والعلاقات الدولية، إنّها نشأت من العدم أو مايشبه العدم، ولا تزال تحديات توفير الطاقة والغذاء والدواء والعملة الصعبة قائمة وجاثمة، بل إنّ التحديات تزداد من الداخل والخارج كلما ابتعدت تركيا عن الهيمنة وتحركت صوب الاستقلال السياسيّ؛ أليست هذه حقائق؟ فأين الإنصاف؟!
إنّ تركيا اليوم تعاني الخروج من عنق الزجاجة، وهو ظرف تكثر فيه التحديات؛ فكونوا يدا واحدة.