الخميس 21 نوفمبر 2024 06:05 مـ 19 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

    رابطة علماء أهل السنة

    إنَّ أبرَزَ قَضِيَّةٍ تَنَاوَلَهَا القُرْآنُ الكريمُ بِشَكلٍ واضِحٍ وَصرِيحٍ، هِيَ قَضِيَّةُ: الاسْتسْلامُ لِرَبِّ العَالَمِينَ ظَاهِرًا وبَاطِنًا، وهِيَ قَضِيَّةُ الإِيمَانِ الكُبْرَى، وهِيَ العَلامَةُ الفَارِقَةُ بَيْنَ المُسلِمِينَ والمُنَافِقينَ والكافِرِينَ.

    هَذِهِ القَضِيَّةُ تناوَلَهَا القُرْآنُ فِي آياتِ الأحكامِ، وفِي القَصَصِ القُرآنِي، وفِي آياتِ التَّرغِيبِ والتَّرهِيبِ، وفِي آياتِ الإِيمَانِ. وفِي هَذَا دلالةٌ عَلَى أهمِيَّةِ تَحقِيقِهَا فِي النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، والتَّحلِي بِهَا ظاهِرًا وبَاطِنًا، ليتحقَّقَ الإِيمَانُ باللهِ فِي القلبِ، ولِتَنضَبِطَ الجَوَارِحُ والأعمالُ الظَّاهِرَةُ عَلَى أمرِ اللهِ ومُرَادِهِ.

    وهِيَ القَضِيَّةُ الَّتِي يُحاربها أعدَاءُ الإِسْلَامِ مِنَ المنافقينَ فِي المجتمعاتِ الإسلاميَّةِ اليومَ بِشَتَّى الصُّوَرِ. ويَحرصُونَ عَلَى إبعادِ المُسلِمِينَ عَنها ليتحقَّقَ لهم مُرادُهُم مِنَ الإفسادِ فِي الأرضِ، كما قَالَ تَعَالَى: (فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٨٨ ‌وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 88-89] .

    وإنَّما يُحاربها المنافقون ويَمنعونَ المُسلِمِينَ مِنْ تَطبيقِهَا، لأنَّ في تطبيقِهَا كشفًا لِحقِيقَتهم، وإظهارًا لِبَاطِلِهم، وبَيانًا لِعُمقِ انحرَافِهم عَنِ الحقِّ، فَحَارَبُوهَا بِكُلِّ الوسائلِ الشَّيطانِيَّة، واستفادوا مِنَ الطَّريقَةِ اليَهُودِيَّةِ فِي صدِّ المُسلِمِينَ عَنْهَا.

    والمتأمِّلُ فِي آياتِ سُورَةِ البقرةِ، وَهِيَ أعظمُ سُورةٍ بَعدَ الفَاتِحةِ، يَجدُ قَضِيَّةَ (الاستسلامُ للهِ رَبِّ العَالمين) مِنْ أبرز القَضايَا التَّربويَّةِ الَّتِي تتناولها السورة وتُربي المُسلِمِينَ عليها.

    ولعلي فِي هَذَا المقالِ أتناولُ آيةً واحدةً تُبَيِّنُ لَنَا مَوضُوعَ الاستسلام للهِ ربِّ العالمينَ، كَمَا تُبيِّنُ لَنَا الشَّخْصِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي أُمِرنَا بالاقتداءِ بِهَا فِي مِلَّةِ الإِسْلَام والسَّيرِ عَلَى مِنهاجِها.

    قَالَ تعالى: (وَمَن يَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٣٠ إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ ‌أَسۡلِمۡۖ قَالَ ‌أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٣١ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِـۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ) [البقرة: 130-132]

    إبراهيمُ الخليلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِنْ أولي العزمِ مِنَ الرُّسلِ، أثنى اللهُ عَلَيْهِ فِي كتابهِ، وأمَرَنَا باتبَاعِ مِلَّتِهِ، فَقَالَ: (إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٢٠ شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٢١ وَءَاتَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٢٢ ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ ‌مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٢٣) [النحل: 120-123]

    ومِلَّةُ إبراهيمَ الَّتِي أُمِرنَا باتِّباعِها قائمةٌ عَلَى الاستسلامِ الكُلِّي للهِ ربِّ العَالمِين، ( إِذۡ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ ‌أَسۡلِمۡۖ قَالَ ‌أَسۡلَمۡتُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ) ، قَالَ ابنُ جرير الطَّبري رَحِمَهُ اللهُ: ((إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ: أَخْلِصْ لِي الْعِبَادَةَ، وَاخْضَعْ لِي بِالطَّاعَةِ، ... قَالَ إِبْرَاهِيمُ مُجِيبًا لِرَبِّهِ: خَضَعْتُ بِالطَّاعَةِ، وَأَخْلَصْتُ بِالْعِبَادَةِ لِمَالِكِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ وَمُدَبِّرِهَا دُونَ غَيْرِهِ)). (تفسير الطبري 2/581)

    وَهَذَا هُوَ معنى الإِسْلَام. قَالَ ابنُ تيميَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: ((فَالْإِسْلَامُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ، وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ، وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ، وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ. فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ)). (مجموع الفتاوى 3/ 91)

    وقَد أثنَى الله عزَّ وجلَّ عَلَى مَنْ سَارَ عَلَى طريقةِ إبراهيمَ الخليلِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ ‌مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا ) [النساء: 125] . قَالَ السعدي رَحِمَهُ اللهُ: ((أَيْ: لَا أحدَ أحسنُ مِنْ دِينِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الإخلاصِ للمعبودِ، وَهُوَ إسلامُ الوجهِ للهِ الدَّالِ عَلَى استسلامِ القلبِ وتوجههِ وإنابتهِ وإخلاصهِ، وتوجُّهِ الوجهِ وسائرِ الأعضاءِ لله. (وَهُوَ) مَعَ هَذَا الإخلاصِ والاستسلامِ (مُحْسِنٌ) أَيْ: مُتَّبِعٌ لشريعةِ اللهِ الَّتِي أَرسلَ بِهَا رُسلَهُ، وأنزلَ كُتُبَهُ، وجعلها طريقًا لخواصِّ خَلقِهِ وأتباعِهم. (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) أَيْ: دِينَهُ وَشرعَهُ (حَنِيفًا) أَيْ: مَائِلًا عَنِ الشِّركِ إِلَى التَّوحِيدِ، وعَنِ التَّوجهِ للخلقِ إِلَى الإقبالِ عَلَى الخالقِ)). (تفسير السعدي ص206)

    فَمَنْ لَمْ يَتَّبِع شريعةَ اللهِ عزَّ وجلَّ الَّتِي أرسل بِهَا رسولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ غَيرُ مُستَسلِمٍ للهِ رَبِّ العَالمينَ. قَالَ تعالى: (ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ ‌شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ إِنَّهُمۡ لَن يُغۡنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـٔٗاۚ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۖ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُتَّقِينَ) [الجاثية: 18-19] ، فأيُّ إعراضٍ عَنْ شَريعةِ اللهِ هُوَ اتِّباعٌ للهَوَى. فإذا كانَ الذينَ يَدعونَ للإعراضِ عَنْ شريعةِ اللهِ مِنْ بَنِي جِلدَتِنَا ويَتكلَّمُونَ بلُغتِنَا، فَهُم المنافقونَ الَّذِينَ فَضَحهم الله عزَّ وجلَّ فِي كتابهِ، وهُمُ الَّذِينَ يُريدونَ لنَا الكفرَ باللهِ، ويُزعجُهم استسلامُنا لربِّ العالمينَ.
    إنَّ الاستسلامَ للهِ ربِّ العالمينَ هُوَ الدِّينُ القَيِّمُ الَّذِي أمَرَنا الله بِهِ فِي قولهِ: (قُلۡ إِنَّنِي هَدَىٰنِي رَبِّيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ دِينٗا قِيَمٗا ‌مِّلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٦١ قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٦٣) [الأنعام: 161-163]

    قَالَ السعدي رَحِمَهُ اللهُ: ((يَأمرُ تعَالَى نَبِيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَقولَ ويُعلِنَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الهدايةِ إِلَى الصِّراطِ المستقِيمِ: الدِّينِ المُعتدلِ المتضمِّنِ للعقَائِدِ النَّافِعةِ، والأعمالِ الصَّالِحَةِ، والأمرِ بكُلِّ حَسنٍ، والنَّهيِ عَنْ كُلِّ قَبيحٍ، الَّذِي عَلَيْهِ الأنبياءُ والمرسلونَ، خصوصًا إمامَ الحُنَفَاءِ، ووالدِ مَنْ بُعِثَ مِنْ بعدِ مَوتِهِ مِنَ الأنبياءِ، خليلُ الرَّحمنِ إبراهيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَهُوَ الدِّينُ الحَنِيفُ المائلُ عَنْ كُلِّ دِينٍ غَيرِ مُستَقِيمٍ، مِنْ أديانِ أهلِ الانحرافِ، كاليهودِ والنَّصارَى والمُشرِكِينَ)). (تفسير السعدي ص282)

    ونحنُ نُعلِنُ استسلامَنَا لرَبِّ العالمينَ، ورَفضَنَا لدعوَةِ اليَهُودِ والنَّصَارَى والمنافقينَ بالدخول فِي أَيِّ دِينٍ جديدٍ تَحتَ أَيِّ مسمى، قَالَ تعالى: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰ تَهۡتَدُواْۗ قُلۡ بَلۡ ‌مِلَّةَ إِبۡرَٰهِـۧمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) [البقرة: 135] ، وقال سُبْحَانَهُ: (قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُواْ ‌مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) [آل عمران: 95]

    لَقَدْ أَعلَنَ يُوسف عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ استسلامهُ للهِ رَبِّ العالمينَ والسَّيرَ عَلَى منهجِ الأنبياءِ والمرسلينَ، واتِّباعِ مِلَّةِ أبيهِ إبراهيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَقَالَ لأصحابهِ فِي السِّجنِ: (قَالَ لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَامٞ تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ إِنِّي تَرَكۡتُ ‌مِلَّةَ قَوۡمٖ لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ ٣٧ وَٱتَّبَعۡتُ ‌مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ ذَٰلِكَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ عَلَيۡنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ ٣٨ يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٣٩ مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ )٠ [يوسف: 37-40]

    إنَّ الأنبياءَ والمرسلينَ إنَّما دَعَوا النَّاسَ للاستسلامِ لربِّ العالمين، ولَمْ يأمروهم أنْ يستسلموا لهُم لِذواتِهم، وإنما يستسلمونَ لأمرِ اللهِ، وقد بَيَّنَ اللهُ ذلكَ فِي كتابهِ فَقَالَ: (‌مَا ‌كَانَ ‌لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ ٧٩ وَلَا يَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ أَرۡبَابًاۚ أَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ) [آل عمران: 79-80].

    ولقد أَدركَت مَلِكَةُ سَبَأْ أنَّ دخولها فِي الإِسْلَامِ لا يَعني الاستسلامَ لنبيِ اللهِ سليمان الَّذِي حازَ الملكَ والنُّبُوَةَ، وإنما يعني استسلامها واستسلام نَبيِّ اللهِ سليمانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للهِ ربِّ العالمين، فَقَالَ الله عَنْهَا: (قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ ‌لِلَّهِ ‌رَبِّ ‌ٱلۡعَٰلَمِينَ) [النمل: 44]

    فإذا كان هَذَا الحالُ مَعَ الأنبياءِ، فكيفَ يسوغُ لَنَا أنْ نَجعلَ مَنْ دُونهم مِنَ البشرِ يُطاعُ فَلا يُعصَى، ويُسلَّم لَهُ فِي كُلِّ قراراتهِ ولا يُعارضُ، ثمَّ يُنسبُ ذلكَ كُلُّهُ إِلَى دِينِ الإسلامِ الَّذِي جاءَ بِهِ أعظمُ رسولٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأُنزل عَلَيْهِ أعظمُ كتابٍ! سُبحانكَ هَذَا بُهتانٌ عظيمٌ.

    أسأل الله عزَّ وجلَّ أنْ يَجعَلَنَا مِمَنْ يستسلمونَ لأمرهِ، ومِمَنْ يستمعونَ القَولَ فيتَّبعونَ أحسَنَهُ.
    والحمد لله رب العالمين.

    قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ إبراهيم الإسلام الحق الباطل

    مقالات