الهوية الوطنية ركن من أركان الدولة الحديثة المسلمة
الدكتور علي محمد الصلابي - مؤرّخ وفقيه ومفكّر سياسي رابطة علماء أهل السنةعن معنى الهوية:
يمكننا تناول الهوية من مقاربات وقراءات شتى فنخرج بتعريفات شتى لها قد يكون بعضها في ظاهره التضاد وفي باطنه الانسجام والتكامل، فالهوية تشير إلى التميز؛ أي إلى ميزات الفرد أو المجتمع عن غيره، وهي بنفس الوقت تشير إلى الجوامع المشتركة، والخواص التي تجتمع حولها هوية اجتماعية ما لها ما يميزها عن غيرها، أي أن الهوية تعبر عن كل من الميزات الفارقة والعلامات المميزة التي تمنح الخصوصية وترسم الحدود بين الديموغرافيا البشرية، وعن السقوف الجامعة ومناطات الاشتراك والاتفاق عند جماعة أو أمة ما. وعموما؛ هي مجمل السمات التي تخص عنصرا أو جماعة دون غيرها، والهوية فلسفيا تراكمية فلا توجد هوية الفرد حتى توجد هوية الجماعة والخلفية الجماعية التي يشغل الفرد مخيطا في نسيجها الكبير. ويعبر المنظور الفلسفي عن الهوية على أنها فرصة المطابقة والتشابه والتي تصنع بتظافرها هوية ثقافية لشعب لا يشركه فيها بكل محدداتها شعب آخر وإن اشترك معه ربما في بعضها. وللهوية مكونات أساسية تحدد ملامحها في كل جماعة أو أمة دون غيرها.
أ ـ اللغة:
هي العنصر الأساسي للهوية ، فكما قالت المستشارة الألمانية ميركل: إن اللغة هي الشيء الأهم ، وليس هناك مجال للأعذار في هذا الشأن ، واللغة هي مكون أساسي من مكونات الثقافية ، واللغة العربية مقوِّم أساسي من مقومات الثقافة العربية الإسلامية ، ذلك أن العربية ليست لغة أداة فحسب ، ولكنها لغة فكر أساساً ، وحتى الشعوب والأمم التي انضوت تحت لواء الإسلام ، وإن كانت احتفظت بلغتها الوطنية ، فإنها اتخذت من اللغة العربية وسيلة للارتقاء الثقافي والفكري ، وأدخلت الحروف العربية إلى لغاتها، فصارت تكتب بها ، وعلى هذا الأساس فإن الثقافة العربية هي ثقافة الأمة العربية ؛ التي هي أمة الإسلام الذي منه اكتسبت صبغتها ، وحملت صفتها، واستمدت طبيعتها ، فلم يكن لهذه الأمة كيان قائم الذات قبل الإسلام ، وإنما كانت قبائل وعشائر لا تجمعها عقيدة ، ولا يوحدها إيمان بالرسالة الخالدة للعرب ، ولكن كانت الثقافة العربية إسلامية الروح والأصول ، ومع ذلك ثقافة استوعبت كل الأمم والشعوب ؛ التي انضوت تحت لواء الأمة العربية الإسلامية ، ووسعت كل الثقافات التي تعايشت معها ، فصارت بذلك ثقافة العرب المسلمين ، وثقافة النصارى واليهود ، وثقافة كل الأديان ، وطوائف الملل والنحل التي اندمجت في الكيان الإسلامي ، وعاشت في ظل الدولة الإسلامية عبر الأزمنة والعصور. ومن أهم الخصائص التي تميزت بها الثقافة العربية أنها امتزجت بالثقافات الأخرى التي كانت سائدة في عهود الإسلام الأولى، وتفتحت لعطاء الأجناس والأقوام، وأهل الديانات والعقائد التي تعايشت مع المجتمع الإسلامي، فصارت بذلك الثقافة غنية المحتوى، متعددة الروافد، متنوعة المصادر ، ولكنها ذات روح واحدة ، وهوية متميزة متفردة.
ب ـ اقتصاد مشترك:
فالهوية ترتبط بنمط التنمية، فإذا كان نمط التنمية مستقراً، فكان سبباً للتنمية والنمو، فالهوية تكون مستقرة وقوية، أما إذا كان مذبذباً ، فكذلك تكون الهوية ، ويؤثِّر اضطراب نمط التنمية في خلق مناخ سياسي داخلي متوتر ، الأمر الذي يماثل حال الدول النامية ، وكذلك المتحولة عن النظام الاشتراكي كشرق أوربة مثلاً ونلاحظ من خلال تجارب الشعوب أن الفقر الزائد قد يقضي على هوية المجتمع ، ويحوله إلى وحوش جياع لا قيم لها ولا مبادئ ولا انتماء. وما ثورات الجياع، وانتفاضات الحرامية بغريبة عن دراستنا، وهي بذلك لا تعبر عن فكر أو رأي، وإنما عن حاجة اقتصادية، وهي سد غريزة الجوع.
والسلوك الحضاري لا يقتصر على الأفراد، بل يتصل بالسلوك الجماعي لمجتمع من الأفراد ، أو وطن من الأوطان ، والسلوك الحضاري للأفراد والسلوك الحضاري للمجتمع كله سلوك متبادل
ج ـ العامل السياسي:
تبحث الهوية السياسية عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية، ليس لأن الهوية الثقافية هي المعبر عن مصالح الجماعة، ولكن لأن الهوية الثقافية أصبح لها دور أساسي في الصراع غير المتكافئ على السيطرة والهيمنة في العالم ، ويمكن القول أن الهوية السياسية تعد الدافع والغرض لهوية متحركة المقاصد ، قادرة على التجدد بشكل أسرع من الهوية الثقافية ، وهي ابنة أوضاع داخلية وعالمية أكثر منها ابنة ذاكرة جماعية وفردية ، ضرورية الاستحضار.
د ـ الانتماء والتحضر وحقوق وواجبات مشتركة:
الانتماء غريزة فطرية لا تقتصر على البشر فقط ، ولكنها ترتبط كذلك بملايين الأنواع من الكائنات الحية ، وعلى المدى الواسع لفصائلها ، وطبيعة حياتها ، فكل هذه الكائنات تنتمي لنوعها ، والأرض التي تعيش عليها ، والبيئة التي خرجت منها ، أو تعيش فيها ، وكلها تستمد قوتها ومعيشتها من هذا الانتماء ، وافتقاد الانتماء يكون أحد أسباب تعاستها ، وفقدُ هويتها يمثل خللاً في أسباب تواجدها ودورتها في الحياة ، وقد يصل لفنائها ، من ذلك نستطيع أن نقول: إن الانتماء لا تعود منافعه على المكان أو البيئة ، بل تعود على الكائن ذاته ، وبالتالي فإن الانتماء سرٌّ من أسرار الحياة ، وأساس لاستمرارها ، وفقد الكائن الحي لهذا الانتماء يصبح بسبب ذلك عالة على مجتمعه ، منبوذاً من أقرانه ، معتقداً لجودة حياته. وانتماء المواطن غالباً ما يوحي بأنه يقتصر على الانتماء للوطن فقط ، والواقع فإن الانتماء أعم وأشمل من ذلك ، فالانتماء للأسرة وللعمل والبيئة المحيطة ، وكل ما هو في دائرته الصغرى ، كلها أساس لانتمائه الأكبر نحو الوطن ، والانتماء يستحيل أن يكون بقرار أو بتوجيه ، سواء من المواطن ذاته أو من المجتمع ؛ لأنه غريزة حميدة يجب أن ننميها بتحسين العلاقة بين الفرد وبيئته وعمله ، وبالتالي يأتي كاملاً نحو الوطن ، حيث لن تجد مواطناً يفتقد الانتماء لأسرته، أو عمله ، أو بيئته الصغرى ، ويكون منتمياً حقيقياً لبيئته الكبرى وهي الوطن. والتحضر سمة محصلة لكثير من السمات، كما أن التحضر مقياس ومعيار يعكس مستوى التقدم والارتقاء لأي مجتمع من المجتمعات ، والتحضر لا مكان له ، فهو سلوك في العمل ، وفي الشارع ، وفي البيت ، كما أنه سلوك في العلاقات الاجتماعية ، والاقتصادية على المستوى العام ، وأيضاً سلوك في التصرفات في اللغة ، وفي الحوار.
والسلوك الحضاري لا يقتصر على الأفراد، بل يتصل بالسلوك الجماعي لمجتمع من الأفراد ، أو وطن من الأوطان ، والسلوك الحضاري للأفراد والسلوك الحضاري للمجتمع كله سلوك متبادل ، فالوطن المتحضر نتاج لشعب متحضر ، كما أن الفرد المتحضر هو نتاج جهود لوطن متحضر ، والانتماء والتحضر في علاقة ترابط قوية ، ففقد الانتماء يقود إلى تصرفات فاقدة للسلوكيات الحضارية ، والعكس صحيح. والانتماء والتحضر أساسيان للتنمية الاقتصادية ، فلا يمكن القفز بمعدلات تنمية قياسية بعناصر إنتاج من أفراد انتماؤهم أو تحضرهم ضعيف ، أو من عناصر لا تملك منظومة مشتركة من الحقوق والواجبات تحكم العلاقات بينهم.
هـ . جغرافيا وتاريخ ووطن مشترك:
فهي أساسية في وضع الهوية، يقول أفلاطون: إن الهوية للكائنات هي ما يبقى كما هو رغم كل المتغيرات… هذه القدرة على البقاء فوق حواجز الزمن، وترهلات المكان، وعواقب الأيام هي التي تمنح التشابه قوة وجودية، فالأرض هي وسيلة للاتصال بين الأفراد وبين الجماعات لتكوين مجتمع ، ولتحقيق التعاون والاتصال. ويعود بنا الحديث عن المكان والمجال الجغرافي إلى تعريف الدولة ومكوناتها: الشعب، الإقليم ، السلطة ، الحد الأدنى من الثقافة المشتركة الملائمة لإقامة حياة مشتركة. ونجد التشابك الكبير والتفاعل المطلق بين كل من الدولة والهوية والتاريخ والجغرافيا بالروابط الوثيقة بينهم، فوجود هذه العوامل مرتبط بالآخر في الأوضاع المستقرة ، فإذا تقطعت هنا تحدث المشاكل ، وتكمن أزمة الهوية، وينعكس ذلك على مفهوم المواطنة.
يرتبط مفهوم الثقافة بمجتمع معيَّن ومحدد الهوية، في حين أن مصطلح «حضارة» يُستخدم ليشير إلى مجموعات أكثر اتساعاً ، وأكثر شمولاً في الزمان والمكان
و ـ العامل الثقافي في الهوية:
الثقافة كلمة عريقة في اللغة العربية أصلاً، فهي تعني صقل النفس والمنطق والفطانة ، وفي القاموس المحيط: ثقف ثقفاً وثقافة: صار حاذقاً خفيفاً فطناً، وثقفه تثقيفاً: سوَّاه، وهي تعنى بتثقيف الإنسان وتسويته فكراً ووجداناً، وتقويمه سلوكاً ومعاملة ، واستعملت الثقافة في العصر الحديث للدلالة على الرقيّ الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات ، والثقافة ليست مجموعة من الأفكار فحسب ، ولكنها نظرية في السلوك بما يرسم طريق الحياة إجمالاً ، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي يتطبع عليه شعبٌ من الشعوب ، وهي الوجوه المميزة لمقومات الأمة التي تتميز بها عن غيرها من الجماعات ، بما تقوم به من العقائد ، والقيم ، واللغة ، والمبادئ ، والسلوك، والعادات ، والقوانين ، والتجارب.
ويرتبط مفهوم الثقافة بمجتمع معيَّن ومحدد الهوية، في حين أن مصطلح «حضارة» يُستخدم ليشير إلى مجموعات أكثر اتساعاً ، وأكثر شمولاً في الزمان والمكان ، كما يُستخدم مصطلح «حضارة» للدلالة على المجتمعات التي بلغت درجة عالية من التطور ، وتتصف بالتقدم العلمي والتقني والتنظيم المدني والاجتماعي.
ز ـ العامل الديني في الهوية:
فالدين هو أحد مكونات الثقافة، والدين الإسلامي ساهم في الهوية الإسـلامية التي تقـوم على أربعـة أسـس وعنـاصر: «العقيـدة، التـاريـخ ، اللغة، الأرض». وتجمعت هذه العناصر الأربعة في الأمَّة بمجموعها عن الهويـة الإسـلامية، وقد تضيـع هـذه الهويـة إن ضـاع الفرد عن دينه ؛ لذلك قال تعالى: َ {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ*} وقال جل علا: ُ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وخيرية هذه الأمَّة نابعة من استقلاليتها التشريعية، والعقائدية ، والسلوكية، عن غيرها من الأمم الأخرى ، وهنالك متربصون بهويتنا الإسلامية وأمتنا ، كما قال تعالى: َ {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ*}
إن مفهوم الهوية يشير إلى ما يكون به الشيء هو هو، أي: من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتمييزه عن غيره، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري. فالهوية ملازمة للمواطنة؛ لأن المواطنين يحتاجون إلى نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، وقوانين تحكم هذه العلاقة ، وتبني هذه العلاقة على اتجاهات وقيم ومعتقدات وعادت وتقاليد وموروث ديني واجتماعي يطلق عليه الهوية ، وعلى ذلك يمكن القول: إن الهوية هي مجموع من الخصائص والسمات المعينة تتميز بها أمة عن أخرى ، ومجتمع عن مجتمع اخر ، وفرد عن اخر ، والهوية يمكن أن تكون ثابتة حسب محافظة الأمة عليها ، وتتحول حسب تحول الواقع.
-------------------------------------------------------------------------------------
المراجع:
1. عبير بسيوني رضوان، أزمة الهوية، ص (84).
2. علي الصلابي، المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة، ص 48-56